في المعمعة السوريّة يضيع الخط التحريري لبعض المحطات اللبنانيّة أحياناً، ليجد المشاهد نفسه أمام سؤال محيّر: لماذا قدّمت المحطّة هذه الوثيقة، ولماذا بثّت ذلك الفيديو؟ أهو هاجس نقل الحقيقة، أم السباق الأعمى على رفع نسبة المشاهدة، أم أجندات أخرى خفيّة يصعب تشخيصها من دون معطيات واضحة؟ أم مجرّد اعتباطيّة وضياع، في أتون الحرب البشعة الدائرة في البلد الجريح؟ تلك التساؤلات والتخمينات تنطبق على محطة lbci بامتياز حين تبث شريطاً يختزل كل وحشية الحرب في سوريا، بمزيج من الخفّة والشبق السادي والتواطؤ.
الشريط الذي عرضته القناة في نشرتها المسائية، أول من أمس، وشاهدناه مجتزأً ـــ أو منظّفاً ـــ يمثّل مجموعة مسلّحة تعذّب مقاتلاً جريحاً وقع في قبضتها. يكفي مشاهدة الأصل كاملاً كما جرى تداوله على مواقع التواصل للتثبّت من ذلك. هل قامت المحطّة بالتنظيف فيكون تدخّلها خطيراً؟ أم بثته كما وصلها بلا مقارنة وتدقيق في المصدر، وتكون سلبيّتها أكثر خطورة؟
«المؤسسة اللبنانية للإرسال» التي تشهد منذ فترة خضّات وتحوّلات في بنيتها وخطّها، حتى تهيأ لنا أنّها رست في النهاية على خط يتسع «لكل الألوان»، اختارت هنا مادة محدّدة، بين دفق الصور الآتية من أرض المجزرة. لقد بثّت، في الدقيقة الحادية عشرة في النشرة، مقطع فيديو مغفل المصدر، التقطته على الأرجح كاميرا هاوية قريبة من مسرح الجريمة، بل شريكة فيها بشكل من الأشكال… ما يجعل المحطة شاهدة زور على هذا العنف الذي تروّج له من دون أي تحذير، أو تدقيق، أو حتّى تشكيك في المصدر.
مَن هم هؤلاء المسلحون الذين ينكّلون بمقاتل شاب مصاب في المعركة، خارت قواه ويكاد يفقد وعيه من شدّة الألم؟ «استجواب عدد من المعارضين السوريين أسيراً لبنانياً أصيب خلال المعارك»، تقول المحطة. قبل أن يوضح ماريو عبود: «إنّ الشاب كما يبدو توفي قبل الوصول إلى المستشفى، بحسب رواية المعارضين».
في الشريط، مسلّحون يسألون الشاب المصاب، الأصفر الوجه، عن اسمه. يحرّك رأسه يميناً ويساراً، ويردّ على وقع صوت القذائف: «أحمد، من صيدا».
يسأله أحد المسلحين: «ماذا تفعل هنا؟»، فلا يردّ. مسلّح آخر: «مشان 500 دولار. إذا اشتغل زبال في بيروت بيطلّع أكثر من هيك». يعاود أحدهم السؤال: «ماذا تفعل هنا؟». الأسير المصاب يردّ: «متل ما إنت هون أنا طلعت لهون»، فيرد عليه أحد الجلادين بفخر: «نحن طالعين للجهاد في سبيل الله. إنت كرمال شو؟». مسلّح آخر يجيب نيابة عن «أحمد»: «كرمال حزب الله»، فترتسم ابتسامة ساخرة على وجه المناضل، رغم تزايد حدّة الألم. تنتقل بنا الصورة إلى خارج الغرفة. مسلّحان يحملان جثة الشهيد ملفوفاً بغطاء.
تظهر رجلاه فقط. تعود الصورة إلى الغرفة مجدداً. رداً على سؤال، يقول الأسير إنّ عمره 18 عاماً، ويضيف: «بس جبلي قنينة مي»…
في الحقيقة المقاتل الجريح شاب من حزب الله، أصيب في الغوطة الشرقيّة ووقع بين أيدي إحدى الجماعات التكفيريّة، وهو يتعرّض أمامنا لـ«استجواب» من نوع خاص، قوامه الإهانات والإساءات الجسديّة والمعنويّة، (قصّت المحطّة أو المتبرّع بالشريط، الكثير من الإساءات التي نجدها في النسخة الكاملة)، قبل أن يستشهد على أيدي جلاديه بأبشع الطرق وأكثرها وحشيّة (قطع الرأس). كان يكفي لهيئة تحرير النشرة المسائيّة في lbci أن تطلع على صور أخرى للشهيد المنكّل به مقطوع الرأس ومشوّه الجسد على مواقع التواصل الاجتماعي، مع تعليق «أحد كلاب حزب الله النصيرية».
إذا كانت مهمّة الإعلام أن ينقل الخبر والصور، فإن واجبه التدقيق في المادة التي ينشرها وفي وقع النشر على الرأي العام.
كذلك إن اختيار المادة التي يقدّمها التلفزيون لا يمكن أن يكون بريئاً، وهو هنا ليس كذلك، إذ يحوّل «شاشة الألوان» بوقاً لـ«الدولة الإسلاميّة في العراق والشام» أو «جبهة النصرة». وإلا فليشرح لنا أحد كيف اختير هذا الفيديو بالذات؟ ومن أين جاء؟ وما معنى بثّه بعد شهر تقريباً من الجريمة البربريّة؟ رفضت إدارة المحطة الإجابة عن أسئلة «الأخبار» للأسف، أمام شريط آثم يوثّق لجريمة بشعة، قدّمته المحطة التي تريد نفسها على مسافة واحدة من الجميع من دون مسافة ولا تحذير، ولا شرح دقيق لخلفيّاته، ومن دون اكتراث لوقع هذا العنف على رأي عام هش في ظرف متوتّر، ومن دون أي اعتبار لأهل الشهيد الشاب الذين لم يستعيدوا جثمانه حتى اليوم.

يمكنكم متابعة رشا أبي حيدر عبر تويتر | @RachaAbiHaidar