تونس | في حضور 70 نائباً من أصل 217، صوّت مساء أول من أمس، نواب من حركتي «نداء تونس» و«مشروع تونس»، وبعض مسانديهم، على «رفض التمديد بسنة في عمل هيئة الحقيقة والكرامة»، فيما اعتبر نواب «النهضة» و«الجبهة الشعبيّة» وأطراف أخرى، أنّ جلسة التصويت «باطلة».عملياً، لم يفلح نواب البرلمان التونسيّ، على امتداد يومي السبت والاثنين (أول من أمس)، في الوصول إلى حلّ لأزمة «هيئة الحقيقة والكرامة» عبر «التوافق»، وهي العبارة السحريّة التي بُني عليها النظام الحاكم منذ آخر انتخابات عام 2014. ويبدو أنّ «الترويض المتبادل» بين حركتي «النداء» و«النهضة» آخذ في الانفلات في ظلّ اقتراب موعد الانتخابات البلديّة (مرتقبة بعد نحو شهر من الآن).
في خلال الجلستين البرلمانيتين، ارتفع مستوى السباب والتهم المتبادلة، لكن ليس في الأمر غرابة. فالسبب قد يعود إلى ضحالة الخلفيّة السياسيّة لجزء كبير من البرلمانيين: بعضهم لا سابقة له في الاهتمام بالشأن العام قبل انتخابه، ومنهم من ينحدر من مدارس سياسيّة إقصائيّة؛ وهو أمر قد يشمل أيضاً رئيسي الجمهوريّة والبرلمان، الباجي قائد السبسي ومحمد الناصر، اللذين عرفا «تحولات الديموقراطيّة» بعد سنّ الثمانين!
لعب الرجلان الدور الأهمّ في ما حصل ضمن ملف «العدالة الانتقاليّة»، إذ سعى الأوّل إلى الالتفاف على «هيئة الحقيقة والكرامة» الدستوريّة من خلال اللجوء إلى مبادرات تشريعيّة، فيما قاد الثاني الحملة البرلمانيّة في الأيام الماضية لقتل «الهيئة» باستخدام فصل خلافيّ في القانون المنظم لأعمالها.

بن سدرين: شخصية خلافية
بدأ استهداف «هيئة الحقيقة والكرامة» منذ صعود الباجي قائد السبسي، وحزبه إلى السلطة، قبل أربع سنوات. وقبل الصراع الحاليّ، بدأ الأمر بتوجيه انتقادات لرئيستها سهام بن سدرين، ثم منع «الهيئة» من الوصول إلى الأرشيف الرسمي، خاصّة أرشيف وزارة الداخليّة، وصولاً إلى تعطيل عملية ملء الشغور في مجلسها في البرلمان.
لكن «الهيئة» نفسها، قد تكون حاملة لبذور الأزمة منذ تأسيسها، كما يرى مثلاً نواب «الجبهة الشعبيّة» اليساريّة. فبن سدرين، تُعَدّ شخصيّة خلافيّة، أولاً بسبب ضغائن بين المعارضين زمن بن علي، وثانياً بسبب تقرّبها من «النهضة» في الفترة السابقة لانتخابها عام 2014. أما الأسباب الرئيسة، فتعود إلى عدد من الإجراءات التي اتخذتها بعد انتخابها: مثلاً، انسحب تدريجاً عدد من أعضاء مجلس الهيئة «احتجاجاً على التفرّد بأخذ القرار»، ورفضت إرجاع عضو كانت قد طردته، رغم قرار من المحكمة الإداريّة لمصلحته.
أيضاً، لعلّ السبب المباشر وراء الأزمة الحالية هو في بثّ «هيئتها» لمجموعة من «الشهادات العلنيّة» المتلفزة، التي استهدفت السرديّة الرسميّة حول الحبيب بورقيبة، وتناولت مثلاً إمكانيّة تورطه في اغتيال مؤسس «الاتحاد العام التونسيّ للشغل» زمن الاستعمار، وهذا جزء مما عدّته «نداء تونس»، «تحريضاً على مؤسس الدولة الوطنيّة». بمعنى آخر، ما جرى مسّ أيديولوجيّة «حركة نداء تونس» في صميمها. (راجع الكادر)

