على الغلاف | الولايات المتحدة الأميركية تعاقب «ويكيليكس»... و«ويكيليكس» تستنجد بنا. هي حرب معلنة، غير متوازنة القوى بين دولة كبرى ومؤسسة غير حكومية لا تبغي الربح. فهل يلتفّ العالم حول من يتحدّى الأنظمة التي تتحكم بحياتنا، أم تُترك الساحة «آمنة» من جديد لمن يتلاعب بمصائر الشعوب في الخفاء؟ نداء أخير أطلقته «ويكيليكس» أول من أمس على لسان مؤسسها جوليان أسانج، معلنة وقف نشر آلاف الوثائق الجديدة بغية التركيز على حلّ الأزمتة التي سببتها مقاطعة معظم شركات تحويل الأموال، إضافة إلى «بنك أوف أميركا».

«القضية أكبر من «ويكيليكس». هي قضية سيادة»، هكذا يصف أسانج المعركة الحالية. «سنقاتل»، كلمة كرّرها مؤسس موقع «ويكيليكس» مرّات عديدة، خلال حديثنا الهاتفي معه أمس: «سنقاتل ضد الرقابة»، «سنقاتل لحماية حق الشعوب بالمعرفة»، «سنقاتل من أجل وسائل إعلام غير منحازة تنقل حقيقة ما يجري داخل المؤسسات والأنظمة». «المقاتل» الشاب حدد جبهات المعركة أيضاً: «سنكون على الجبهة السياسية، الجبهة التقنية، والجبهة القانونية والمالية لحماية كل ما نصبو إليه».
معركة الرجل الذي أزعج الأنظمة الكبرى، غير بعيدة عن العالم العربي الذي تأثرت أحداثه بالحقائق التي نشرتها «ويكيليكس» خلال العام الحالي. لذا، يشرح أسانج أنه «مع كل المتغيرات التي تحدث في العالم العربي، الوقت الآن ليس للراحة بل للسعي إلى إحلال أنظمة ديموقراطية بشكلها الكامل. ولتحقيق ذلك، يجب أن نضمن أن لا يكون هناك أي رابط مع الأنظمة القديمة». أسانج يسمّي مصر كـ«مثال حيث المعركة مستمرة لتحقيق ما يطمح إليه الشعب». ويضيف: «يجب أن تحرص الشعوب العربية على القتال لنيل ديموقراطيات جديدة ولانتزاع حق المواطنين بالتواصل في ما بينهم على نحو سليم وحرّ».
وبالعودة إلى «معركة السيادة» كما سمّاها، يسأل أسانج: «هل من الصواب مثلاً، أن يكون حاملو بطاقات «فيزا كارد» في لبنان تحت سيطرة واشنطن، رغم أن حساباتهم المصرفية مودعة في مصارف لبنانية؟». هو أمر غير منطقي، لكنه الواقع. والدليل أن لا أحد يستطيع تحويل الأموال من بطاقته المصرفية إلى حساب «ويكيليكس»؛ لأن واشنطن أصدرت أمراً بالمقاطعة! «يجب على العالم أن يرى أن تلك البطاقات المالية هي أدوات بيد السلطة في واشنطن» يقول أسانج، مستخلصاً: «هذا كله في خدمة النظام السياسي الفاسد. هي مؤامرة بكل معنى الكلمة».
ماذا عن الحملة التي أطلقتها «ويكيليكس» أمس لجمع التبرعات؟ هل ستوقفون عملكم فعلاً إذا لم تتوافر المبالغ المطلوبة؟ يجيب أسانج: «كل نشاط نقوم به يحتاج إلى تمويل. كنا محظوظين فعلاً بوجود عدد من الممولين الذي دعمونا طوال هذه الفترة. لكن ما زالت لدينا مشكلة مادية. ونحن واثقون من أن ممولينا سيكرّسون جهودهم معنا، للقضاء على المقاطعة المصرفية التي فرضت علينا». رجل المفاجآت يعد بإطلاق «تقنيات جديدة ستسهل العمل لجيل جديد من وسائل الكشف عن فساد الأنظمة الحاكمة، وسيعلنها في 28 تشرين الثاني المقبل».

