تتسارع التطورات في ملفّ النفط الليبيّ الذي يمثّل المورد الماليّ الأساسيّ للبلاد ويشمل مصالح شركات غربيّة عملاقة. حاول إبراهيم الجضران، وهو الآمر السابق لفرع المنطقة الوسطى من جهاز «حرس المنشآت النفطيّة»، استرجاع سيطرته على منطقة الهلال النفطيّ وسط البلاد بعد طرده منها على يدّ قوات خليفة حفتر قبل حوالي عامين. حقّق هجوم الجضران منتصف الشهر الماضي أهدافه بسلاسة في البداية، لكن السيطرة لم تدم طويلاً، حيث حشد حفتر قوات بريّة وجويّة مدعومة من الإمارات ومصر واسترجع المنطقة في أيام قليلة. بعد الاسترجاع، اعتبرت قوات حفتر أنّ هجوم الجضران (الذي اختفى منذ انسحابه)، كان مدعوماً من أطراف في غرب البلاد، وأنّ مجموعات شاركت في الهجوم تلقت تمويلات من «حكومة الوفاق الوطنيّ» وجاءت من موارد النفط نفسها. بناء على ذلك، صدر أمر من حفتر بنقل صلاحيّة التصرّف في الموارد الطاقيّة إلى مؤسسة موازية في شرق البلاد، وهو ما يُعتبر إخلالاً بقرارات مجلس الأمن الدوليّ التي تعطي حصريّة الحقّ في التصرّف بتلك الموارد إلى «المؤسسة الوطنيّة للنفط» المتمركزة في طرابلس.لم يتأخر التفاعل الدوليّ، فكما حظي هجوم الجضران بإدانة واسعة، صدر كذلك بيان مشترك بين الولايات المتحدة الأميركيّة وفرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة جاء فيه: «يدين قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عدد 2362 (2017) محاولات تصدير البترول على نحو غير قانونيّ... من ليبيا على يد مؤسسات موازية لا تعمل تحت سلطة حكومة الوفاق الوطنيّ». أحبط البيان أحلام حفتر الذي يريد «حصة الأسد» من موارد النفط.

شروط وضغوط دوليّة
حفتر الذي خسر مئات من قواته والكثير من عتاده في حروب منطقة الهلال النفطيّ في الأعوام الأخيرة، لم يكن ليرضخ بسهولة، إذ يوجد دائماً هامش للمناورة. أصدر الرجل بياناً احتوى سلسلة من الشروط لتسليم إدارة المنشآت النفطيّة للسلطات المختصة في طرابلس واستئناف تصدير النفط. أهمّ تلك الشروط كانت استبدال محافظ «مصرف ليبيا المركزيّ»، إذ يشهد المصرف انقساماً بين فرع معترف به في طرابلس ويرأسه الصديق الكبير، وفرع آخر غير معترف به في مدينة البيضاء شرق البلاد ويرأسه محمد الشكري. وترتبط أزمة المصرف بتطبيق بنود «اتفاق الصخيرات» للمصالحة، حيث ينصّ على التوافق بين البرلمان المتمركز في شرق البلاد و«المجلس الأعلى للدولة» المتمركز في طرابلس حول التعيينات في عدد من المناصب الإداريّة العليا. وعلى رغم انتخاب البرلمان محمد الشكري، لم يحظ الأخير حتى الآن بموافقة «المجلس الأعلى للدولة». وتتجاوز مطالبة حفتر بتنصيب الشكري مجرّد دعم قرارات البرلمان، إذ يُشرف المصرف المركزيّ على تلقي جميع موارد البلاد ومن ثمّ توزيعها على مختلف أجهزة الدولة، وتعني السيطرة عليه حريّة التصرّف في المال.
