الجزائر | ألقى بيان كلّ من وزير الخارجية الأسبق أحمد طالب الإبراهيمي، وشيخ الحقوقيين الجزائريين علي يحيى عبد النور، والجنرال المتقاعد رشيد بن يلس، حجراً في مياه الأزمة السياسية الراكدة بفعل حالة الانسداد التي دفع إليها تمسك السلطة بخيار تنظيم انتخابات رئاسية تلقى رفضاً شعبياً واسعاً. وكسرت الشخصيات الثلاث حاجز الاقتراب من المؤسسة العسكرية، التي تُعدّ في الواقع الممسك الحقيقي بالقرار في البلاد، في ظلّ سلطة مدنية معزولة وضعيفة، مُمثّلة في الظاهر في رئيس الدولة المؤقت عبد القادر بن صالح، ووزيره الأول نور الدين بدوي.ووردت في البيان الذي نشرته الشخصيات الثلاث «دعوة المؤسسة العسكرية بإلحاح إلى فتح حوار صريح ونزيه مع ممثلي الحراك الشعبي والأحزاب السياسية والقوى الاجتماعية المؤيدة له، من أجل إيجاد حل سياسي توافقي في أقرب الآجال». ويرى أصحاب البيان أن «التمسك بالانتخابات الرئاسية في 4 تموز/ يوليو سيزيد من حالة الانسداد السياسي التي تحمل أخطاراً جسيمة على البلاد، ولن يؤدي إلا إلى تأجيل ساعة الميلاد الحتمي للجمهورية الجديدة». وشدد الثلاثة على أنه لا بد من فتح حوار لبدء مرحلة انتقالية قصيرة المدة، لأنه «لا يمكن تصور إجراء انتخابات حرة ونزيهة ترفضها من الآن الأغلبية الساحقة من الشعب، لأنها من تنظيم مؤسسات ما زالت تديرها قوى غير مؤهلة معادية للتغيير والبناء».
وجاء التفاعل مع هذه المبادرة سريعاً من عدة أحزاب وشخصيات، إذ أصدر المرشح الرئاسي السابق، علي بن فليس، بياناً يؤكد فيه أن ما طرحته الشخصيات الثلاث يضع الإطار للحل، من خلال الحوار الذي يُعدّ السبيل الأمثل لتجنيب البلاد مختلف التوترات. كما أيّد رئيس حزب «جيل جديد»، جيلالي سفيان، الفكرة، معتبراً أنها تمثل البديل الأمثل لخيار الانتخابات، الذي سيؤدي إلى الصدام مع الشعب، وهو عين ما ذهب إليه أيضاً المحامي والوجه البارز في الحراك الشعبي، مصطفى بوشاشي. بدوره، قال رئيس حزب «جبهة العدالة والتنمية»، عبد الله جاب الله، إنه لا يرى بديلاً من محاورة المؤسسة العسكرية باعتبارها السلطة الحقيقية في البلاد، بعد ثبوت قصور الحل الدستوري عن تلبية مطالب الحراك.
من المنتظر أن يردّ قايد صالح اليوم على الدعوة إلى حوار مباشر مع الحراك


ومن الواضح أن دعوة أحمد طالب الإبراهيمي ورفاقه، إلى الذهاب إلى «مرحلة انتقالية»، قد كسرت طابع هذا المصطلح الذي يثير مخاوف كثيرين من الدخول في الفوضى قياساً إلى تجارب دول أخرى، وحرّرت في المقابل الأحزاب والشخصيات الداعية إلى هذه المرحلة الانتقالية، والتي تواجه حملات تشويه وتخوين واسعة النطاق على مواقع التواصل الاجتماعي. وكان الرهان، لدى بعض الرافضين للمرحلة الانتقالية والمتحمّسين لما يطرحه رئيس أركان الجيش، على أن يقبل أحمد طالب الإبراهيمي الترشح للانتخابات الرئاسية في 4 تموز/ يوليو، باعتباره شخصية وطنية تحظى بقبول واسع، ما يدعم من جهة الحل الدستوري الذي ينادي به الجيش، ويحقق من جهة أخرى بعض مطالب الحراك. كما راهن آخرون على إمكانية أن يتولى الإبراهيمي رئاسة الدولة بشكل مؤقت، خَلَفاً لعبد القادر بن صالح، عبر تعيينه في مرحلة أولى رئيساً للمجلس الدستوري.
لكن الإبراهيمي، بموقفه الأخير، أسقط كل رهان عليه في إنقاذ ما يعرف بـ«الحل الدستوري»، ما يعني فتح الباب واسعاً أمام باقي الحلول السياسية المطروحة. ذلك أن الانتخابات الرئاسية المقررة بعد ما يقارب 45 يوماً، تُعدّ عملياً مستحيلة التنظيم، في ظلّ عدم وجود مرشحين جادين من الشخصيات والأحزاب المعروفة (بقي يومان فقط على غلق باب الترشيحات)، ورفض القضاة الإشراف عليها وامتناع رؤساء البلديات عن المشاركة في تنظيمها، فضلاً عن الرفض الشعبي الهائل المُعبَّر عنه في كل جمعة منذ تنصيب الرئيس المؤقت في 11 نيسان/ أبريل. وفي هذه الظروف، يبدو لزاماً اليوم على المؤسسة العسكرية، التي ظلّت تصارع في الأسابيع الماضية من أجل «الحل الدستوري»، أن تفكر في حلول أخرى، حتى لا تتحمّل العبء وحدها، عندما تنقضي فترة الرئيس المؤقت يوم 6 تموز/ يوليو المقبل، وتدخل البلاد حالة الفراغ الدستوري. لذلك، يُنتظر أن تستجيب المؤسسة العسكرية لهذه الدعوات، من أجل إيجاد مخرج يُرجَّح أن يكون على شكل مجلس رئاسي يدير المرحلة الانتقالية، مع حكومة تصريف أعمال محايدة لفترة لا تتجاوز 6 أشهر، يتم خلالها ترتيب الظروف المناسبة لإجراء انتخابات رئاسية، تمتلك مقومات النزاهة والمصداقية.
وسيكون ردّ المؤسسة العسكرية المنتظر اليوم، من خلال خطاب الفريق أحمد قايد صالح، مؤشراً قوياً على حقيقة ما تريده المؤسسة العسكرية، التي باتت أصوات كثيرة في الشارع تتهمها صراحة بالعمل على تجديد النظام نفسه عبر دعمها الضمني للرئيس المؤقت والانتخابات التي دعا إليها، وهو ما وضع رئيس الأركان في مرمى الحراك الشعبي، الذي بات جزء منه يطالب برحيله، في تعبير عن اليأس من إمكانية أن يأتي الحل على يديه. وتُعرف المؤسسة العسكرية في الجزائر بهيمنتها على القرار السياسي منذ الاستقلال، حيث كانت تُلقَّب بـ«صانعة الرؤساء»، ثم تراجع دورها قليلاً مع سنوات الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، الذي عَرَف كيف يُحيّدها من المشهد من أجل تدعيم حكمه، واليوم يتجدد احتمال عودتها إلى التحكم في القرار، في حال فشل الحراك الشعبي في توجيه البلاد نحو الخيار الديموقراطي.