تونس | حين احتدم الصراع، في نهاية عام 2015، بين نجل الرئيس حافظ قائد السبسي، وأمين عام «نداء تونس» آنذاك محسن مرزوق، أسرّ الباجي قائد السبسي إلى مقرّبيه بأنّه «ظلم» ابنه مرّتين ولا يريد أن يظلمه لمرة ثالثة. ما كان الباجي يشير إليه هو منع نجله من دخول هيئة الحزب التأسيسية وثم منعه من الترشح في الانتخابات التشريعية لعام 2014 خوفاً من اتهامه بالتوريث. لكن في صراع «حافظ ـــ مرزوق» فهو لم يُرد إسقاط ابنه في معركته للسيطرة على الحزب، علماً أنّه كان قد جهّز له الأرضية لذلك حين سلّمه مهمة «الهيكلة» في «نداء تونس»، وهي مهمة تمثّل مفتاح التحكّم في أي حزب.بدءاً من ذلك التاريخ، أطلق الباجي قائد السبسي العنان لطموح نجله حافظ في وراثته على رغم أنّ الوالد والابن لا يتشابهان: لا حافظ هو ابن أبيه لناحية الخبرة والحنكة السياسية، ولا يشبهه على صعيد المناورات والكاريزما، ولا حتى على صعيد المقدرة الخطابية.
بعد قرار الرئيس بـ«عدم ظلم الابن لمرة ثالثة»، تتالت «معارك البقاء» داخل «نداء تونس»، وكان «ابن الريّس» الفائز دوماً. انشقّ مرزوق وخرجت معه كتلة نيابية من 20 برلمانياً إضافة إلى نحو 40 قيادياً حزبياً، ثمّ حلّ صراع آخر كان مدير ديوان الرئيس السابق رضا بلحاج، طرفه الآخر هذه المرة، لكنّه سرعان ما استقال وتتالت من بعده الانسحابات الصامتة بين قيادات «الصفّ الأول» التي أسست «النداء». كنتيجة للمشهد، لم يعد الحزب ما كان عليه في صيف 2014 على المستويات السياسية والتمثيلية والإعلامية، فيما انبثقت منه أربعة أحزاب، هي «حركة مشروع تونس»، «حركة تونس أولاً»، «بنو وطني»، و«حزب المستقبل».
في عهد السبسي الابن، تحوّل الحزب إلى ما يشبه المزرعة العائلية


بعد تمكنه من مفاصل ما تبقى من حزب والده، أحاط حافظ قائد السبسي نفسه بمجوعة جديدة، وأصبح الآمر الناهي، ما جعل كنيته في تونس: «صاحب الباتيندة»، أي أنّه صاحب رخصة «نداء تونس»، أو علامته التجارية لأنّ هذه العبارة تُحيل عملياً إلى مصطلحات «البزنس».
في عهد السبسي ـــ الابن تحوّل «نداء تونس» إلى ما يشبه المزرعة العائلية، يمثّلها حافظ ويديرها على هواه، وقد بلغت به الأمور حدّ تعيين مقربين إليه في مواقع وزارية باعتبار أنّ حزبه «هو الفائز في الانتخابات، وباعتراف النهضة»، متناسياً ربما أنّ استراتيجيات الأخيرة بعدم قيادة البلاد رسمياً بعدما صارت كتلتها الأولى برلمانياً إثر الانشقاقات البرلمانية عن «النداء»، هي ما يبقيه مكانه.
تحوّل الحزب أيضاً إلى جهاز له ارتباطات معروفة بلوبيات الفساد، فتراكم كل ذلك إلى أن جاءت الهزيمة الأولى، في الانتخابات التشريعية الجزئية (ألمانيا) في نهاية 2017، ثم الهزيمة الثانية، خلال الانتخابات البلديّة التي أجريت في 6 أيار/ماي الماضي، وصولاً إلى الهزيمة الثالثة على التوالي، المتمثلة بخسارة رئاسة البلديّات أثناء المنافسة عليها لاحقاً ضدّ «حركة النهضة».
هكذا، حطّم حافظ قائد السبسي إرث أبيه. إلا أنّ الخسائر لم تقف هنا، إذ في أيار/ماي الماضي أراد الرجل إقالة رئيس الحكومة يوسف الشاهد (المنتمي إلى حزبه!)، لتندلع إثر ذلك معركة جديدة داخل «النداء» وضمن ما تبقى من كتلته البرلمانية (56 مقعداً بعدما كانت 86 مقعداً عام 2014).
خلال الأسبوع الجاري، وبصفة مفاجئة، أعلنت مجموعة من الهيئة السياسية لـ«نداء تونس» (13 عضواً من أصل 19 عضواً متبقين من بين 32 عضواً)، سحب البساط من تحت حافظ لتسبّبه في نكسات متتالية للحزب، وقررت القيادة بصفة جماعية، عوضاً عن القيادة الفردية للمدير التنفيذي حافظ قائد السبسي. في توجهها، استندت هذه المجموعة إلى قانون الحزب الأساسي، كما أنّها أزاحت الناطق الرسمي للحزب المقرّب من حافظ، وعوضته بأحد أعضاء المجموعة، وقرّرت أيضاً عقد مؤتمر ثان للحزب في نهاية أيلول/سبتمبر المقبل.
بطبيعة الحال، تمثّل ردّ حافظ بإصدار بيان أكد فيه أنّ «أقلية» أصدرت مواقف لا تُلزم الحزب و«اختارت الانقلاب»، وتعهّد باتخاذ إجراءات تأديبية ضدّهم. لكن الجميع يعلم في تونس أنّ تراكم خيبات نجل الرئيس في إدارة «إرث أبيه» وتسبّبه في سيطرة «النهضة» على المشهد السياسي، ستُلجمان أباه هذه المرة، وستشكلان سلاح خصومه في المعركة التي يمكن أن تؤدّي إلى لفظ «إبن الريّس خارج حزب أبيه» كما لم يتوقّع أي متابع للشأن السياسي في تونس، فالكلّ كان يعتقد أنّ «صاحب الباتيندة» أحكم قبضته على ما تبقى من الحزب منذ عام 2016.