من الشروط المهمّة الأخرى لحفتر هي تشكيل لجنة تحقيق في كيفيّة إدارة موارد النفط خلال الأعوام الماضية. التقط فائز السراج، رئيس «حكومة الوفاق الوطنيّ»، هذا الشرط وتبناه وبعث أول من أمس، برسالة إلى مجلس الأمن الدوليّ يطلب منه «تشكيل لجنة دوليّة فنيّة وبإشراف الأمم المتحدة وبالاستعانة بالمنظمات الدوليّة الماليّة والاقتصاديّة المتخصّصة، للقيام بمراجعة كافة الإيرادات والمصروفات وتعاملات مصرف ليبيا المركزيّ في طرابلس والمصرف المركزيّ في البيضاء»، ووافق محمد الشكري على هذا الاقتراح بشمول التدقيق لمؤسسته.
من جهته، أصدر أول من أمس، جهاز «حرس المنشآت النفطيّة» في المنطقة الوسطى والشرقيّة، قراراً مبنيّاً على أوامر من خليفة حفتر يلغي البرقيّة السابقة «الخاصّة بإيقاف استقبال البواخر لغرض التصدير من الموانئ النفطيّة»، ويحيل على أوامر أخرى وصلت «إلى وحدات حماية الأصول النفطيّة التابعة للجهاز باستئناف عمليّات التصدير».
وراء كلّ القرارات تقبع إرادة دول غربيّة متضرّرة من إيقاف النفط


تفاعلاً مع ذلك، أصدرت أمس «المؤسسة الوطنيّة للنفط» بياناً أعلنت فيه رفع «حالة القوّة القاهرة» عن موانئ الهلال النفطيّ، وذلك بعد «استلامها صباح اليوم»، وأكدت أنّ «عمليات الإنتاج والتصدير ستعود إلى المستويات الطبيعيّة تدريجاً خلال الساعات القليلة المقبلة».
لكنّ، وراء كلّ هذه القرارات المتتالية تقبع إرادة الدول الغربيّة المتضرّرة من إيقاف النفط، خصوصاً إيطاليا وفرنسا، صاحبتي شركتي «إيني» و«توتال» اللتين تستحوذان على حقوق استغلال وتطوير حقول نفطيّة مهمّة في ليبيا، إضافة إلى تحصيلهما رخصاً للتنقيب. في هذا السياق، انعقد في روما يوم الاثنين الماضي، اجتماع محوريّ، حيث اجتمعت ما تعرف بدول «3 زائداً 3»، التي تشمل أميركا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا ومصر والإمارات، إضافة إلى حضور تونس والمغرب والجزائر والسعوديّة كمراقبين، وبحضور المبعوث الأمميّ الخاصّ غسان سلامة.
خلص الاجتماع إلى نتائج مهمّة، لم تتكشّف جميعها بعد، لكن الواضح حتى الآن أنّه جرى الاتفاق على عودة إدارة النفط إلى ما كانت عليه قبل قرار حفتر الأوّل، إضافة إلى التخلي عن ما جرى الاتفاق عليه في اجتماع باريس نهاية شهر أيار لجهة عقد انتخابات تشريعية ورئاسية بحلول نهاية هذا العام، حيث تم الاتفاق على إجراء انتخابات برلمانيّة فقط في بداية العام المقبل، وهو ما طرحه سابقاً عدد من الدول أهمها الولايات المتحدة داخل مجلس الأمن.
في السياق ذاته، نشرت أمس سفارة فرنسا في ليبيا صورة على صفحتها في موقع «تويتر» تجمع السفيرة الفرنسيّة بريجيب كورمي، برئيس المؤسسة الوطنيّة للنفط مصطفى صنع الله، مرفقة بجملة تقول «(تمّ) حلّ الأزمة النفطيّة بفضل جهود الجميع، على أمل أن تعود الأمور إلى طبيعتها في أقرب وقت!». علاوة على ذلك، أشارت تسريبات إلى تلقي عقيلة صالح، رئيس البرلمان، «رسالة من الرئيس الأميركيّ» دونالد ترامب، ينتقد فيها دوره، شبه الغائب، في معالجة أزمة الهلال النفطيّ.