تونس | منذ فشل الموقعين على اتفاق قرطاج في تجديد بنوده، وانقسامهم حول بقاء أو رحيل حكومة يوسف الشاهد، انتقل الصراع من المؤسسات السياسيّة إلى الإعلام. هناك، صار كلّ حادث مدعاة للدفاع عن الحكومة أو للهجوم عليها. آخر تلك الحوادث الهجوم الإرهابيّ الذي تمّ يوم أمس وأودى بحياة عدد من رجال الأمن، فضلاً عمّا كُشف في بداية الأسبوع الماضي عن تمويل الحكومة البريطانيّة حملة «تواصليّة» دعماً لـ«إصلاحات» نظيرتها التونسيّة.يوم أمس، استشهد 6 من عناصر «الحرس الوطنيّ» وجرح آخرون في منطقة تقع على الحدود مع الجزائر، إثر كمين نصبه على الأرجح «تنظيم القاعدة في المغرب الإسلاميّ». على الفور، بدأت قناة «نسمة» التلفزيّة الحديث عن الهجوم، وهي القناة المحليّة الوحيدة التي تقيم بثاً مباشراً كامل اليوم تقريباً. لكن النقاش سرعان ما تحوّل من الأمن إلى السياسة، إذ جرى استذكار وزير الداخليّة السابق لطفي براهم، الذي أُقيل بداية الشهر الماضي على ضوء خلافات مع رئيس الحكومة (راجع الأخبار، عدد 3485).
اعتبر عدد من المعلقين الذين استدعتهم القناة أنّ الإقالة لها دور في حدوث العمليّة، باعتبار أنّ تنحية براهم كان لها تأثير سلبيّ على الوزارة التي أمضى مسيرته المهنيّة فيها. غاية هذا القول أنّ إقالة الرجل لم تكن في محلّها. لكنّ ذلك ليس مجرّد دفاع عن الكفاءة، بل له دلالات سياسيّة أيضاً، حيث اعتبر سابقاً قياديّون من «حركة نداء تونس» وفعاليات سياسيّة أخرى، أنّ إقالة براهم كانت حركة إثبات ولاء من رئيس الحكومة يوسف الشاهد، تجاه «حركة النهضة» التي دعمت بقاءه في الحكم.
تبقى نقابة «اتحاد الشغل» هي الخاسر الحقيقي في هذه المعادلة


حتى الآن، يبدو أن الحادثة الإرهابيّة ستكون حديث الإعلام لهذا الأسبوع، وسلاحه للعمل على إسقاط الشاهد. وبداية الأسبوع الماضي، احتل موضوع آخر صدارة الاهتمام الإعلاميّ، وهو كشف جريدة «ذي غارديان» تمويل الحكومة البريطانيّة، عبر صندوق خاصّ يسمى «صندوق الصراع، الأمن والاستقرار»، لحملة «تواصليّة» لمصلحة الحكومة التونسيّة. يقول تقرير الجريدة إنّ حكومة تيريزا ماي تعاقدت مع شركة «أم أند سي ساتشي» لمساعدة الحكومة التونسيّة في إدارة «حملة إعلاميّة» لإقناع الناخبين بالإصلاحات التي تقترحها.
ومع أنّ الأمر لم يكن مجهولاً سابقاً، حيث ذكره قبل نحو شهرين نور الدين الطبوبي، الأمين العام لـ«الاتحاد العام التونسيّ للشغل»، في إطار صراعه مع الحكومة حول ملف خصخصة شركات عموميّة، إلاّ أنّ تقرير الجريدة البريطانيّة أكد الأمر وقدم تفاصيل أوفى حوله. يستحقّ الموضوع بالتأكيد نقاشاً ونقداً لحكومة الشاهد، خصوصاً لجهة تلقي دعم من حكومة أجنبيّة للترويج لمشاريع لا تحظى بتوافق عامٍ في تونس، وترتبط بالتوجّه الأيديولوجيّ النيوليبراليّ المهيمن على الحكومة البريطانيّة المحافظة، إذ إنّ الأمر أقرب إلى تعاون بين حكومتين متقاربتين في سياستهما الاقتصاديّة من تعاون بين دولتين.
لكن قناة «نسمة» التي قادت الحملة هذه المرّة أيضاً لم تتناول الموضوع من تلك الزاوية، حيث رفعت اتهامات بالعمالة لحكومة الشاهد، وقالت (من دون تقديم إثباتات) إنّ البرنامج المموّل بريطانيّاً يشمل العمل على تشويه الحركات الاجتماعيّة والمشاركين فيها، وطالبت بكشف أسماء الصحافيّين الذين شاركوا فيه. اتخذ الأمر بعد ذلك منحى مختلفاً، حيث سرّب موقع إلكترونيّ قائمة قال إنّه تلقاها من «مصدر أمنيّ» تونسي وتحوي أسماء صحافيّين من بينهم رئيس «النقابة الوطنيّة للصحافيّين التونسيّين» وعضوين في مكتبها التنفيذيّ.
الملاحظة الرئيسيّة حول مجمل الأسماء الواردة في القائمة، هو عمل غالبيتها ضمن وسائل إعلام منافسة لقناة «نسمة» وكان لها معها صراعات سابقة، كما كانت للنقابة مواقف نقديّة تجاه القناة، وهي من ناحية أخرى أكثر الهياكل النقابية التي نددت بالقمع الأمنيّ خلال احتجاجات أوّل العام، وقد وصلت حدّ إقرار إضراب عن العمل بعد اعتداء الشرطة على عدد من الصحافيّين الذي غطوا التظاهرات. ولذلك، يعدّ انخراطها في برنامج مشابه أمراً مستبعداً.
في تعليقه على القائمة، قال زياد دبار، وهو عضو المكتب التنفيذيّ للنقابة، إنّ لديه شكوكاً حول تورّط عدد من قيادات «نداء تونس» في عمليات التشويه. هذا التصريح يرتبط أيضاً بقناة «نسمة»، التي ينتمي صاحبها نبيل القروي إلى «النداء» وبالتحديد إلى جناح حافظ قائد السبسي، نجل رئيس الجمهوريّة، الذي يخوض صراعاً داخليّاً مع يوسف الشاهد.

