تونس | بينما يواصل تجّار تونسيّون الاعتصام أمام معبر «رأس جدير» منعاً لعبور السيارات في الاتجاهين (باستثناء الحالات الصحيّة المستعجلة)، أغلق يوم الأربعاء معبر «ذهيبة – وازن» مع ليبيا. سبب المشكلة هو قرار حكومة الوفاق الوطنيّ المتركزة في طرابلس بمنع إدخال المحروقات المُدعمة والسلع إلى تونس «حفاظاً على مقدرات الشعب الليبيّ». في مقابل القرار الليبيّ، يرفع المحتجون من الجانب التونسيّ شعار «سيب نسيب»، الذي يعني مقايضة عودة عمل المعبر بحريّة مرور الوقود والسلع. بين هذا وذاك، وفي غياب ردود فعل تونسيّة رسميّة، تشتغل خطوط تواصل موازية لإيجاد صيغة حلّ على غرار ما حصل في سنوات ماضية، لكنّ الأمر اليوم يبدو أكثر تعقيداً مما سبق، حيث تعمل السلطات الليبيّة على رفع الدعم المباشر عن المحروقات، ما قد يولّد أزمات اجتماعيّة عنيفة في تونس.

اقتصاد الحدود
يشير تقرير رسميّ قدمته الحكومة التونسيّة أخيراً للبرلمان إلى أنّ حوالى نصف اقتصاد البلاد «غير منظّم»، وهو يشغّل ما يقارب 40 في المئة من اليد العاملة. ويشتغل القطاع غير المنظم من الاقتصاد بسلع مُهربّة، سواء عبر الموانئ والحاويات البحريّة، أو عبر الحدود البريّة مع الجزائر وليبيا. ووفق دراسة صادرة عن «البنك الدوليّ»، تتمثّل أهمّ السلع المُهرّبة من ليبيا إلى تونس في «النفط، التفاح، الموز، المنسوجات، الأحذية، التجهيزات المنزليّة الكهربائيّة، والعجلات المطاطيّة». وتُرجع الدراسة أسباب ذلك إلى الفرق في الضغط الضريبيّ بين البلدين واختلاف سياسية الدعم (تدعم ليبيا النفط بنحو 80 في المئة من قيمته). وفي المقابل، تُهرّب إلى ليبيا سلع تونسيّة مُدعمة، مثل الحليب والزيت والقمح ومشتقاته. اختلاف السياسات الاقتصاديّة جعل من الحدود مورداً اقتصاديّاً مهماً، ومع غياب برامج تنمويّة في المناطق الحدوديّة التونسيّة (سواء مع ليبيا أو الجزائر)، صارت المجتمعات المحليّة معتمدة على التهريب إلى حدّ كبير. نتيجة ذلك، صار طبيعيّاً في مدينة مثل بن قردان، أكبر المدن المتاخمة لمعبر رأس جدير، رؤية محال صرافة غير مُرخّصة، وباعة الوقود الليبيّ على قارعة الطرق، وسيارات ومخازن التهريب.
يحظى التهريب في تونس بمشروعيّة تقوم على الحاجة، حيث تصمت الدولة عنه ما دامت عاجزة عن توفير بديل، ويصل التضامن في المناطق الحدوديّة إلى حدّ صدور بيانات تنديد وتنظيم إضرابات من قبل الاتحادات المحليّة للشغل حين تُغلق الحدود. في الأعوام الماضية، ومع تزايد الخطر «الجهاديّ»، حاولت تونس السيطرة على الظاهرة، حيث حفرت خندقاً على حدودها الجنوبيّة، ويسّرت فتح مكاتب صرافة قانونيّة لاستيعاب العملة والسيولة المتسّربة خارج المسالك الرسميّة، لكنّ تهريب الوقود خاصّة لم يتوقّف، وهو يتمّ في أحيان كثيرة تحت أنظار أجهزة الدولة التي تخشى أن تفقد، في حال تدخلها، ثقة المجتمعات المحليّة وإثارة غضبها، فالأمن القوميّ مُقدّم على غيره.
لكنّ الأمر من الناحية الليبية على النقيض من ذلك، حيث تغيب المشروعيّة بغياب ركن الحاجة عن ممارسي التهريب، وتتداخل الميليشيات الممارسة له مع الجماعات المسلحة التي تبحث عن رفع مواردها وتوسيع نفوذها، كما يُسبّب نزيفاً ماليّاً مهمّاً. ضمن هذا السياق، قال رئيس «لجنة أزمة الوقود والغاز» الليبيّة، ميلاد الهجرسي، منتصف الشهر الماضي، إنّ الوقود الليبيّ المُهرّب «يوفّر 40 في المئة من حاجات تونس»، وتفقد ليبيا بسببه نحو مليار دولار سنوياً.
لم يقف الهجرسي عند ذلك الحدّ، حيث قال أول من أمس، إنّه «رفض جميع الاتصالات المكثّفة التي جاءته من الجانب التونسيّ»، وشدّد على منع استمرار التهريب قائلاً: «لن نترك أرزاقنا وخيراتنا ولن نفرّط فيها». لكنّ هذه ليست المرّة الأولى التي يتخذ فيها الرجل مثل هذا الموقف، حيث أدلى العام الماضي بتصريحات مماثلة، لكن انتهى الأمر بعودة المعبر إلى العمل بعد توقيع نائب برلمانيّ تونسيّ اتفاقاً غير رسميّ مع الليبيّين يقضي بالسماح بدخول السلع بكميّات محدودة.

تفاقم الأزمة؟
قد تصل الاتصالات السياسيّة بين تونس وليبيا إلى مستويات تتجاوز الهجرسي، يقع بمقتضاها إرجاع الأمور إلى سالف عهدها، لكنّ حتى إنّ تمّ التوصّل إلى اتفاق فإنّه لن يطول في حال نجحت ليبيا في تطبيق برنامج رفع الدعم المباشر عن المحروقات. واتخذت «المؤسسة الوطنيّة للنفط» و«هيئة الرقابة الإداريّة» الشهر الماضي قراراً بتعويض الدعم بمنحة عائليّة بقيمة 500 دولار للفرد، لكن البرنامج تعوقه حتى الآن خروقات في سجلّ العائلات الذي شهد تضخماً في الأرقام يشي بوجود تزوير.
وتوجد في تونس خشية من تطبيق هذا القرار الليبيّ، حيث اتخذت ليبيا عام 2010 إجراءات مشابهة أدت إلى انتفاضة في مدينة بن قردان. حينها، قرّر الرئيس السابق معمّر القذافي عدم السماح لغير الليبيّين باقتناء السلع المدعومة، وفرض ضريبة على السيارات التونسيّة المتوجهة إلى ليبيا، ما أدى إلى خروج مئات المتظاهرين ونشوب مواجهات مع الأمن لم تنته إلاّ بعد سحب الإجراءات.