تونس | على رغم علم الأحزاب السياسية والائتلافات والمرشحين المستقلين بنتائج التصويت في الانتخابات، وعدد المقاعد التي تحصّلت عليها كلّ قائمة في كل بلدية، فإنّهم يعون جيداً أنّ المعركة التي شهدتها تونس أول من أمس، لم تنتهِ بعد. فتوجُّه التونسيّين إلى مراكز الاقتراع للتصويت، لم يكن إلا جولةً أولى، أو بمثابة رسم لملامح وموازين القوى لمعركة «رئاسة البلديّات».«حركة النهضة» التي حصّلت أعلى نسبة من الأصوات على مستوى وطنيّ، في حدود 27.5 في المئة، لا تُعتبر فائزة إلى الساعة، فهي فازت في جولة أولى فحسب ومن الممكن أن تكون أقليّة داخل «المجلس البلدي» الذي تحصلت فيه على أعلى نسبة من الأصوات نظراً لأنّ طبيعة نظام الاقتراع بالتمثيلية النسبية وباعتماد أكبر البقايا، المعمول به في تونس، لا يمنح أيّ قائمة مترشحة غالبية واضحة. انطلاقاً من تلك المعادلة، لا تبدو «النهضة» فائزة نهائياً في الانتخابات البلدية، ففي حال تحالفت الأحزاب والقائمات الفائزة ضدها في أيّ بلدية لن يؤول إليها منصب رئيس المجلس البلدي الذي تمنحه مجلة الجماعات المحلية (قانون أساسيّ منظم للبلديات وغيرها من الجماعات المحلية) صلاحيات واسعة.
حسابيّاً، من الممكن أن تُفرز التحالفات السياسية رئيساً للمجلس البلدي من قائمة تحصلت على أقلّ نسبة أصوات، إذ إنّ مجلة الجماعات المحلية تفرض الغالبية المطلقة لانتخاب رئيس البلدية من طرف أعضاء المجلس البلدي، كما ينصّ الفصل المتعلق بانتخاب رئيس البلدية أنه في حال لم يتحصّل أيّ مرشّح على الغالبية المطلقة يتمّ اللجوء إلى دورة ثانية من الاقتراع من بين المرشّحين المتحصلين على أكبر عدد من الأصوات في الجولة الأولى، وفي صورة تساوي الأصوات مرة أخرى فإن المنصب يؤول إلى الأصغر سنّاً بينهما.
تاريخيا، تعود أصول «شيخ المدينة» إلى العائلات الكبرى والعريقة


ودفع هذا المنطق المدير التنفيذيّ لحركة «نداء تونس»، حافظ قائد السبسي، الذي بدا أمس بمظهر المنهزم بعد حصول حزبه على المرتبة الثانية، إلى التأكيد بعد نحو ساعة من انتهاء الانتخاب، أنّه على رغم العزوف والتجاوزات الخطيرة وتشتت الأصوات، «يبقى نداء تونس القوة الأساسية للمحافظة على التوازن السياسيّ والحزبيّ كما ستؤكد ذلك النتائج الأوليّة وانتخاب رؤساء البلديات التي نعلن من الآن أن نداء تونس ستكون له فيها الكلمة الفصل». ويحيل ذلك على وجود توجّه لمواصلة بناء تحالفات وتوافقات مع «حركة النهضة» يكون من خلالها لـ«نداء تونس» أكبر عدد من رؤساء البلديات، لكن تبقى تلك الفرضية نسبيّة إلى حدّ ما خصوصاً في ما له علاقة ببلديّة تونس ومنصب رئيس مجلسها البلديّ المعروف بـ«شيخ المدينة» وهو منصب يحمل أهميّة كبرى ودلالة تاريخيّة ورمزيّة وسياسيّة، حيث كان حكراً على أعيان البلاد أو «البَلْديّة» منذ كان يُعيّن من طرف البايات (الملوك).
تاريخيّاً، لم يحظ بشرف تسمية «شيخ المدينة» أيّ شخص لا تعود أصوله إلى «العائلات الكبرى والعريقة» في تونس العاصمة كما أنّه منصب يمثل بوابة لدخول الدولة، فمثلاً فؤاد المبزع، الذي كان رئيساً موقتاً لتونس مباشرة بعد هرب بن علي إلى السعودية، كانت بداياته في الدولة ترؤسه لبلدية تونس بين عامي 1969 و1973، ليصير بعدها وزيراً للشباب والرياضة ومن ثم وزيراً للصحة إلى أن أصبح رئيساً للبرلمان (ما خوّل له دستورياً سدّ الشغور الذي أحدثه فرار بن علي).
اليوم صارت الفرصة متاحة لـ«النهضة»، وللمرة الأولى، لإحداث تحوّلات عميقة في تاريخ تونس وتغيّير المفاهيم التقليديّة للسياسة وتقاسم السّلطة بين القوى القديمة في البلاد بإخراج «البَلْديّة» من دائرة احتكار منصب «شيخ المدينة»، خصوصاً أن الانتخابات البلديّة في دائرة تونس العاصمة أفرزت حصول «النهضة» على 20 مقعداً في المجلس البلدي و18 مقعداً لـ«نداء تونس» و7 مقاعد لـ«التيار الديموقراطيّ» و7 مقاعد لـ«الاتحاد المدنيّ» و4 مقاعد لقائمة مستقلة ونفس عدد المقاعد لـ«الجبهة الشعبيّة». لكن الظفر بشرف تسمية «شيخ المدينة» أو رئاسة المجلس البلديّ لتونس العاصمة يستوجب ظفر المرشّح من تلك اللوائح الفائزة في الدائرة على 31 صوتاً من بين أصوات الأعضاء الستين، مما يجعل السؤال الأهم في تونس حاليّاً هو الآتي: هل ستستغل «النهضة» فرصة تاريخيّة لتغيّير مفاهيم تقاسم النفوذ والسلطة، أم ستجعلها إكراهات السياسة ترضخ لـ«النداء» وتُبقي للأعيان و«البَلْديّة» شرف احتكار المنصب؟