نهاية التوافق... وصراع الأجنحة
لفهم تعقيدات المشهد، تجب العودة قليلاً إلى الوراء، أي إلى بدايات الصراع الذي هزّ «سياسة التوافق» بين حركتي «النهضة» و«النداء»، وعطّل اتفاق قرطاج الذي يشمل الحركتين وعدداً من الأحزاب الأخرى، إضافة إلى اتحادات العمال والأعراف والفلاحين والمرأة، الأكبر في البلاد.
نهاية شهر أيار/ماي، أعلن رئيس الجمهوريّة الباجي قائد السبسي تعليق العمل بـ«اتفاق قرطاج». جاء ذلك بعد عدد من الاجتماعات لتحديث الاتفاق، لكن النقطة التي عطّلت المفاوضات وشتتت جمع المُوقعين هي رحيل حكومة يوسف الشاهد. طالب الجميع تقريباً برحيل الرجل، حتى حركته «نداء تونس» (التي كانت وراء اقتراحه لتولي المسؤوليّة في الأصل)، ما عدا «حركة النهضة» التي رأت أنّ الأمر يضرّ باستقرار البلاد ويضع التزاماتها مع شركائها الدوليّين على المحكّ.
إثر ذلك، بدأت «حركة نداء تونس» حملتها للمطالبة باستقالة الشاهد الذي اعتبرته فاشلاً، وحاولت برفقة عدد من الأحزاب الأخرى استمالة «اتحاد الشغل» لجانبهم، لكن الأخير حاول في نهاية المطاف إقامة تمايز معهم، خصوصاً أنّ برنامجهم لا يختلف كثيراً عن برنامج رئيس الحكومة. من ناحيته، لم يبق «الابن العاق» من دون ردّ فعل، حيث خرج في كلمة متلفزة اتهم فيها غريمه حافظ قائد السبسي، المدير التنفيذيّ المُنصّب لـ«النداء»، بتدمير الحركة وإفراغها من الكوادر وبنقل الصراع إلى داخل أجهزة الدولة.
نجح الشاهد في شدّ جزء مهمّ من نواب «النداء» البرلمانيّين وأعضائه إلى جناحه، ما صعّب مسألة إقالته من طريق سحب الثقة منه في البرلمان. لم يبق أمام جناح حافظ إلاّ إعادة إرساء تحالفه مع نبيل القروي، صاحب قناة «نسمة» الذي أُبعد سابقاً عن مركز الفعل في الحركة. لبى القروي النداء، وسخّر «ماكينته» في الصراع.
اليوم، صار الشاهد في أعين قناة «نسمة»، المسؤول الأوّل عن كلّ ما يحصل، من حادثة غرق المهاجرين على تخوم جزيرة قرقنة إلى الحادثة الإرهابيّة على الحدود مع الجزائر، وذلك بعدما كان يُصوّر على أنّه «المنقذ».
لا يمكن طبعاً استبعاد حسابات «النهضة» عن المشهد، فبعد تصدرها نتائج الانتخابات البلديّة قبل شهرين، صار لها الآن حليف على رأس الحكومة يرتهن مصيره بإرادتها، وهو في الوقت ذاته غير محسوب عليها. لا يمكن القول إلاّ أنّ «النهضة» قد استفادت من تناقضات حليفها، وهي بذلك الرابح الأكبر في المشهد. لكنّ مع ذلك، تبقى استفادة «النهضة» وتشرذم «النداء» مسألة سياسيّة شكليّة، ما دامت خيارات كليهما مرتبطة ببرنامج خبراء «صندوق النقد الدوليّ».
الخاسر الحقيقيّ في هذه المعادلة هو «اتحاد الشغل» بصفته الممثّل الأكبر للتوجه الاجتماعيّ في البلاد، فانخراطه في الصراع خلال هذه المرحلة سيُؤوّل سياسيّاً على أنّه اصطفاف مع أحد الطرفين المتنازعين، ويعني سكوته في المقابل تغاضيه عن التقليص المستمر في دعم السلع والمحروقات، تعطّل المفاوضات الاجتماعيّة للترفيع في المعاشات، والتقدّم خطوات أخرى نحو تفكيك مؤسسات دولة الرعاية الاجتماعيّة.



السبسي ـــ الغنوشي: لقاء جديد


في ظل مجمل التطورات، شهدت الساحة التونسية أول من أمس، لقاءً جديداً بين «شيخي التوافق» الرئيس الباجي قائد السبسي، ورئيس «حركة النهضة» راشد الغنوشي. وفي بيان صدر عن الأخيرة، ذكرت «النهضة» أنّ اللقاء تمّ في «الاستراحة الرئاسية» بمدينة الحمامات «في جو من التفاهم حول أوضاع البلاد السياسية والاجتماعية».
وأشار المصدر ذاته إلى أنّ «رئيس الدولة أكد ضرورة أن تتحمل كل الأطراف مسؤولياتها في معالجة الأوضاع الاقتصادية الصعبة، بينما أكد رئيس الحركة أهمية سياسة التوافق وبخاصة بين النداء والنهضة، وهي السياسة التي قادها رئيس الجمهورية وصنعت الاستثناء التونسي». ولفت البيان أيضاً إلى أنّ «لا بديل عن التوافق».