الجزائر | يواصل الجزائريون حراكهم الرافض لاستمرار رموز النظام السابق في الحكم، وذلك بالتعبئة الواسعة أيام الجمعة في كل المحافظات والمدن، على رغم أجواء الحَرّ الشديد التي كانت تتوقع السلطات أن تؤدي إلى تراجع حجم التظاهرات. وبدت جلية، مرة أخرى، القطيعة بين المواطنين ومؤسّستَي الرئاسة والحكومة، إذ إن المتظاهرين جددوا رفضهم المطلق بقاء الرئيس المؤقت عبد القادر بن صالح، ووزيره الأول نور الدين بدوي، في منصبَيهما، على اعتبار وجودهما أحد الأسباب الرئيسة لرفض انتخابات 4 تموز/ يوليو المقبل، التي سيشرف عليها هذان المسؤولان المحسوبان على نظام الرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة، ما يجعلها في نظر المواطنين «مزورة مسبقاً».اللافت أن الجزائريين في جمعة أمس، الثالثة عشرة منذ بدء الحراك الشعبي، وفي التي سبقتها، تجاوزوا تماماً مسألة رحيل بن صالح وبدوي، المنتهية بالنسبة إليهم، وتوجهوا مباشرة إلى رئيس أركان الجيش، الفريق أحمد قايد صالح، الذي يرونه صاحب السلطة الفعلية في البلاد، متهمين إياه بـ«عرقلة الحلّ السياسي ومحاولة فرض انتخابات يرفضها الشعب». وذهبت هتافات بعض المتظاهرين إلى حدّ وصف قايد صالح بأنه «خان الحراك»، مع تأكيدهم أنهم يميزون بين قائد الجيش، وبين أفراد الجيش. جراء ذلك، تبلورت مخاوف خلال الأسبوعين الأخيرين من وجود مناورات يقودها رأس العسكر لفرض هذه الانتخابات، من أجل إعادة بسط نفوذ النظام السابق عبر وجوه جديدة، بما يبقي الجيش حاكماً فعلياً من وراء الستار. وهو ما تصدت له الشعارات الجديدة التي بات يرفعها المتظاهرون: «دولة مدنية لا عسكرية»، «جمهورية لا ثكنة»، «قايد صالح ارحل»، «لا توجد انتخابات أيها العصابات».
يلتزم رئيس الأركان الصمت المطبق منذ بدء رمضان على غير عادته


ويظهر أن السلطات العسكرية باتت تضيق بهذه التطورات، ولذلك شهدت العاصمة غلقاً محكماً لكل مداخلها، ما صعّب حياة القادمين إليها، سواء للتظاهر أو لقضاء مصالحهم. كما تعاملت الشرطة بعنف مع المتظاهرين في ساحة البريد المركزي في قلب العاصمة، وأرادت بكل الوسائل تفريقهم ومنع تجمعهم في هذا المكان الذي اكتسى مع الوقت رمزية كبيرة وصار معقلاً للمناوئين لقائد الجيش وطريقته في إدارة مرحلة ما بعد بوتفليقة. في المقابل، لا يخلو المشهد من مؤيدين لقايد صالح، كنوع من العرفان له على عمليات المحاسبة لكبار المسؤولين السابقين، وأيضاً لاعتقادهم بأن الرجل يواجه لوبيّات داخلية وخارجية فرنسية بالخصوص، تعمل على إدخال البلاد في حالة فوضى عبر الدفع إلى الفراغ الدستوري. لكن هذه المساندة يبدو أثرها محدوداً في الشارع، وتتركز في مواقع التواصل الاجتماعي ولدى أحزاب وشخصيات سياسية انقلبت من مساندة بوتفليقة إلى رئيس أركان الجيش، على غرار حزبَي السلطة البارزَين: «جبهة التحرير الوطني» و«التجمع الوطني الديموقراطي».
في خضمّ ما يجري، يلتزم قايد صالح الصمت المطبق منذ بدء شهر رمضان، وهو الذي تعوّد أن يتوجه إلى الجزائريين أيام الثلاثاء بخطاب جزؤه الأكبر سياسي. ويبدو ذلك، وفق متابعين، ناتجاً من «ارتباك في صفوف قيادة الجيش» إزاء الوضع، في ظلّ رفض الشارع الانتخابات في هذه الظروف، ما يعني أن المغامرة بتنظيمها ستكون خطأً قاتلاً قد يحوّل الجيش إلى خصم للشارع، وهذا من أسوأ السيناريوات. لذلك، يجري العمل، وفق بعض المصادر، على طرح «خطة بديلة بإمكانها تلبية مطالب الحراك الشعبي وإعادة مصالحة الجزائريين مع قيادة العسكر، بما يضمن انتقالاً سلساً ومأموناً للسلطة». وتُطرح في هذا الإطار فكرة فتح حوار يكون فيه الجيش طرفاً مع مكونات الطبقة السياسية والحراك الشعبي للتوافق على أسماء معينة يمكنها أن تقود مرحلة انتقالية قصيرة، تسمح بتهيئة الظروف لإجراء انتخابات رئاسية بإشراف هيئة مستقلة محايدة. وعملياً، بدأ الحراك الشعبي يقدم بعض الأسماء مثل أحمد طالب الإبراهيمي، وهو وزير الخارجية السابق الذي يشير مقربون منه إلى أنه «لا يرفض تقديم خدمة في آخر حياته عبر رئاسة المرحلة الانتقالية»، لكن هذا الاسم يبقى بعيداً عن الإجماع، في ظل ارتباطه بالتيار الإسلامي واعتباره لدى آخرين «وجهاً قديماً من وجوه النظام».
بموازاة المأزق السياسي، يصنع جهاز القضاء الحدث الإعلامي في البلاد، بعد شروعه أول من أمس في الاستماع لنحو 60 مسؤولاً سابقاً في نظام بوتفليقة، يتقدمهم الوزيران الأولان السابقان، أحمد أويحيى وعبد المالك سلال، بتهم تتعلق باستغلال النفوذ وتقديم امتيازات غير مشروعة والتمويل الخفي للأحزاب السياسية، وذلك في قضية رجل الأعمال النافذ علي حداد، الذي أدلى باعترافات جرّت هؤلاء المسؤولين إلى المساءلة. لكن الجزائريين منقسمون في نظرتهم إلى هذه الإجراءات، بين من يراها «عملية محاسبة حقيقية تصبّ في خانة تطهير البلاد من بقايا النظام الفاسد»، وبين من يقول إنها «مسرحية لتحوير الأنظار عن المطالب الرئيسة»، في ظلّ عدم تمتع العدالة باعتراف نقابة القضاة، بغياب الاستقلالية في عملها، وبالنظر إلى القوانين التي تمنح الوزراء السابقين شبه حصانة تعطّل محاسبتهم.