تونس | بعد أشهر من الصراعات التي أفقدت الحكومة التونسية بعض أهم داعميها، مثّلت «الندوة الوطنية» أمس فرصة لمعاينة حجم الحزام الداعم ليوسف الشاهد وفريقه الوزاري. وُجّهت دعوات الحضور إلى منظمات وطنية وأحزاب ومسؤولين في الدولة، لكنهم لم يأتوا جميعاً.من بين أبرز الحاضرين، كان رئيس حركة «النهضة»، راشد الغنوشي، الذي يدعم الشاهد، ويشترط عليه مقابل ذلك التزامه تجنب الترشح في الانتخابات الرئاسية العام المقبل، من دون أن تلقى دعوته تفاعلاً يذكر حتى الآن. كما جاء رئيس «اتحاد الفلاحة والصيد البحري»، عبد المجيد الزار، المقرب من «النهضة»، ورئيس «اتحاد الصناعة والتجارة»، سمير ماجول، الذي تراجع عن مساندته دعوة تغيير الحكومة. أما أبرز الغائبين، فكان المدير التنفيذي لـ«حركة نداء تونس»، حافظ قائد السبسي، و«الاتحاد العام التونسي للشغل».
في ما يخص «نداء تونس»، فإضافة إلى اعتباره منذ أسابيع أن حكومة الشاهد قد فشلت في تحقيق الأهداف التي تأسست من أجلها، انتهت أمس المهلة التي حددتها لرئيس الحكومة حتى «يبرر سلوكه تجاهها وتجاه كتلتها البرلمانية»، التي عمل على شقها وخلق كتلة نيابية خاصة به. ومن المحتمل الآن أن يُطرد الرجل من الحركة بعد أشهر من محاولة إرجاعه إلى حظيرة مديرها التنفيذي.
أما «الاتحاد العام التونسي للشغل»، فأصدر بياناً في هذا الصدد برّر فيه مقاطعته الندوة بأن برنامجها «لا يرتقي إلى انتظارات الاتحاد... من ذلك عدم التطرق إلى المواضيع ذات الأولوية المطلقة». وحدد البيان أمس قائمة اعتبرها أولويات، منها الإصلاح الجبائي ومقاومة التهرب الضريبي، وإنقاذ المؤسسات العمومية، وإصلاح منظومة الحماية الاجتماعية، ومحاربة الاقتصاد غير المنظم والتجارة الموازية وإدماجهما في القطاع المنظم، وترشيد الاستيراد.
مما سبق، تتبين ملامح الشقين السياسيين في البلاد، فمن ناحية تدعم «النهضة» وجزء من «نداء تونس» الشاهد في البرلمان، ويسندانه سياسياً، وتقدم إليه منظمتا الصناعيين والفلاحين مساندة نقدية تقوم على حسابات الربح والخسارة. على المقلب الآخر، يحارب الجزء المتبقي من «النداء» رئيس الحكومة خوفاً من مشروعه السياسي الخاص الذي بدأت ملامحه تتشكل، ويتبنى «اتحاد الشغل» الموقف العدائي نفسه لأسباب أخرى، أهمها ما يُعرف بـ«ملف الإصلاحات الكبرى»، الذي يقوم على خصخصة جزء من شركات القطاع العام، وتسريح عدد من الموظفين العموميين، ورفع الدعم المباشر.

قلب الرحى: الاقتصاد السياسي
يبدو من الضروري تجاوز الجانب السياسي التنافسي بين رئيس الحكومة وإخوته الأعداء داخل «نداء تونس» من أجل فهم أوضح للصورة. فالفروق بينهم من ناحية البرنامج الاقتصادي معدومة، وكلاهما يتبنى برنامج إصلاحات «صندوق النقد الدولي». لكن يكمن الخلاف «الصلب» الاقتصادي - الاجتماعي بين معسكري «الخيارات النيوليبرالية» و«دولة الرعاية الاجتماعية»، الذي يمثله أساساً «الاتحاد العام للشغل»، ويحمل لواءه في ظل ضعف أحزاب اليسار.
