في تونس، لا تستبق الدولة التطورات. وفي مسألة التنظيم المديني، كانت تدخلاتها (ولا تزال إلى حدّ بعيد) تأتي «في الوقت اللاحق»: يستقر الناس في منطقة ما، يبنون بيوتاً كيفما اتفق، وعندما تبدأ ملامح حيّ بالبروز، تظهر الدولة وتبدأ عمليات «التهذيب» و«الإدماج». لهذا السبب، ولغيره، ليس سهلاً أن تكون من سكان حيّ شعبيّ في تونس، فما بالك لو كان اسمه «دوّار هيشر».الحيّ في الخطاب الإعلاميّ، وعلى غرار مختلف أشكال الوصم التي تقوم على ثنائيتين متناقضتين، هو في الوقت نفسه «بؤرة لتفريخ الإرهاب» و«مكان تزدهر فيه الجريمة»، وبذلك هو رقعة «منفلتة» تحتاج إلى «ضبط». وبما أنّ أغلب التونسيّين، والمراقبين من الخارج عامة، لم يسبق لهم أن زاروا المنطقة، أو عاشوا فيها، فقد صارت تلك الصورة سائدة.
لا يعني ذلك طبعاً أنّ الجريمة والتطرّف غريبان عن الحيّ، لكن مغزى القول إنّ حصر الحياة الاجتماعيّة لعشرات آلاف الناس بين هذين النقيضين، اختزال يخلّ بالفهم. بالتالي، يمكن لمن زار المنطقة مراراً، كما لمن أقام فيها، القول بارتياح إنّ «دوار هيشر غير موجود»، فهو صورة متخيلة أكثر من كونه حقيقة قائمة.

النشأة والتطوّر: «إطفاء الحرائق»
في بداية القرن العشرين، سطت فرنسا على ما يقارب مليون هكتار (نحو 10 آلاف كيلومتر مربع) من الأراضي التي تستغلها القبائل بصفة مشتركة، وذلك بحجّة أنّ لا مالك لها، وجعلت من أهلها عمالاً لدى الفلاحين الفرنسيّين، والأوروبيّين، الذين استجلبتهم، أو جعلتهم فلاحين من دون أرض. في حينه، بدأت موجات النزوح نحو العاصمة والمدن الكبرى بحثاً عن عمل.
أما بعد الاستقلال في منتصف الخمسينيات، فقد بدأت الدولة بوضع برامج «للقضاء على الأكواخ»، وتمّ وضع مخططات لبيع أراضٍ ومساكن منظّمة، وأوكلت المهمّة إلى عدد من المؤسسات مثل «الشركة الوطنيّة العقاريّة» و«الوكالة العقاريّة للسكنى» و«الصندوق الوطنيّ لتحسين المسكن». لكنّ ذلك لم يوقف البناء غير المنظّم، خاصة في ظل استمرار تدفّق الناس من الأرياف إلى المدن.
الصورة عن هذه الضاحية في تونس متخيّلة أكثر من كونها حقيقية


في السبعينيات، بدأ حيّ «دوار هيشر» بالبروز، وتوسّع عبر العقود اللاحقة، ولا يزال يكبر إلى اليوم. على المستوى الشعبي، يُعرف أيضاً بـ«البُدريّة»، وهي كلمة تعود إلى انفجار معمل لصنع الذخيرة في نهاية الستينيات، وهي تحريف لكلمة «poudrière» الفرنسيّة.
في فترة التأسيس، لم يكن يوجد فصل بين هذا الحيّ والأحياء المجاورة، خاصةً «حيّ التضامن». ما حصل لاحقاً يندرج عملياً في خانة توزيع الثقل الشعبيّ، والفقر والبطالة، بين محافظتي أريانة ومنوبة التي أُنشئت في مطلع الألفيّة وأُلحِق بها «دوار هيشر».
تواصلاً مع سياسة «الترقية الاقتصاديّة والاجتماعيّة»، بدأت الدولة عدداً من المشروعات. جرى استغلال أرض على الحدود الشرقيّة للحيّ، تمتد على مساحة 60 هكتاراً (0.6 كيلومتر مربع)، لإنشاء منطقة صناعيّة نهاية الثمانينيات، صارت اليوم تشغّل أكثر من 10 آلاف عامل. وإلى جانب المعامل، وفي بوابة الحيّ، جرى «زرع» فيلات وعمارات للطبقة الوسطى يسكنها أساساً موظفو الدولة (بعضها مساكن مهنيّة لعناصر من الجيش)، وهي سياسة بدأها بن علي وشملت أغلب الأحياء الشعبيّة، لمنع نشوء «بؤر فقر».

