تكثّفت في الأسبوع الماضي النقاشات حول دور الجامعة العربيّة وعجزها عن أن تجسّد بجديّة وجهة نظر موحّدة، وبالتالي تجاوز تناقضاتها الداخليّة واتخاذ قرار فعّال بخصوص الصّراع في فلسطين. وقد أدلت السيّدة لويزة حنون، وهي الأمينة العامة لـ«حزب العمال» في الجزائر، يوم الأربعاء الماضي، بتصريح مثير للقلق، إذ دعت فيه إلى تجميد عضويّة الجزائر في الجامعة العربيّة، ردّاً على المذبحة التي ارتكبها الجيش الإسرائيليّ في حقّ الفلسطينيّين في غزّة. وقالت حنون «يجب على الدولة الجزائريّة تجميد عضويتها في هذه المنظمة، لأنّه لا يمكننا الجلوس مع خونة... يجب على الدولة الابتعاد عن سياسة السعوديّة وبقيّة الخونة العرب».يصدر اليوم الهجوم على الجامعة العربيّة، آخر الهيئات المجمِّعة للعرب، على أساس موقف خطابيّ متطرّف. لكنّ يبقى السؤال مرتبطاً بمدى قدرة تجميد عضويّة الجزائر (الذي من المحتمل أن يزيد من حدّة الانقسامات والتناقضات داخل الجامعة)، على تحقيق دفعة معتبرة في الصراع ضدّ الصهيونيّة وفي سبيل حقوق الشعب الفلسطينيّ. لماذا لا تطالب السيدة حنون بانسحاب الجزائر من الأمم المتحدة نظراً الى عجز المجتمع الدوليّ عن فرض احترام مئات القرارات التي ترمي بها إسرائيل عرض الحائط من دون أن تلقى أيّ عقاب؟ لماذا تطلق مقترحات تستهدف تفكيك آخر الهيئات المجمِّعة للعرب؟ بهذا المعنى يصير خطاب السيدة حنون في منتهى الغوغائيّة.
من المؤكد أنّ الجامعة العربيّة اليوم مؤسسة مأزومة تنخرها العداوات الداخليّة، ومن الواضح أنّ الأجندة السعوديّة صارت تتحكم بأولوياتها خلال السنوات الأخيرة، وهي حقيقة تمنعها من تحقيق تأثير ملموس. لكن يجب تذكير السيدة حنون بأنّ الجامعة العربيّة، على غرار جميع المنظمات، هي انعكاس لعلاقات القوّة، ففي سياق تاريخيّ مختلف، صدرت عن هذه المنظمة مطالبات قويّة أدت دوراً أساسيّاً في الصراع ضدّ الاستعمار وتوّجت بسلسلة من النجاحات. هؤلاء «الخونة» الذين تتحدث عنهم، في إشارة إلى جميع الدول العربيّة من دون تمييز وفي مساواة بين مملكات الخليج البتروليّة ودول لها تاريخ اشتراكيّ ثوريّ ثبّتت استقلالها في وجه الاستعمار، كان لهم قوّة تدخّل مهمّة بفضل الجامعة.
لا يخلو اقتراح زعيمة «حزب العمّال» من خلفيّة أيديولوجيّة


لقد سمحت المنظمة بتدويل الصراع بين لبنان سوريا من جهة، والاستعمار الفرنسيّ في الجهة المقابلة، ودعّمت موقف مصر في مواجهتها مع الاستعمار البريطانيّ الذي سعى إلى الحفاظ على حضور له في قناة السويس، ومن خلال تأسيس «مكتب المغرب العربيّ» في القاهرة، منحت الجامعة العربيّة صدى دوليّاً مدويّاً لمطالبات المغرب وتونس، ثمّ الجزائر لاحقاً، التي ساندت ثورتها بفعاليّة. أدت الجامعة العربيّة أيضاً دوراً في المخطط الأوّل لحلّ الأزمة بين مختلف القوى في جنوب اليمن غداة استقلاله. أما على مستوى الصراع في فلسطين، فتبدو جهود الجامعة اليوم مدفونة، حيث أدت في الماضي دوراً مهمّاً في مقاطعة إسرائيل اقتصاديّاً وتجاريّاً.
ورغم فشل الجامعة العربيّة في مهمتها الأصليّة، أي توحيد الدول العربيّة ضمن مجموعة مصالح ومواقف لمنحها وزناً قويّاً على الساحة الدوليّة، وهو أمر يعود إلى انقسامات وتمزقات تشقّ العالم العربيّ، فإنّه يمكن لإعادة تشكيل علاقات القوّة الإقليميّة أن تقود في نهاية المطاف إلى إجراء إصلاح عميق داخل المنظمة وبروز إطار جديد لتعزيز التعاون وتنسيقه بين هذه البلدان. لكن تنامي تأثير دول الخليج التي وجدت في المنظمة قناة مهمّة للتعبير عن سياستها وفرضها، إضافة إلى الاضطرابات التي ظهرت في المشهد السياسيّ العربيّ عام 2011 وقادت خاصّة إلى تدمير ليبيا وهزّ استقرار سوريا، كان لها تداعيات ضارة جعلت الأمل في رؤية ديناميكيّة وحدويّة متماسكة يتناقص. رغم ذلك، فإنّ للجزائر في هذا الطور من تغيّر علاقات القوّة حضوراً مهمّاً.
لن يكون هناك أيّ فائدة سياسيّة وراء تعليق العضويّة، إضافة إلى ذلك يؤكد زياد حافظ، الأمين العام لـ«المؤتمر القوميّ العربيّ» والأمين العام السابق لـ«المنتدى القوميّ العربيّ»، أنّ «الجزائر يمكن، بل يجب، أن تأخذ مواقف حادّة تجاه دول الخليج التي تحاول خطف الجامعة العربيّة، حيث لا يوجد ما يمنعها من فرض عقوبات ضدّ الدوّل المطبّعة مع العدو، ولا شيء يمنعها من الانفتاح (كما كانت دائماً) على المقاومة الفلسطينيّة، ولا شيء يعيقها عن إمداد سكان غزّة بحاجياتهم. لا يمكن أن تعارض مصر حركة تروّج لها الجزائر لمساندة سكان غزّة».
ولا يخلو اقتراح السيّدة حنون من خلفيّة أيديولوجيّة، فخلف المزايدة الكلاميّة باسم التضامن مع فلسطين، لا تطرح الأمينة العامة لـ«حزب العمّال» نقداً للأسباب العميقة التي تعيق عمل المنظمة والتوتّر الواضح بين مهمّتها التاريخيّة وطموحات القوى داخلها. فمن خلال وصف جميع الدول العربيّة بأنّها «خائنة» والتشدد في المطالبة بتجميد عضويّة الجزائر لتسريع مسار تفتيت الجامعة، هي تنخرط في هجوم ضدّ العروبة التي تجمع البلدان والشعوب العربيّة حول مرجعيّات توحيديّة مشتركة. تجد القوى السياسيّة والثقافيّة العاملة ضدّ هذه الهويّة في السياق الفوضويّ الحاليّ أرضاً خصبة للظهور وركوب أمواج الانقسامات والتناقضات العربيّة لتدفع قدماً، بشكل مُقنّع، مطالباتها بالقطع مع المرجعيّة العربيّة المجمِّعة.