في خطابه خلال الندوة، تحدث الشاهد عن «مراجعة منظومة الدعم لتوجيهه نحو مستحقيه»، ومن المنتظر أن يناقش «مجلس نواب الشعب» هذا المشروع في الفترة المقبلة. للوهلة الأولى، يبدو هذا الشعار جذاباً، لناحية أنه يرمى إلى حرمان الأثرياء دعماً لا يستحقونه، وتوجيه ما يتمتعون به عن غير استحقاق نحو الفئات الأقل دخلاً، لكن تطبيقه ليس سهلاً، ويمكن أن تنجرّ عنه نتائج عكسية.
يكمن الخلاف بين معسكري «النيوليبرالية» و«دولة الرعاية»


والمواد المدعومة في تونس ثلاثة أصناف: الماء والكهرباء، وبعض المواد الغذائية، والطاقة (توجد خدمات أخرى مدعومة مثل الصحة والتعليم والنقل لكنها لا تمثل حتى الآن موضوع خلاف). في ما يخص الصنف الأول، وجدت الدولة حلاً يخصه هو تطبيق أسعار تصاعدية وفق الاستهلاك، والمنطق المسير لذلك يقول إن الناس الأعلى دخلاً يستهلكون أكثر، وهو حل طُبّق منذ أعوام، من دون تذمر كبير من الناس. الصنف الثاني يخص موادّ أساسية مثل السكر والحليب والقمح ومشتقاته والزيت، وإن كان يصعب تمييز المستهلكين في هذه الحالة، لأن المواد مطروحة في الأسواق ومتاحة للجميع، لكن توجد بدائل أعلى ثمناً، وهي تجد إقبالاً من الميسورين، كما أن دعم هذه السلع ليس كبيراً على أي حال، وتعويض الموجود بنموذج «بطاقات التموين» سيخلق مشكلات لا تنتهي، بداية من الخلافات في تحديد مستحقيها، وانتهاءً بمزيد مأسسة الفروقات الطبقية.
أما الصنف الثالث، فهو ما يبتلع القسط الأكبر من ميزانية الدعم، انطلقت الحكومة في العامين الماضيين في تطبيق آلية تعديل في أسعار المحروقات تتغير بموجبها الأسعار كل ثلاثة أشهر بناءً على تغيّرات سعر السوق العالمية، لكن ذلك غير كافٍ لها. وتوجيه دعم المحروقات نحو مستحقيه في هذه الحالة أمرٌ معقدٌ (تستعيض عنه الدولة الآن بضرائب تصاعدية على العربات)، والمشكلة أن الخيار الأقصى هو رفع الدعم عنها بصفة كلية، ما يعني آلياً ارتفاع تكاليف النقل وجميع الأنشطة المرتبطة باستهلاك الطاقة.
إضافة إلى مسألة الدعم يرتبط الصراع بين المشروعين بخصخصة شركات عمومية. وفي حين ترى الحكومة أن الأمر ضروري نظراً إلى فشل كثير من تلك الشركات واستنزافها موارد من الموازنة العامة للدولة، يرى «اتحاد الشغل» عكس ذلك. يطرح الاتحاد النقابي وضع برامج خاصة بكل شركة عمومية، طبقاً لخصوصياتها، وهو يرى أن الحكومة متواطئة مع بعض رؤوس الأموال لبيع شركات رابحة تحت غطاء فشل القطاع العام. أخيراً، انهارت المفاوضات بين الجهتين بخصوص هذا الملف، نتيجة ذلك (إضافة إلى غياب التفاهم حول الزيادات في الرواتب)، تبنى «مجمع الوظيفة العمومية»، الاثنين الماضي، خيار الإضراب العام في حال عدم تفاعل الحكومة مع مقترحات المنظمة العمالية.
في خضم هذا الصراع المستعر، لا يبدو أن للحكومة بدائل خارج مصفوفة الإجراءات النيوليبرالية. حتى هذا الشهر، إذ سجّل الميزان التجاري عجزاً بما يقارب خمسة مليارات دولار (بزيادة 20 % عن الفترة ذاتها من العام الماضي)، على رغم إقرار قائمة بنحو 220 سلعة يحظر استيرادها بداية العام. وتستعد الحكومة في المستقبل القريب للاقتراض على سوق «الصكوك الإسلامية»، إضافة للاقتراض من السوق الدولية، والاستمرار في برنامج القرض مع «صندوق النقد الدولي».