تونس | بدا رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، في خطابه أول من أمس، كما لو أنه يدفع بخطة بديلة تجاه رئيس الحكومة، يوسف الشاهد. بدايةً، استغلّ قائد السبسي طبيعة المناسبة، أي عيد الاستقلال، ليروي مُثلاً حول فوائد «الوحدة الوطنية» في الأزمنة الصعبة، ثم انتقل إلى تشخيص الوضع القائم من خلال استعراض بعض المؤشرات الاقتصادية السلبية، مثل التضخم والمديونية واختلال ميزان التبادل التجاري، ليستخلص أخيراً أن البلاد تعيش أزمة.سبب هذه الأزمة، وفق رأي الرئيس، هو غياب الوحدة الوطنية، التي يرى أنه حاول تكريسها من خلال التحالف مع «النهضة» ومحاولة تجميع أكبر قدر ممكن من الأحزاب حول الحكومة، لكن محاولاته أُفشلت على يد يوسف الشاهد. من هنا، يرى قائد السبسي أن المسألة لا ترتبط بفشل شخصه، بل بالدستور، الذي لا يسمح له بلجم رئيس الحكومة، فدعا بالتالي إلى «تعديل بعض فصوله» التي جعلت السلطة التنفيذية برأس واحد وليس برأسين.
الرسالة الثانية التي بعثها رئيس الجمهورية كانت مبطنة، حين قال إن «المواصلة على هذا النحو ليست في مصلحة تونس، إذا رجع الشاهد، ولا أقصد هنا شاهد العقل، (يمكن) أن نمشي يداً بيد». ويقصد الرجل بوضوح في ما قاله، أنه مستعد للتصالح مع رئيس الحكومة، وتوحيد الصف مرة أخرى، في حين لم يستفد أي منهما من الصراع.
وتفتح دعوة قائد السبسي للشاهد، الباب أمام إعادة توحيد المنشقين عن حزبه «نداء تونس»، وخاصة الشاهد والحزب الجديد المرتبط به «تحيا تونس»، لكن الأمر يبقى محاطاً بكثير من الشكوك، على رأسها مصير نجل الرئيس، حافظ قائد السبسي، الذي صار يواجه رفضاً حتى من القلة الباقية في «النداء».
وكانت إعادة كتابة الدستور على رأس مطالب القوى السياسية والشعبية في تونس بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. تحقق الأمر بتنظيم انتخابات مجلس تأسيسي، قام أيضاً بدور البرلمان طوال فترة عمله التي استمرت ثلاثة أعوام، وكتب دستوراً نال بعد جولات من الصراع في اللجان والساحات رضا الأغلبية الكبرى من النواب. ومن بين أهم التغييرات التي جاء بها دستور عام 2014، تحويل النظام السياسي من رئاسي معزز إلى برلماني معدل، يحظى من خلاله البرلمان بفرز حكومة تتولى أغلب المهمات التنفيذية، فيما يُنتخب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب، ويتولى جزءاً آخر من المهمات، أبرزها الدفاع والخارجية، التي يتشاور فيها أيضاً مع رئيس الحكومة.
قبل انتخابات 2014، لم ير الباجي قائد السبسي مشكلة في النظام السياسي، فبعد فوز حزبه «نداء تونس» بأغلبية المقاعد في البرلمان، خاض هو الانتخابات الرئاسية بنجاح. كانت المعادلة بالنسبة إليه كالآتي: يسيطر حزبه على مجلس الشعب، ويمكنه بالتالي تعيين من يريد على رأس الحكومة، وسيكون هو عملياً رئيساً بصلاحيات تتجاوز تلك الموجودة في الدستور.
لكن الرياح لم تجر كما أرادت سفن الرئيس، إذ بدأت تبرز مبكراً خلافات داخل «نداء تونس» بين من يرى صوابية اختياره التحالف مع حركة «النهضة»، صاحبة ثاني أكبر كتلة برلمانية في حينها، ومجموعة أخرى رأت أن هذا التحالف غير ضروري، وأن بالإمكان تشكيل حكومة مع كتل برلمانية أخرى أصغر حجماً وأكثر تناسقاً أيديولوجياً مع «النداء»، على اعتبار أن هذا الأخير بنى أجندته الانتخابية أساساً على معارضة «النهضة».
مع الوقت، تسارعت وتيرة الخلافات وتعقّدت، إلى أن توالت الانشقاقات داخل «النداء»، على خلفية التحالف مع «النهضة»، وكذلك احتجاجاً على تنامي دور نجل الرئيس، حافظ، الذي صار لاحقاً المدير التنفيذي للحزب، وأدت في نهاية المطاف إلى بروز أربعة أحزاب أخرى، والعدّ متواصل.
هذا التراكم الكمي للأزمات أدى إلى تحول نوعي في بنية الحكم، وجاءت هذه الانعطافة مع إقالة رئيس الحكومة الحبيب الصيد، لأسباب مجهولة، وتعويضه برجل من الصف الثاني للحكومة والحزب، وهو يوسف الشاهد. وبعد بضعة أشهر من توليه رئاسة الحكومة، بدأ يظهر الشاهد نزعات استقلالية عن رئيس الجمهورية، حفّزها دعم تلقاه من جهات داخل «النداء» والحكومة، وحتى رئاسة الجمهورية.
إزاء ذلك، نفد صبر الباجي قائد السبسي تدريجياً، ووصل الأمر إلى ذروته عندما سعى إلى إطاحة الشاهد، بداية بضغط مشترك مع «الاتحاد العام التونسي للشغل» ومنظمات مهنية أخرى، ثم برلمانياً. لكن المحاولات هذه باءت بالفشل، إذ نجح الشاهد، الشاب المغمور القادم حديثاً إلى عالم القادة السياسيين، في استيعاب المنظمات المهنية، واحدة تلو أخرى، وفي شق صف كتلة «نداء تونس» البرلمانية، وتحصيل دعم قوي من حركة «النهضة»، ما أدى إلى نيله ثقة أغلب النواب في أكثر من تعديل وزاري.