سمة محمد حسنين هيكل الواسمة انه فارق، فكم كان عرضة لهجومات من الماركسيين واليمينيين، من العلمانيين والدينيين، ومن الإقليميين والقوميين، وفي الوقت ذاته ينتصر له ــــ وبه ــــ معاشر من كل تلك المشارب والأطياف. بمعنىً محدد، لم يكن الوفاق او السجال حوله فسطاطي الانتماء، بل عابراً للأخاديد، وتلك عندي قلادة تلاقٍ على مقدار وزنه وتأثيره.
عرفت سياسيين ومثقفين بالمئات، لكن ما استوقفني فيه بثباتٍ عنصرٌ أعتبره فيصلاً في التقييم: نهم المعرفة واتساع قاعدتها عرضاً وعمقاً. كان لا يألو جهداً في التهام آخر ما صدر، وثائقَ كانت (وفق قانون حرية المعلومات الاميركي) أم كتباً أم نشرات. بل كان يغتاظ، بتحرق المجتهد، إنْ علم بإصدارٍ عن غير طريقه كما في مرة ذكرت له كتاباً أميركياً عن علاقةٍ بين الصين والقاعدة/ طالبان (صدر أواخر ٢٠١١ وذكرته له صيف ٢٠٠٢).
الخلافيةُ حوله نشأت من علاقته الفريدة بجمال عبدالناصر، بكل ما في حمولتها من رسائل مستقبل وصدامات حاضر وخروجٍ على الماضي، ومن كونه المعبّر والمحاور والمستشار والقناة، وبرغم كونه ــــ بطبائع الأشياء ــــ ليس من صناع القرار.
يختصه، مثلاً والى ان تقوم الساعة، آلِ سعود بنفورٍ رهابيٍ يكاد يعدُل ما يحتفظون به لعبدالناصر، وإن نافسه على تلك المكانة، بعض الشيء، عبدالحميد السراج ثم سامي شرف.
تجد فصائل البعث، في المقابل، وهي جيلاً إثر جيل تدمن بثّ مرّ اللواعج من بأس قلمه عليهم في أوقاتٍ خلت، وكأني بـ "إني أعترض" ثاوٍ في ذاكرتهم الجمعية الى يوم الدين.
هيكل راسخ الإيمان بنهج عبدالناصر: الاشتراكية والوحدة العربية

نمضي الى الشيوعيين فنتذكر كم كان سوريوهم ولبنانيوهم شديدي النكير عليه بإتهام العمالة لوكالة المخابرات المركزية الأميركية، فيما سبقهم معظم أقرانهم المصريين الى تقريظه والإطراء عليه وطنياً صميماً وتقدمياً عالي الكعب ، سيما وهو من أنشأ لهم منبرهم الرفيع: مجلة الطليعة، مطلع ٦٥، ليكون منصتهم كرهبان للثورة وحسب.
كان لهيكل اجتهاده في النهج الناصري، اجتهاد مردّه مركزية الثقافة الغربية في تفكيره... حالٌ لم يتفرد به، بل كان ولا زال سارياً بين النخب في سرٍ أو علن.
تجده ربيع ٦٤ وهو ينادي بملكية الدولة للأراضي المستصلحة، بدلاً من توزيعها على فلاحين، وفي الوقت ذاته يتعاطف مع الأخوين أمين في استرابتهم من تغليب ماركسيين عليهم في دارهم "أخبار اليوم"، وفي الصدارة منهم رئيسها الجديد خالد محي الدين. أو تجده مبشراً بصيغة "تحالف قوى الشعب العاملة" كإطار سياسي للثورة، ثم يتصدى بلا هوادة لقيادة الاتحاد الاشتراكي النشطة، ممثلة بالسيد علي صبري، تحت بند ان تنظيمه وصيٌ على الرأي وحريته بما يلامس الجدانوفية.
والثابت ان هيكل راسخ الإيمان بقسمات نهج عبدالناصر الرئيسة، ومنها: التطبيق العربي للاشتراكية، وعروبة مصر، وقضية الوحدة العربية، ومركزية الصداقة العربية ــــ السوفياتية. لكنه كان أيضاً هياباً من صدام مباشر أو سافر مع الولايات المتحدة مبعثه مقاصد سياستها المنافية للمصالح العربية العامة.
التبس ذلك على السوفيات حيناً وخلطوا أحياناً بين ذلك التهيب وبين أنه تناءٍ عنهم، ولم يكن.
في ممارسته للحياة تجده سبيكةً من لوردٍ إنجليزي وعاشقُ عربية وفكرٍ غربي ــــ بليبراليته واشتراكيته ــــ وتقديسٍ للعمل العقلي (شرح لي مرة بإسهاب كيف ان قيمته تُحفظ بمكافئه المادي، وإلا أضحى بضاعةً مرميةً على قارعة الطريق) واقتناعٍ بقائده ومشروعه دون تماه... لكن نقطة مركزية حكمت تعاطيه السياسة هي النأي عن عداء حاكمٍ طالحٍ، كما رأيه في العقود الثلاثة لحسني مبارك، بتعلّة قدْر المقام، وكم هي شائعة في المحروسة.
