(من سمّم ماء البحر يا ست الدنيا يا بيروت)
نزار قباني


تومئ بيدها، وكأنها «تزيح» المباني التي تسدّ أفقها. تشير إلى مكان كان، حتى وقتٍ قريب، يشبه وجه الله في اتساعه. هذا المكان، الذي كان لها حصة منه، قبل أن يصير في الذاكرة. في ما مضى، لم تكن «مدام» حرب، التي تسكن شارع كليمنصو تحتاج تلك الإيماءة لترى البحر. كان أمامها، على بعد «رمية حجر» تقول. كانت تستطيع أن تعدّ «سبع موجات» منه. أن ترى مداه اللامتناهي، كان «إلنا»، قبل أن يسجنوه خلف أبراج الإسمنت.

البحر كبير. لكنّ عينَي «مدام» حرب لم تعودا تلتقطان منه شيئاً. صار بعيداً جداً... في آخر الرأس. وربما، في وقتٍ لاحق، لن يبقى منه إلا الأثر في مدينة «السيليكون»، حيث الفضاءات ما عادت تحتمل الألفة.
في خمسينيات القرن الماضي، كانت «مدام» حرب «عروس جديدة» عندما انتقلت مع زوجها من قريتها الجنوبية للعيش في بيروت. كانت المدينة، حينها، تشبه قرية كبيرة، مع فارق أنها «مع بحر». أما الناس، فكانوا «أكثر طيبة ويشبهون شكل المدينة التي كانت أكثر ألفة ببيوتها قليلة الطبقات». هناك، «كنا أربع عائلات. نتبادل أحياناً أطباق الطعام على غرار ما كان يحصل في القرى بين الجيران».
كل هذا، كان «زمان». عندما لم تكن بيروت تحتمل معنى «الغربة»، يقول المهندس المعماري رهيف فياض. و»زمان» تعني بيروت عندما كانت مدينة أفقية، قبل أن تستحيل عمودية بعد عام 1971، مع التعديل الأول لقانون البناء. في تلك الفترة، الممتدة من خمسينيات القرن الماضي وحتى سبعينياته، كانت بيروت هي المدينة الفعلية، إذ تميزت عمارتها آنذاك بأنها «عمارة المكان»، يتابع فياض. تفاصيل بسيطة ميّزت بيروت في حينها، وهي أنها التصقت بناسها «شافت الشمس مثلاً، وعالجتها بكاسر الضوء. كما راعى المهندسون في البناء المعطيات الجغرافية والمناخية، إضافة إلى المعطيات المدنية، كأن نراعي اتجاه الريح، ومكان وجود الشجر وتأثره بالنور». إلى هذه الأشياء، تضاف الألفة بمعناها الهندسي أيضاً. أليفة بيروت، مثلاً، عندما تكون قليلة الارتفاع ومتوازية الشوارع، وفي دارها لا «تتعدّى» على ما ليس منها، والأهم من ذلك أنها لا تنسلخ عن محيطها. تحافظ على «نوع من التواصل معه»، يكمل المهندس الشاب مازن حيدر. في تلك الحقبة التي يعتبرها المهندسون «الحقبة الذهبية لعمارة الحداثة» ـ مع بعض التحفظات ـ كان «أعلى مبنى فيها لا يتعدى أربعين متراً. أمّا اليوم فأصغر مبنى يبدأ من 50 متراً». عاملٌ يؤثر بعلاقة الناس بأمكنتهم. علاقةٌ كانت الأساس هنا.
يتوسع فياض أكثر في الحديث عن المدينة التي لم تعد تشبه نفسها، فينطلق من موقعها الجغرافي بحدوده الطبيعية. ففي الأساس «هي عبارة عن رأس (على شكل مثلث) يدخل البحر من الشمال والجنوب والغرب، وهنا تكمن علاقة بيروت ببحرها». فما الذي حصل؟ يجيب فياض: «ردمنا البحر شيئاً فشيئاً، فعطلنا هذه العلاقة ما بين بيروت وبحرها وناسها». ويتابع موضّحاً: «لماذا تغص عين المريسة دائماً بالناس؟ لأنها المكان الوحيد الذي يستطيعون منه رؤية بحرهم».
كانت هذه ميزة بيروت. وثمّة ميزة أخرى، ففي الفترة الذهبية للحداثة، كانت طريقة التفكير الهندسي خاضعة لتصميم واحد، يناسب أغنياء المدينة وفقراءها. أما الترف فيها، فكان بـ»الأكسسوارات».
مع ذلك، لم يكن ثمة إبداع «محلي» في بيروت. كان هناك «حسن اقتباس». فالمدينة في خمسينياتها كانت «منقولة» عن كتاب وصلنا من مدينة نيويورك باسم «الطرد الدولي للعمارة». ويشير فياض إلى أنه «أقيم في نيويورك في عام 1932 معرض للعمارة عرض فيه كبار المعماريين، من طليعيي العمارة الحديثة، أعمالهم، وكان من نتائج هذا المعرض جمع تلك التصاميم في كاتالوغ موحد».
تحوّل الكاتالوغ كتاباً يتضمن «قواعد معمارية ويضع 5 نقاط للعمارة الحديثة تتعلق بمفهوم الشكل: أصبح البناء على أعمدة، واعتمد المسطح الحر، أي إن الهيكل الإنشائي لا يحدد التصميم، واستناداً إلى ذلك صارت الواجهة حرة، وتحرّرت النوافذ من شكلها العمودي، وانقسم البناء إلى 3 أقسام (المعيشة والأكل والنوم)».
هذا الكتاب صار هو بيروت في خمسينياتها، مع بعض «تعاليم» المدارس التي نقلها المهندسون خلال دراساتهم، منها تعاليم مدرسة باوهاوس الألمانية التي لا تزال موجودة في بيروت، ومبادئ المهندس الفرنسي السويسري لوكوربوزييه، والمدرسة الروسية، وداستجيل الهولندية. كل هذه المدارس أوجدها المهندسون في بيروت «وإن أنتجوا في تلك الفترة عمارة جيدة بمقاييس حديثة، إلا أنهم أتقنوا الاقتباس أكثر، فبرعوا في نقل عمارة الحداثة الغربية إلى لبنان». يشبّه فياض تلك العمارة بطبق الفتوش «يعني بالمعنى النظري طيب، بس بالمعنى النقي هو فتوش لا هوية واضحة له».
برغم ذلك، كانت بيروت أجمل. استمر ذلك حتى أوائل السبعينيات. لم يكن الهوس بـ»النيو» على حساب الناس، كما يحصل اليوم، منذ عام 1971، عندما صدر أول تعديل على قانون البناء، والذي يسمح بزيادة عدد الطبقات. هذا الهوس، مثلاً، يدفع البلديات المتعاقبة على بيروت إلى استثمار «الفراغات» أو ما يسمونه بالنيو «الأوبن سبيس» لهندسة شكل المدينة على غرار المدن الكبرى. واستمرّ الحال على ما هو عليه، حتى «وصلنا إلى التعديل العميق، الذي غير كلياً قانون البناء في عام 2005، ليحلّ محله قانون التجار والمضاربين والسماسرة». هكذا، اكتمل العقد، وتحوّلت بيروت «مدينة عمودية بلا خصوصية، حيث المباني متشابهة وضد البيئة والإنسان» يتابع فياض. والحل؟ يجيب فياض بـ»مقاومة العولمة، وإعادة وصل بيروت مع محيطها وموقعها الطبيعي، فما يحصل اليوم أن العمارة هنا صارت عمارة اللامكان. ليس المطلوب عمارة لكل الأمكنة، يمكن أن نحملها بالباراشوت ونضعها في دبي مثلاً». المطلوب «بيروت». وإلا، فثمة ما يمكن فعله: «هدمها، والبدء من جديد لأن تنظيمها مستحيل»، وهو ما يقوله المهندس الشاب مازن حيدر، صاحب مشروع «درابزين بيروت»، الذي يدعو هو الآخر إلى عودة العمارة لتكون «فن المكان».
بيروت لم تعد مدينة العالم. هي اليوم «مجموعة أحياء، كمثل صناديق بطبقات مظلمة ومغلقة». هي «مشهد لا مدينة». قالها أدونيس يوماً.




