بعدما انقشع دخان الانفجار، وبان الخراب، واتضحت الصورة، صار لضحايا تفجير الأشرفية المدنيين على الفايسبوك، وجه واسم اختُزلوا في صورة واحدة بموازاة صورة اللواء وسام الحسن ومرافقه. هكذا سارعت مواقع التواصل الاجتماعي إلى التعويض عن تقصير التلفزيونات، ثم صحافة اليوم التالي للتفجير (بما في ذلك «الأخبار»). كان هناك غائب كبير، هو الضحيّة الثالثة للتفجير، تأخّر اكتشافها. عرفناها من خلال مبادرات الناشطين والمواطنين العاديين وفي بروفايلاتهم. هنا في هذا العالم الموازي، ظهر اسم جورجيت سركسيان. معدَّة القهوة في بنك Bemo المجاور، امرأة أربعينية وأم لثلاثة أولاد. في اليوم المشؤوم، عند الساعة المعهودة، خلعت كالعادة مريول النادلة، لبست فستان الأم، وهرعت إلى منزلها كي تُسخن الطعام للأولاد. كانت استراحة الظهر، بعدما خفّ ضغط العمل على الأرجح. دوّى انفجار كبير، فلم يبقَ من حكايتها سوى أشلاء حاول سكّان كوكب الفايسبوك لملمتها. صار كل معلّق يأتي بتفصيل جديد، فاكتملت عناصر الحكاية.
عبرت جورجيت مستنقعات المذاهب والطوائف والانقسامات، لتختزل مأساة كل مواطن لبناني يركض وراء لقمة العيش، لكنّه لا يصل. دائماً تنتصب في طريقه، وتحول دون وصوله، عقبات جديدة. هذه المرة كانت عقبة كبيرة لا يمكن تجاوزها. عقبة فظيعة، انهالت على سكان ذلك الحي كاللعنة التي يخشونها كل صباح، ويتناسونها بين فاجعتين، قبل أن تطلّ من جديد. كل ذلك سمعناه بأشكال شتّى، ورأيناه بوضوح في مرآة الفايسبوك. كثيرون اتخذوا من «أجمل الأمّهات» صورةً لبروفايلاتهم. من كان يظنّ أنّ عاملة الـBemo، ستغزو العالم هكذا في لمح البصر؟ صارت عنواناً للفاجعة في المقلب الآخر (الافتراضي) من مسرح الجريمة. تعليقات الفايسبوك ــ هذه الأغورا الحديثة ــ عكست تماهي الرأي العام مع الضحيّة. صارت الشهيدة الأولى والأساسيّة، لأنّها من خارج الصراعات، ومن خارج السياسة: أمّ تعمل لإطعام أولادها. عينا جورجيت تشبهان عيني الأمهات، وتجاعيدها وابتسامتها. نظرتها المعلّقة على صفحات الموقع، تصيبك كرصاصة في القلب.
الفايسبوك (ومثله تويتر وغيرهما) بات مكاناً نموذجيّاً لمعاينة المأساة، واحتضان ردود الفعل: تساؤلات وتعبير عن الأسى... اتهامات ومحاكمات وشتائم. هنا تلاطمت كل أشكال التحليل والتأويل والتفسير في خلفيات تفجير الأشرفية، وأبعاده، وما وراءه، وما بعده... عالم مواز للمشهد التلفزيوني والفضائي... مع فارق بسيط مرتبط بطبيعة هذا الميديا الجديد: الفضاء الافتراضي ليس كالأثير حكراً على أصحاب الصفة، من اعلاميين وخبراء وسياسيين، وسائر أنبياء الفتنة المعتمدين، بل هو مفتوح للجميع، طوال الوقت. والكل له المكان نفسه، والشرعيّة نفسها، والحيّز نفسه، لمواكبة الفاجعة والتعقيب عليها، ولو أعاد هؤلاء تشكيل المشهد المنقسم والمتوتّر نفسه في النهاية.
لماذا لا يكون الفايسبوك سوى صدى انقساماتنا؟ مرآة تعكس عصبيتنا «الخام» قبل أن تشذَّب وتهذَّب؟ «وسام الحسن في ذمة ميشال سماحة وبثينة شعبان». «بدي افهم ليه كل اللي بيعارض سوريا، بتغتاله اسرائيل»... تعليقات وصور تحمّل النظام السوري ومواليه في لبنان مسؤولية استشهاد الحسن... التعليقات الأكثر تعبيراً عن العصبية العمياء، جاءت رداً على الأخبار التي تنشرها الفضائيات العربية عبر صفحاتها الرسمية على الفايسبوك، من «الميادين» إلى LBCI. تحت خبر «لبنان: دار الفتوى تعلن الحداد ثلاثة أيام على الحسن»، مثلاً، كتب أحد المعلّقين: «ليه مين مات؟». لعلّ هذا التعليق هو الألطف وسط سيل العصبيّة الجارف في الخندقين على السواء.
وحدها جورجيت حاولت أن تعبر خطوط التماس الإلكترونيّة. على هامش هذه الحرب الأهليّة الافتراضيّة وصور الملثّمين التي انتشرت على الصفحات، كانت تحاول أن تعيد بعض التوازن، والهدوء، والانسانيّة، والتعاضد، إلى المواقع الاجتماعيّة. أطلق دعوات لمشاركة شعبية واسعة في جنازتها، وكانت صورتها تتوسّل الهدوء والصمت والتعقّل... كأننا بامرأة الـ«بيمو» تحاول أن تفتح أعيننا على حقيقة منسيّة: الضحيّة في النهاية، نحن. نحن جميعاً، من دون تمييز. نعم، كلّنا جورجيت سركسيان في بلد الجنون والعبث!