أبعد من سياسة الدولة
اليوم، يؤوي الحيّ حوالى 85 ألف ساكن، على مساحة لا تتجاوز 9.5 كيلومترات مربّعة. تحدّه من الشرق منطقة صناعيّة و«حيّ التضامن»، ومن الشمال جبّانة وسفح جبل، ومن الجنوب سكّة قطار تفصله عن مركز المحافظة، ومن الغرب أراضٍ زراعية بصدد التحوّل إلى امتداد يتوسّع فيه.
يعمل معظم سكان الحيّ في وظائف دنيا، من العمل في البناء والمعامل إلى الرتب الصغرى في الجيش والشرطة، أو في أعمال تجاريّة حرّة تتركز غالباً في المتاجر أو السوق المحليّة. تظهر الأرقام الرسميّة أنّ نسبة الأميّة لدى الشباب أقلّ من المستوى الوطنيّ (المتدني أصلاً، 4 في المئة)، أما نسبة التمدرس الجامعيّ لدى الشباب فهي مماثلة للمعدل الوطنيّ (حوالى 40 في المئة)، أما بطالة المتخرّجين الجامعيّين فهي أعلى من المعدل الوطنيّ (حوالى 20 في المئة) بعشر نقاط مئويّة.
في الحيّ مئات من المهاجرين السابقين، إلى إيطاليا أساساً، ويمكن أن تستمع بلا نهاية إلى قصص «الحراقة» ومغامراتهم في بلاد أوروبا. انضم إليهم مئات آخرون هاجروا في فترة الثورة (وصل إلى أوروبا حينها حوالى 20 ألف مهاجر تونسيّ «غير شرعي»)، بعضهم عاد خائباً وبعضهم لا يزال هناك. خرج من الحيّ أيضاً عشرات من الشبان، توجهوا إلى سوريا أو غيرها من المناطق الساخنة، أو شاركوا في عمليات إرهابيّة في تونس، بعدما ضربت موجة «السلفيّة الجهاديّة» الحيّ في السنوات الثلاث اللاحقة على سقوط نظام بن علي.
لكن من الأشياء التي لا يُحكى عنها، أنّه على بعد بضع مئات من الأمتار من المسجد الذي رفعت على صومعته «راية العقاب»، لمدة شهر أو يزيد، توجد زاوية صوفيّة تأسّست على يد شابّ حوّلته قنبلة من مخلفات الحرب العالميّة، أفقدته بصره، إلى شيخ طريقة. الفرق بين نمطي التديّن، هو أنّ «الجهاديّة» اجتذبت أساساً الفقراء من ذوي المستوى التعليميّ والثقافيّ المتدنّي، فيما تتكوّن نواة الزاوية من مريدين أثرياء، ومثقفين في حالات كثيرة، قادمين في أغلبهم من خارج الحيّ. اختلاف الجمهور المُستهدف قد يُفسّر عدم مهاجمة السلفيّين للمتصوفة أيام سطوتهم البائدة، رغم تنافرهم الفكريّ، وتعاملهم بخشونة مع «العصاة» والأمن.
تجمع شبان الحيّ علاقة متوترة بالسلطة، وخاصّة بالأمن. يروي صديق: «خلال نشأتي اعتدت رؤية الدوريات المعززة للحرس الوطنيّ تجوب الحيّ، وكان من الروتينيّ توقف سيارات الرتل أمام مقهى ما ومن ثمّ اقتياد رواده إلى المخفر من دون موجب، أو ملاحقة عناصر ملثمين ومسلحين بهراوات من أخشاب الشجر لشباب "زائدين عن الحاجة"، وترحيلهم بعد القبض عليهم لتأدية الواجب العسكريّ». انتهى كلّ ذلك اليوم، لكن، وكما تظهر دراسة ميدانيّة حديثة، قامت بها منظّمة «أنترناشيونال ألرت»، لا تزال الريبة تجاه الأمن موجودة لدى أغلب الشبان المستجوبين، وهو أمر تجسّد في حرق مخفر «الحرس» الأساسيّ في الحيّ (يوجد مخفران آخران) لما لا يقلّ عن مرتين، منذ حرقه أوّل مرة خلال أحداث الثورة.
المشكلة الكبرى، حسب ما تقول نتائج الدراسة، هي «الوصم» الذي يشعر به الشبان بسبب انتمائهم إلى الحيّ، ويرون أنّ الإعلام قد أسهم في ذلك، وهو بالتأكيد استنتاج صائب؛ فبعض «برامج الجريمة» المتلفزة مثلاً تُركِّز عملها بشكل شبه حصريّ على أحياء العاصمة الشعبيّة، وهي تجعل حالات فرديّة (مهما كثر عددها) معياراً للتمثيل. ويرتبط الأمر بشكل كبير بغياب هياكل تنظيم مدنيّ وسياسيّ عن «دوار هيشر». فرغم أنّ الجزء الأكبر من سكانه عمال، ورغم وجود المنطقة الصناعيّة، فإنّ نشاط النقابات شبه معدوم، وباستثناء حركتي «نداء تونس» و«النهضة»، لا يوجد مقر أو نشاط لأيّ أحزاب أخرى، فيما بدأت بعض الجمعيات تظهر وتنشط، ولو باستحياء.
غياب هذه الهياكل التي يمكن أن تنظم حالات الاحتجاج العفويّ وتقدم خطاباً مضاداً حول الحيّ أسهم في تجذير الخطاب السائد. «من الناحية الشخصيّة، صارت ردود فعل الناس، عند إبلاغهم عن إقامتي في الحيّ، متوقعة وتحوم غالباً حول التساؤل عن تفاصيل المكان الخطر»، يضيف الصديق. ينطبق الأمر نفسه على ردود الفعل عند أوّل معاينة شخصيّة للمنطقة، «وهو أمر جرّبته مع أصدقاء وإعلاميّين محليّين وأجانب. فبعد كلّ زيارة يتملّكهم الإحساس بالوقوع في فخّ الأحكام المسبقة والخطاب السائد، ويتعمق اقتناعي بأنّ الناس لا يعرف بعضهم بعضاً، حتى في نطاق بعض الكيلومترات... رغم المزاعم بأنّ العالم صار قرية صغيرة»، يختتم ذاك الصديق.