«انقلاب» برلماني
يُفترض أن تنهي «هيئة الحقيقة والكرامة» عملها في شهر أيار/ ماي المقبل، لكن قرّر مجلسها، نهاية الشهر الماضي، التمديد في عملها سنة أخرى، على أن تنهي أشغالها بحلول نهاية هذا العام. حصل ذلك وفق الفصل 18 من «القانون الأساسيّ المتعلق بإرساء العدالة الانتقاليّة وتنظيمها»، الذي يقول: «حُددت مدة عمل الهيئة بأربع سنوات بداية من تاريخ تسمية أعضاء الهيئة، قابلة للتمديد مرة واحدة لمدة سنة بقرار معلّل من الهيئة يُرفع إلى المجلس المكلَّف التشريع».
ويدور الصراع القانونيّ الحاليّ أساساً على لفظ «يُرفع». ففيما تذهب حركتا «نداء تونس» و«مشروع تونس» ومن يساندهما إلى اعتبار أنّ البرلمان له الحقّ في قبول قرار التمديد أو رفضه، ترى «النهضة» و«الجبهة الشعبيّة» ومن يساندهما أنّ للبرلمان الحق فقط في مناقشة الأمر دون الفصل فيه، كما هو الحال مع بقيّة المؤسسات الإداريّة التي ترفع تقاريرها إلى السلطة التشريعيّة.
في خلال الجلستين البرلمانيتين، ارتفع مستوى السباب


هنا برز دور رئيس البرلمان «الندائيّ» محمد الناصر، إذ عوض أن يطرح الأمر على «الجلسة العامة» للتصويت على مشروعيّة الموافقة أو رفض التمديد من الأصل، طرح مباشرةً موضوع البتّ في القرار وبصيغة تُلزم الموافقين على تمديد عمل «الهيئة» بجمع أغلبيّة، وليس العكس. نتيجة ذلك، صارت «الأقليّة» (الرافضة للتمديد) هي التي تقرر، ما دفع «الغالبية» نحو مقاطعة التصويت والانسحاب من الجلسة. لكن المهزلة استمرت، إذ أُجرِي التصويت بحضور 70 نائباً، رفض 68 منهم التمديد، واحتفل بعدها النواب الحاضرون بإنجازهم، وهو إنجاز باطل بحكم القانون، لأنّ حتى «القوانين العاديّة» يستوجب تمريرها حضور ثلث أعضاء البرلمان على الأقلّ، أي 73 نائباً.
بعد التصويت آخر ليل أول من أمس، بقي البرلمان «خارج الخدمة». ففيما اعتبرت الأحزاب المعارضة أنّ ما جرى «باطل»، استمرت الأحزاب التي صوتت على القرار في الاحتفال. الأكيد حالياً، أنّ الأمر لن يمرّ على الأرجح بشكله الحاليّ، فهو إضافة إلى طابعه غير القانوني، يزيد من تعميق شرخ «التوافق» السياسيّ الذي يقوم عليه الائتلاف الحاكم منذ 2014، خاصة أنّ البرلمان كان قد فشل خلال الأسابيع الماضية في انتخاب أعضاء «المحكمة الدستوريّة».

خلافات أخرى: بن سدرين لا تهدأ
قبل مدّة، بثت أيضاً «هيئة الحقيقة والكرامة» شهادات حول ما يُعرف بـ«أحداث سليانة» عام 2012 التي استعملت خلالها قوات الأمن العنف على مستوى واسع، ما أدى إلى إصابة مئات المتظاهرين بالخرطوش. إلا أنّ كثيرين اعتبروا أنّ ما ورد، برّأ «الترويكا» الحاكمة آنذاك بزعامة «النهضة»، مما جرى.
بن سدرين لم تقف عند ذلك الحدّ، إذ إنّها أعلنت أخيراً حصول هيئتها على وثائق «تُكشف للمرّة الأولى»، وتُثبت أنّ الشركات الفرنسيّة لا تزال تتمتع بامتيازات في تونس. وإلى جانب «نداء تونس» ودائرة الأحزاب «البورقيبيّة»، اعتبرت مجموعة تتكون من 60 مؤرخاً، في رسالة، أنّ ذلك «تجنٍّ على التاريخ بصفة عامة، والسرديّة الوطنيّة بصفة خاصة»... وكانت تلك آخر جدالات «الهيئة» قبل المرور إلى الصراع البرلماني.