«هل سأخرج من باحة الدار؟وكيف ستنزلوني من الطابق الثالث؟
فالمصعد لا يسع التابوت والدرج ضيق
ربما كانت الشمس تغمر الباحة
والحمام، فيها، كثير
وربما كان الثلج يتساقط
والأطفال يهللون
وقد يكون المطر مدراراً
على الأسفلت المبلل
وفي باحة الدار
صناديق القمامة
كما كل يوم
وإذا ما حُمّل جثماني، حسب العادة،
مكشوف الوجه فوق شاحنة
فقد يسقط عليَّ شيء من الحمام الطائر
فيكون ذلك بشارة خير».


فكّر الشاعر ناظم حكمت بجنازته قبل أن يموت. فكّر بصعوبة إنزال تابوته من المنزل. فكّر في كل شيء. ولكن، كمال حرب ـ مجهّز الموتى ـ لا يخشى شيئاً من كل هذا. لا يفكّر لا بدرج ضيق ولا بتساقط المطر. فهذا الرجل الذي ورث العمل في تنظيم الجنائز عن والده، لا يعوقه شيء.

لكنه، في مكان ما، يعيش حزناً دفيناً. تراه يكلمك بصوت خفيض. يتعب هذا الرجل من السرد الممل ويميل في أغلب الأحيان للكلام القليل. هو شبه ميت. تدور السبحة في يده وفي كفه الذي يشي بحركة متثاقلة أن كل شيء زائل.
يذكّر هذا بأنطونيوس بلوك، الفارس في فيلم «الختم السابع» للمخرج السويدي برغمان. فعندما أراد أن يلعب مع «ملاك الموت» لعبة الشطرنج. خيّر الفارس الموت بين لوني الأحجار الأبيض والأسود بعد أن أخفاهما بكفيه، فاختار «الموت» الأسود لوناً له. ابتسما ورأى الموت أن اللون الأسود أكثر ما يناسبه. وهنا، يلعب حرب الشطرنج مع الموت ـ كما في الفيلم ـ كل يوم. وينعكس هذا اللعب على حياته مع عائلته، فهو صامت معظم الوقت، على عكس زوجته ليلى التي تحدّثك بروح تجتذب الفرح. تلمس في صوتها مرحاً جميلاً. لا تغفل عن تدليل زوجها وإثارة النكات والضحك في أحاديثها له. تعلم أن عمله، كمعدٍ للجنازات، ليس سهلاً وما يمارسه يومياً، رغم عدم احتكاكه المباشر بالميت كتغسيله أو دفنه، له وقع يناقض ما يقوم به دكتور يُخرج طفلاً إلى الحياة من رحم أمه. تذكر ليلى قصة تعارفهما وتضحك. كانا يقطنان في الحي نفسه وكان صديق شقيقها، فعرض عليها مرة إيصالها إلى مدرستها. لم تكن تلك سوى البداية. قال لها يومها إنه في مهمة لإيصال جثة فسألها أن ترافقه. طبعاً، هو لم يخبرها بأن جثة تركن في الخلف لأنها لو علمت لما وافقت أساساَ. خافت كثيراً عندما صرّح لها، لكنها اعتادت الفكرة فيما بعد.
اليوم توسّعت أعمال حرب. صار يشغل، في منطقة المصيطبة، أربعة محال متراصّة. تصطف على الرصيف ثلاث سيارات مجهّزة لنقل الجنازات، فيما تركن في إحدى المحال سيارات من أنواع مختلفة كالمرسيدس والشيفروليه وغيرها مما قد يطلبه الزبائن. يُخرج عاملان تابوتاً خشبياً بني اللون مشغولاً بعناية ويتركان في المحل توابيت قيد الصنع. يثبتونه في خلفية السيارة المخصصة له حيث وضع إلى جانبه أكاليل ورد أبيض.
كان يخبر حرب زوجته بحوادث الأموات الذي يتكفل بتجهيزهم. أحياناً تطلب منه ألا يكمل القصة، فقلبها لا يتحمل قصة شاب يافع توفي في حادث سير مروّع. تكتفي بالقصص «البوليسية»، إن جاز التعبير، كما حدث يوماً معه، حين ‫قصدته زوجة أصبحت أرملة لتنظيم مراسم دفن زوجها. جهّز الجنازة بما تتطلبه من تغسيل الميّت وتصميم التابوت الخاص به وإعداد موكب السيارات والورود اللائقة للمناسبة. أثناء الجنازة لم تكف عن النعي والحسرة على «رفيق عمرها». لم يقتنع كمال حرب بـ«مشاعر» الحزن التي أبدتها. شعر أنها تخفي أمراً ما وبعد فترة علم أن المرأة قد أوقفت بتهمة تحريض عشيقها على قتل زوجها.