الحداثة لا تفرض فرضاً

بصمت، انسحب واثق أديب (1926 - 2014). لم يتنبه أحد لغياب آخر «عنقود» المعماريين الذين هندسوا بيروت في فترة الحداثة. حتى المهندسون الذين شهدوا بعض أعماله. هكذا، مرّ موته عابراً. ربما، لأنه «مارس الانسحاب منذ زمن طويل، عندما بدأ يتدنى مستوى العمارة»، يقول المهندس هاشم سركيس، الذي نعى «معلّمه» من بوسطن. في نص ذاتي كتبه على صفحته على «فايسبوك»، كتب سركيس بعضاً من حياة أديب. الأكثر تأثيراً في تلك «الخاطرة» كان شرح معمار الحداثة عن عمارة بيروت في ذلك الوقت التي كانت ترتكز على «استجواب الساكنين لمعرفة خصوصيات حياتهم المستقبلية قبل القبول بالمشاريع». كانت هذه ميزة أديب الذي يؤمن بأن «الحداثة في العمارة لا تكمن في الشكل المبسط والمجرّد من التفاصيل فحسب، بل تتطلب أن يحسّن المعماري نمط حياة سكانها، من دون أن يفرض التحديث فرضاً».




«خمسينيات»

يحتفظ المهندس المعماري رهيف فياض في ذاكرته
بأسماء معماريين رسموا «أيقونات» في بيروت في فترة الحداثة، لعل منهم واثق أديب الذي رحل قبل أسبوعين فقط، وبهيج مقدسي وأنطوان ثابت وفريد طراد وبيار نعمة وبيار خوري وجوزف فيليب كرم وهنري إده وأمين بذري، إضافة إلى أسماء مهندسين غربيين شاركوا في بيروت أيضاً، منهم كارول شاير وآدور وجوليار السويسريين. صمّم هؤلاء، بحسب فياض، أجمل المباني «التي تفهم بعمق الفكر المعماري الحديث من حيث الشكل والعلاقة مع الناس». ومن هذه المباني: مبنى كهرباء لبنان ـ بيار نعمة: المدرسة الفرنسية الحديثة/ قصر العدل ـ فريد طراد/ وزارة العدل وسرايا طرابلس ـ انطوان تابت/ بنايات «الماربل الأسود» في شارع المصارف ـ هنري اده/ بناية ستاركو والمصرف المركزي والقصر الجمهوري: آدور وجوليار/ بنايتا غوندول وفيركو وبدارو إن جاز التعبير ـ جوزف فيليب كرم/ مدرسة المقاصد ـ أمين بذري/ بناية الأسود وبناية نوفل ـ كارول شاير/ شارع المقدسي ـ بهيج مقدسي