لو كان بإمكاننا التكلم عن أدب العكاكرة، سينما العكاكرة ومسرح العكاكرة، لما كنت بصدد كتابة هذه المقالة الآن. الكتاب والأدباء اللبنانيون، القليلون الذين يؤتى على ذكرهم، يتحدرون من بيروت، جبل لبنان، طرابلس، وحتى البقاع والجنوب. لا أدّعي أني متبحر في الأدب الريفي اللبناني، وقد تكون هذه الخانة غير موجودة أصلاً، لكن أكثرية الأعمال التي قرأتها لم تكن نصوصاً مكرسة للريف وثقافاته وفكره، بقدر ما كرست لأشياء أخرى، واختزال تراثي له، بدءاً بدبس الخروب، مروراً على خوابي الزيت، وصولاً إلى الشروال ومشتقاته. مسرح الرحابنة خير دليل على ذلك.
غير أن هذه النصوص (الجديد منها والقديم)، في عمقها، ترتكز على لبنان المتصرفية - هذه الفكرة المقدسة المحاطة بهالة بلورية - كمرجع أساسي وتستمد منه زخمها الأدبي. في هذا الارتكاز، إضافة إلى واقع الأمور التاريخي، شيء من الكليشه والابتذال الأدبي. في هذه الحالة، لا مناص من ذكر كتّاب المهجر وأدبهم، خاصة النوستالجي منه.
ثمة سؤال ناشف برسم أولئك الذين «يتشدقون» بالهوية اللبنانية، ويصرّون «كل ما دق الكوز بالجرة»، على الثناء على هوية لبنان الأدبية الخاصة التي، بحسبهم، تختلف عن المحيط العربي. لا أرغب في افتعال مشكلة، أو في استفزاز أحدهم، لكني أرى أنّ من حقي وحق أي فرد آخر طرح هذا السؤال: هل لبنان الكبير، الـ۱٠٤٥۲ موجود حقاً؟ هل الهوية اللبنانية، أقله ثقافياً، منبسطة على مختلف أنحاء البلاد حقاً؟ هل هي واحدة أم أن العدد صدفة؟ هل هي واحدة أم أنها ما زالت حتى اليوم، مُختزلة، في تلك النواة التاريخية (جبل لبنان) حيث كانت دائماً؟ ولماذا نصر على «لبنانية» سعيد عقل وغيره، ما دامت هذه «اللبنانية» لا تطاول عكار؟ يمكننا إذن أن نتكلم عن الأدب البيروتي، أو عن الأدب في جبل لبنان والجرود المرتفعة المثلجة، والجنوب والمقاومة أيضاً، والضاحية قبل ولادة حزب الله، وهذه آداب تتقاسم أكثر من وجه شبه. أما العكاكرة، الهامشيون، فلا أحد يعرف عنهم شيئاً على الإطلاق. يعد من المستحيلات، على سبيل المثال، أن يذكر لكم مثقف لبناني، أو صحافي ما، اسم أديب من قرية أكروم الحدودية، وادي خالد، فنيدق والقبيات، مع أن المنطقة ليست صحراء خاوية، بل فيها الكثير من الناس والمواد الأدبية الخام. لقد انخرط بعض العكاكرة في سلك الصحافة والإعلام، وصرنا نراهم على الشاشات ونقرأهم في الصحف، وبعضهم تسلم مسؤوليات دسمة. في هذا النجاح، يا للمفارقة، تلاقٍ مع معاناة مناطق أخرى. المركزية نالت من البلد الصغير برمته، فهي تستمد استمراريتها عبر امتصاص مهارات الأطراف، أو أهل الأطرف من دون استثناء. نحن العكاريين الذين «هاجرنا» إلى بيروت في يوم من الأيام، صرنا نقول «واحَد» بدل «ويحيد»، وفي هذا التفصيل، الذي قد يبدو تافهاً للبعض، دلالة على التنميط البيروتي، الذي لم اكتشف غباءه إلا غداة هجرتي إلى المدينة. الآن، من هنا، من حيث أنا، أرى الملتحقين العكاريين بركب الإعلام والصحافة، يجتهدون، بين الحين والآخر، في تصوير عكار على أنها كغيرها من المناطق اللبنانية الريفية وأنها ليست أفغانستان أو قندهار كما يراها البعض. هذا صحيح. إنها مثل غيرها من المناطق الريفية لو قاربناها من زاوية معينة، لكنها تختلف كثيراً من زوايا أخرى، ثقافية، وفي هذا تكمن ثروتها التي نراها اليوم بحاجة إلى شركة ثقافية مستثمرة، كمثل شركات البترول، لتستثمر فيها.