تعزز فهمي وتفهمي لهيكل بفضل حوارات مع أميركيين تعاملوا معه، وفي الرأس منهم ريتشارد باركر، الذي رسم لي صورة عن كيف مارس هيكل دور قناةٍ فاعلةٍ بينهم وبين عبدالناصر، ولثمانية عشر عاماً، فيها ما فيها من تبيانٍ لصلابته وتبيينٍ لأين هو صميم ولائه: لمصر عبدالناصر وللعرب، لا لأحد سواهم.
وبالمناسبة، فباركر، الذي كان قائماً بالأعمال في القاهرة أعوام 65 ــــ 67، وفي جوابه عن سؤالٍ لي حول حكاية مصطفى أمين لم يكتف بتأكيد عمالته لوكالة المخابرات المركزية (فعلها بترددٍ في البداية ثم لم يقوَعلى طعج اللسان فأفاض) بل واستعمله أداة قياس في تبيين الفرق عن هيكل: نقطة لمنِ الولاء.
خليط من عوالم، كل واحد منها يحتاج سِفراً وغوصاً... برسم المستقبل

لما ذكرت له لقائي 2007 مع باركر انفرجت أساريره عن ابتسامة رضا وأكمل: "يعتب عليّ كثيرون كوني كثير الحساب لأميركا وقدرتها، بل وخوّنني كثرٌ عندما كتبت عن تجنب صدام الثيران معها (صيف 67) وتحييد أمير كا (ربيع 71)، ناهيك بتحية الى الرجال (ربيع 67) وغيرها من مقالات... أنا أسألك: أليس التحييد فعل قسر؟ أليست العربية واضحة في الفرق بين التحييد والحياد؟ أنا قصدت توجيه كل الضغوط عليها حتى تضطر لتخفيف دعمها اللامحدود لاسرائيل، لا توقّع حيادها المُحال أو الحياد نحوها... ثم هل نحن ــــ في أي وقت ــــ قادرون على مناطحة سافرة مع الثور الأميركي؟ أمِ المتاح والأمثل ــــ معاً ــــ هو الالتفاف والتطويق؟... أما عن التحية فثق أنني لم أكتبها إلا لقناعتي أن جاهزية الجيش المصري للحرب وقتها كانت غير متوفرة، وهذا سبب ــــ من أسباب ــــ دعاني الى الاصطفاف مع أنور السادات ضد "الرؤوس الحامية" بقيادة علي صبري (ولو أن نوع الحرب التي ألحوا على شنها كانت أقرب الى "استنزاف+" منها الى تحرير)".
والحال أن حواراتٍ عدةٍ حظيت بها معه كان لها كبير الأثر في استجلاء نقاطٍ وتبديد غوامضٍ وإجابة أسئلة، رغم بقاء العديد من نقاط الخلاف أتداولها معه كتابةً ومشافهة، شملت مثلاً: تبنيه الحزب المعادي للعروبة، المؤلف من توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وحسين فوزي ولويس عوض، في الأهرام ... فرط حساسيته من علي صبري ــــ منافسه الأقدر على عقل وأذن عبدالناصر ــــ وما قاد إليه ذلك من انحيازٍ لمن كان يعرف سابق مثالبه، بل وهولها، حق المعرفة: أنور السادات (هناك قطبةٌ مخفيةٌ ألمح لها لي مرةً ــــ ثم كررها بوضوح أمام صديق ــــ مفادها أن علي صبري وجماعته قريبون من موسكو بأكثر مما يجب! ولم أقتنع)
لمست أناقته الذكية في تقبل الخلاف، بل والاختلاف، معه، طالما هو مسنود بشواهد وقرائن إنْ لمْ بأدلة. بل تراه يعلن ذلك على رؤوس الأشهاد، وبودّ.
هيكل خليط من عوالم، كل واحد منها يحتاج سِفراً، والأكيد أن مقبل الأوقات سيحفل بالعميق من غوصٍ في محيطٍ من صنْعه، سمته البحث والمعرفة والثوابت، وميسمه فهمٌ قديرٌ للتاريخ والجغرافيا ومتغيرات العصر.
غيابه الاّن تحدٍ لجيلين تلَو جيله ينضاف الى تحدياتٍ مشهدية حلّت بغياب صروحٌ عن المسرح، عبر قرابة نصف القرن المنصرم، ولمّا يتمكنا بعدُ من استيلاد مكمّلين من قماشتهم، حتى وإنْ قصُرت قاماتهم عن هاماتهم، أي الأولّين... وهذا، لعمري، عارضٌ مزمنٌ لتناذرٍ اسمه: يُتْمُ أمة.