سياسة ليّ الذراع

هو اعتراف علني، لمن لا يزال يشكّك بعمل «ويكيليكس»، بأن كل ما نشره الموقع من وثائق دبلوماسية تابعة للخارجية الأميركية من عواصم العالم كلها، هي صحيحة. الولايات المتحدة لم تردّ رسمياً على الفضائح الكارثية التي طالتها بعد الكشف عن خبايا تقاريرها الدبلوماسية، لكنها قررت معاقبة «الواشي» فشنّت حرباً سياسية ـــــ مالية شرسة عليه أدّت إلى خنقه. هي تريد محوه من الوجود، لأن قضية «ويكيليكس» تجسّد وجه الصراع المباشر بين من يحيا من خلال السيطرة على البشر (مواطنين أو عمّالاً أو موظفين...) ومن يريد التحرر من ذلك.
عمر «ويكيليكس» ليس من عمر «فضيحة الوثائق الدبلوماسية»، لا بل أقدم من ذلك. لكن الولايات المتحدة لم تتحرّك قبل كانون الأول 2010. فقيام «ويكيليكس» في نيسان 2010 بعرض شريط فيديو تابع للجيش الأميركي يكشف استهداف مروحية أميركية لمدنيين عراقيين وقتلهم، لم يغضب الإدارة الأميركية، التي تعرف أن أحداً لا يجرؤ أو يستطيع محاسبتها على فعلتها تلك. لكن العفاريت كلها استيقظت عندما قرر أحدهم فتح «صندوق العجائب» الخاص بالسياسات الأميركية الخارجية وتعريتها أمام الحلفاء والأعداء والحكّام والشعوب...
سياسة ليّ الذراع بدأت سياسياً بعد يومين من بدء نشر الوثائق الدبلوماسية السرية في خمس صحف عالمية. حينها هددت الولايات المتحدة بملاحقة الموقع والمسؤولين عنه بتهمة «خرق قوانين التجسس». ثم تولى بعض السياسيين الجمهوريين عملية الهجوم على أسانج شخصياً والمطالبة بقتله: الجمهوري مايك هوكابي قال علناً إنه «يجب إعدام جوليان أسانج»، والمرشحة السابقة لرئاسة الجمهورية ساره بالين دعت إلى «مطاردته حتى النهاية».
ثم بدأت الحرب تتخذ طابعاً ميدانيّاً مباشراً: في الأول من كانون الأول 2010 طلب جو ليبرمان، رئيس لجنة الأمن القومي في الكونغرس الأميركي من موقع «أمازون» وقف استضافة موقع «ويكيليكس»، فلبّي طلبه. وبعد يومين أعلنت شركة التحويل المالي عبر الإنترنت «باي بال» أنها أوقفت الحسابات الخاصة بالهبات الموجهة إلى «ويكيليكس»، تبعتها شركتا «ماستر كارد» و «فيزا» ثم «بنك أوف أميركا» و «ويسترن يونيون»... ولم تقتصر المقاطعة على المجال المالي الأميركي فقط، بل امتدت لتشمل أوروبا أيضاً. وفي نهاية شهر كانون الأول سحبت شركة «آبل» خدمة «ويكيليكس» من أجهزتها بعد أربعة أيام على إطلاقها، وكان من المقرر أن تحصل «ويكيليكس» على نصف الأرباح التي ستجنيها «آبل» من تلك الخدمة المدفوعة. وعلى صعيد آخر، يقول المسؤولون في «ويكيليكس» إن مواقعهم تتعرض باستمرار للخرق من جهات أمنية واستخبارية، ما يضطرهم إلى ابتكار وسائل حماية متطورة جداً كل مرة.
«ويكيليكس» تعيش الآن على 5% من التمويل، وهي لا تكفي لنهاية العام الجاري. لذا، أوقف الموقع نشر أي جديد، وفي حوزته الكثير الكثير كما يقول. وأطلقت المؤسسة حملة «ويكيليكس بحاجة إليكم» للراغبين في التبرع حول العالم بغية إنقاذ المشروع والتصدي لحرب سياسية ـــــ مالية فرضت على المؤسسة «لحرمان المواطنين معرفة ما تخبّئ أنظمتهم ومؤسساتهم عنهم» يقول أسانج في شريط الحملة الإعلاني.