قد يقول قارئ لهذه السطور إن الكاتب يهذي، فمن العبث أن نتكلم عن أدب عكاري، لأن الثقافة اللبنانية متقاربة جداً، وليس لبنان دولة بحجم روسيا أو اسكندينافيا وأوروبا لنقسم آدابه إلى أدب شمالي وآخر جنوبي وآخر عكاري. يمكن أن يكون هناك شيء من الصواب في هذا الانتقاد، لكن من المجحف بحق الوقائع أن نختزل الأدب اللبناني على هذا النحو. ففي عكار، خزان الجيش كما يقول السياسيون غير الموهوبين صراحة، أو «الصفر ستة» كما تقول النكتة البيروتية السمجة، ثمة مخزون هائل للأدب، وفرص وافرة للإنتاج الثقافي. فعلى سبيل المثال إن إحدى الوقائع المدهشة تشير إلى أنه حتى الخمسينيات كان عدد لا بأس به من الفلاحين العكاريين يلبسون العقال العربي، تماماً كما البدو. ليس في هذا أي عار، بل غنى يجب الغوص فيه. ولو كانت هدى بركات عكارية، لكتبت عن عكار، ولوجدت أنَّ هذه المحافظة فيها تنوع ثقافي، فكري، ديني، تاريخي، وتقاليدي يستحق جل الاهتمام. كانت «ملكوت هذه الأرض العكارية» لتكون بحثاً مطولاً في تاريخ المنطقة وفي تركيبتها الثقافية والبشرية التي تحوي ما هب ودب: التركمان، البدو، الفلاحين، المسيحيين، البكوات، المسلمين، الوثنيين والمشعوذين.
المصيبة هي أن العكاريين ينتظرون الدولة. هناك طباع لبنانية عامة، أينما كان، تنتظر الدولة (كأنها مخلوق مريخي) وتعتقد أن بإمكانها النهوض بالمنطقة من الحرمان. هذه حلقة مفرغة وجدل بزنطي. من أتى أولاً؟ الدجاجة أم البيضة؟ هل تقوم عكار إذا أتت الدولة إليها، أم على العكاريين الاجتهاد ليصنعوا هذه الدولة ويجروها كما جروا دوابهم شداً من الرسن عبر قرون؟ الثقافةُ والأدب حجر أساس في هذا المشروع. الحرمان عدو الجميع، لكن عكار فيها ما يكفي من العقول لتقدم نسخات مختلفة من إمير كوستوريكا وغابرييل غارثيا مركيث وبلغاكوف إلى العالم. عكار، كما أراها من مكتبي هنا، صيغة أصلية أخرى - بمعنى authentique - لمسلسل «غايم أوف ترونز» حيث تختلف الشعوب والعادات واللهجات بين قريتين تقعان على مرمى حجر. أدب العكاكرة، الذي قد يأتي اليوم - وربما بعد مئات السنين - سيكون مدخلنا، نحن العكاريين، إلى الهوية الحقيقية، التي مع غيرها من الهويات ستؤلف بلداً. من دون أدب العكاكرة، سنبقى دائماً نبحث عن هويتنا، ونسعى جاهدين لتركيبها. هذه دعوة مفتوحة للجميع.