أطاح الربيع العربي ديكتاتوريات ظلّت رابضة على قلوب شعوبها أزمنة طويلة من دون أن يوفّر إمبراطوريات من نوع آخر (إعلامية) أسهمت في التستّر على جرائم أنظمة مستبدة مقابل مقابل ركوب ثورة الشعوب المضطهدة والمتاجرة بدمائها. قناة «الجزيرة» خير مثال على ذلك، رغم أنّها حصدت ثقة ومكانة خاصتين من خلال الحيوية والمرونة في التعاطي ووجودها مكان الحدث، حتى إنّ المناهج التدريسية في الجامعات السورية ذكرت أنّ المحطة القطرية كانت شوكة في حلق كبريات الفضائيات الأميركية أثناء الحرب على العراق! طبعاً، كان ذلك أيام «اللولو» وقصة الغرام بين النظامين القطري والسوري الذي تناسى أنّ القناة ترعرعت في حضن نظام يستضيف أكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط! لكن مع اندلاع شرارة الربيع العربي، قررت «الجزيرة» أن تحوّل استوديواتها إلى غرف عمليات على الهواء.

ورغم ارتباكها المبدئي عند اندلاع الانتفاضة السورية، إلا أنّها سرعان ما حسمت أمرها وركبت موجة التحريض والمبالغة في سوريا مقابل صمت فاضح لسحل قوات درع الجزيرة ثورة الشعب البحريني، وتتالت الفضائح لتطيح شعار «الرأي والرأي الآخر» عندما فضحت وثائق «ويكيليكس» حقيقة تلقّي المدير العام السابق للمحطة وضّاح خنفر التعليمات من الاستخبارات الأميركية وصياغة التغطيات بما يتناسب مع سياسة بلاد العم سام (الأخبار 10/9/2011).
الوثائق الدامغة وما أعقبها من تغطيات إعلامية أجبرت عميد «الجزيرة» على الاستقالة، لكنّه خرج ليُعلن أنّه اختار الاستقالة بنفسه. بعد ذلك، اخترق موقع المحطة الإلكتروني ونشرت مراسلات المذيعة السورية رولا إبراهيم وزميلها السابق علي هاشم التي فضحت الأجندة التي تعمل من خلالها المحطة. ثم كرّت سبحة الاستقالات وتواردت معلومات عن تخبّط يعتري جسم المحطة نتيجة افتضاح أمرها وتراجع شعبيتها (الأخبار 28/3/2012). كل ذلك بالتوازي مع نقلها سلسلة من الأخبار الكاذبة والمبالغ فيها ومضاعفة أرقام الضحايا وتحميل المسؤولية كاملة للنظام، رغم ممارسة الطرف الآخر العنف موثَّقاً، واعتماد سياسة شهود العيان المجهولين واعتبار كل الضحايا السوريين قتلى ما عدا شهيداً واحداً هو محمد الحوراني المراسل المتعاون مع «الجزيرة» الذي لقي مصرعه أثناء وجوده مع «الجيش الحر» في بصرى الحرير في درعا. بينما تحول خبر إطلاق بعض حواجز الجيش السوري النار ابتهاجاً بفوز المنتخب السوري ببطولة غرب آسيا إلى اشتباكات عنيفة في أحياء دمشق. أخيراً، تحاول المحطة القطرية حرف المسار بالتغطية الخاصة للذكرى السنوية الثانية لـ«الثورة» بعدما أوفدت مراسلتها غادة عويس إلى الأراضي التي يسيطر عليها «الجيش الحر» والمخيمات، إضافة إلى إمرارها أخباراً عن الانتقادات التي تطاول ممارسات مسلحين ينتمون إلى «الجيش الحر» ومشاركتهم للأطفال في القتال. وطبعاً، فتحت القناة هواءها لقادة جبهة «النصرة» للترويج لأنفسهم. في النهاية، مع تراجع شعبيتها في مصر وتونس، حيث اتخذت موقفاً سافراً إلى جانب الحركات الإسلامية، جاءت الأزمة السورية لتسجّل السقوط المدوّي لكبرى الفضائيات الإخبارية في الوطن العربي.