اكتسب ذلك الحدس بحكم خبرته التي تزيد عن 35 سنة في المهنة. إذ بدأ الرجل الخمسيني مهنته منذ كان في السابعة عشرة من عمره. عمل في الفترة الأولى كسائق يوصل التوابيت إلى مكان الدفن. وعندما خبرها أكثر، صار والده يوكل إليه بـ»التوصيلات» البعيدة، فكان يذهب إلى الجنوب والشمال وإلى سوريا في فترات لم يكن الوضع الأمني فيها مستقراً كالحرب الأهلية.
‫يتفق حرب مع «أصحاب العزاء» على ترتيبات الدفن في مكتبه الذي يعلو فيه ترتيل القرآن من المسجلة، ربما لإضافة جو «جنائزي» من دون إصغائهم لما يعيد ويرتل محمد المنشاوي أو الشيخ عبد الباسط عبد الصمد... يهتمون بالمظاهر خصوصاً إذا ما كان المتوفى ذو منصب رفيع كأن يكون نائباً أو قاضياً أو رجل أعمال... يتكلفون ما بين 200 دولار أميركي و1300 دولار، تبعاً لما يطلبونه، باختصار «شعب يحب المظاهر ويغارون من بعضهم»، يقول حرب. أما الميت، فينسى بعد الدفن.
اعتاد حرب على مهنته التي لا تعرف أيام العطل أو التزام مواعيد. يمضي وقته خارج العمل عند رفاقه أو يقصد البحر. يضحك من حادثة ليست بعيدة «تسلمنا جثة امرأة من مستشفى بيروت الحكومي، ونحن في طريقنا لإيصالها رن الهاتف ليخبرنا الممرض أنه علينا العودة لأنه سلّمنا جثة امرأة أخرى». يحمل حرب الحياة بخفتها. ربما، يأخذ بقول بوكوفسكي واصفاً الموتى والموت «ليس الآن سوى شيءٍ تحت وهم خفيف الوطأة».
خفة الحياة كما خفة الموت هي سمة مشتركة للعاملين فيه. فالميت توفي. انتهى كل شيء يتعلق فيه وبه. لن يستيقظ في اليوم التالي بطبيعة الحال ليتوجه لعمله أو ليمارس حياته. وكل ميّت يخبر دافنه أو مجهّزه أن الحياة وما فيها ومن فيها لا طائل منه ولا نفع. «ما يساويه ابن آدم في النهاية حفرة ضيّقة بطول مترين وعرض متر واحد، دموع غزيرة أو شحيحة، ليس مهماً، والكثير من النسيان»، يقول.
من جهته، يحدّثك محمد العيتاوي، حفّار القبور منذ أكثر من 25 سنة، عن عمله وهو جالس على درّاجته النارية المستنفرة دائماً. لا يحمل منجلاً ولا يرتدي رداء أسود ولا يخبئ وجهه تحت قبعة طويلة. يعمل في المقبرة حيث «يهندس» القبور في المساحات المتبقية منها. يبحث عن مكان لنزيل جديد بين الموتى، ينبشه وينظف حوله ويجهزه لصاحبه وينتظر وصوله. هنا، يخضع الميت لمشيئة الحفّار الذي يملك الحق وحده في التخطيط لمصيره النهائي. أصبحت الجنازات ومراسمها من يوميات العيتاوي. وقبل أن يكون حفاراً للقبور كوالده، جرّب العمل كميكانيكي، لكن المصلحة لم تكفِه قوته. كميكانيكي سابق، كان يصلّح أعطال السيارة ويستبدل القطع غير الصالحة بأخرى جديدة. وربما كان يقوم بسرقة القطع التي لا تزال في حالة جيدة... كما يفعل سارقو الجثث للاستفادة من أعضاء الميت. كذلك يقيّم حالة السيارة إذا ما عادت تصلح للسير أو يحيلها على مقبرة من نوع آخر: كسر السيارات.
اليوم، يعود العيتاوي مساءً إلى المنزل لا ليلعب البوكر، على حد وصف بوكوفسكي للعاملين في هذا المجال، ولا ليحتسي كأس ويسكي، وإنما ليسامر أهل بيته في أوقات بعيدة من مشاغل الحياة، لأن الموت لا ميعاد له ولا نبأ.