أثار خطاب رئيس أركان الجيش أحمد قايد صالح في الـ 19 من الشهر الحالي، الذي ذكر فيه أن «للجزائر علماً واحد يمثل سيادتها واستقلالها ووحدتها الترابية والشعبية»، وأدان خلاله «محاولات اختراق المسيرات ورفع رايات غير العلم الوطني من قبل أقلية من المتظاهرين»، ردود أفعال حادة على شبكات التواصل الاجتماعي. وإذا كان هدف قايد صالح التشكيك بصدقية المعارضة «الديموقراطية» التي تُجاهر بموقف شديد العداء للجيش، وشلّ فاعليتها، فإن أنصارها بثوا أفلاماً على شبكات التواصل تُظهر حملهم الراية نفسها خلال مسيرات عدّة، بما فيها مسيرة يوم الجمعة الماضي، في تحدٍّ واضح له. التطورات السياسية والميدانية، والملاحقة القضائية للعديد من الرموز المتهمين بالفساد، كانت قد ساهمت في تهدئة قطاعات معتبرة من الرأي العام، وبالتالي بالحد من عدد المتظاهرين. وبات «الديموقراطيون»، اليوم، والتيار البربري الهوياتي (الأمازيغي) عميق الجذور بينهم، ويتفرّدون في طرح المطالب الأكثر تشدداً.رأس الحربة الأيديولوجي للتيار البربري الهوياتي، هو الدفاع عن «هوية بربرية». أنصار هذه الأيديولوجية تارة يدَّعون التحدث باسم شعوب شمال أفريقيا، وطوراً باسم أقليات لغوية «أصلية» مزعومة، ويتفاوت مستوى جذرية خطابهم بين تنظيم وآخر. ظهر هذا التيار إلى العلن للمرة الأولى في الجزائر عام 1949، عندما اعترض أعضاء في قيادة «الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية» ــــ التي ولدت من رحمها «جبهة التحرير الوطني» ــــ على إصرارها على الانتماء العربي والإسلامي للبلاد، ونادوا بالاعتراف بانتمائها «البربري». فرضت ضرورة وحدة الصف خلال حرب التحرير، تأجيل هذا المطلب، لكنه عاد ليُطرح بعد الاستقلال، وأضحى المكوّن الأيديولوجي الرئيسي في الخطاب المعارض للنظام. وجاء قرار حسين آيت أحمد، قائد أول حزب معارض جزائري، «جبهة القوى الاشتراكية» (وهي حزب بربري جزأري، والجزأرة تعني تياراً أيديولوجياً وسياسياً يجعل من التنوع الثقافي في الجزائر وقضية البربر ذريعة لتحدي الهوية العربية)، في كسب المؤيدين في منطقة القبائل التي يتحدَّر منها، ليعطي طابعاً جهوياً لمعارضته لنظامي أحمد بن بلة وهواري بومدين، الأمر الذي كان له أثر كبير في المخيال الجمعي الجزائري.
استمر التيار البربري الهوياتي بالنمو بشكل موازٍ لسياسة التعريب التي اعتمدتها الدولة الجزائرية وتطورت أيديولوجيته كذلك. وهي انتقلت من مفهوم غائم «للهوية البربرية» مستلهم من الأدبيات الاستعمارية بشأن الموضوع في أربعينيات القرن الماضي، إلى المحاولات الأولى لاختراع لغة مكتوبة بربرية، وسلكت مساراً نظرياً طويلاً، مستندة إلى أعمال المفكر وعالم اللسانيات الجزائري مولود معمري، وإلى مساهمات الأكاديمية البربرية في باريس (جمعية ثقافية).
المواجهة بين السلطة وأنصار هذا التيار وقعت بعد منع محاضرة لمولود معمري في جامعة تيزي أوزو عام 1980، تأسست على إثرها «الحركة الثقافية البربرية، وهي تجمع سري يضم مروحة واسعة من الناشطين ينتمون الى تيارات سياسية مختلفة من التروتسكيين إلى الليبراليين. وشهد عقد التسعينيات دخول أحزاب وجمعيات إلى الحلبة السياسية تعلن انتماءها الجزئي أو الكامل إلى التيار الهوياتي البربري، كـ«التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية»، وبروز نمط جديد من التنظيمات كـ«المؤتمر الأمازيغي العالمي»، وهي منظمة غير حكومية مغربية لا تعتمد حيال النظام المغربي سياسة عدائية كتلك المعتمدة من قبل فرعها الجزائري تجاه النظام في الجزائر.
لم يؤدِّ الانفتاح التدريجي للدولة على مطالب هذا التيار، والسياسات المعتمدة منذ تسعينيات القرن الماضي (الاعتراف بـ«البعد البربري في الهوية الوطنية» إلى جانب الإسلام والعروبة عام 1995)، والتي توّجت بتبنّي البرلمان قانوناً يكرّس التمازيغت «لغة رسمية»، إلى النتائج المرجوة. فالتيار الثقافوي البربري، الذي برز بعد انتفاضة عام 2001، تحوّل إلى تيار إثني يقطع مع موروث حرب التحرير. وأصبحت إحدى سماته، حالياً، تضخّم الاتجاه الانفصالي وذلك المنادي بالحكم الذاتي، اللذَين يعملان من أجل قطيعة، ثقافية في الحد الأدنى، مع غالبية الجزائريين. تندرج الفروع الجزائرية لـ«المؤتمر العالمي الأمازيغي» (حركة الحكم الذاتي لمنطقة القبائل «ماك»، ولـ«بلاد الشاوية» وللمزاب) ضمن هذا الاتجاه. ولم تعد شخصيات كفرحات مهني، قائد الجناح الأكثر راديكالية في «الماك»، تتردّد في الإجهار بعدائها للجزائر وقربها من فرنسا وإسرائيل. وهو أعلن أمام «الجمعية الوطنية الفرنسية»، أن «خلفيات الصراع بين السلطة الجزائرية وبلاد القبائل أكثر حدة وعمقاً من تلك المرتبطة بالصراع بين الأخيرة وفرنسا». ولا يتورّع مهني عن تحريف التاريخ عندما يصف التعريب بالاستعمار الثقافي، وتقديم سكان منطقة القبائل كمجموعة إثنية منسجمة تخوض صراعاً دائماً مع السلطة المركزية. لم يكن للقبائل عبر التاريخ من وجود كجماعة سياسية متميزة، ولم يسبق أن تطلّعوا إلى السيادة. فكرة وجود هوية سياسية للقبائل اختراع استعماري فرنسي.
وقد ذهب مهني إلى حد مماهاة سكان منطقة القبائل بالإسرائيليين والنظر للصهيونية على أنها «نموذج سياسي يحتذى لتحقيق التطلعات الوطنية». الإسرائيلي إسحق لورسات، خصص مقالة لزيارة مهني الرسمية لإسرائيل برفقة ليزيد عبيد ــــ والتي استقبلا خلالها من قبل النائب في الليكود، داني دانون ــــ بعنوان «مقابلة مع فرحات مهني، الرئيس القبائلي في إسرائيل». وتطرق لورسات إلى خطاب قائد «الماك»، الذي زعم أن القبائل شاركت في النضال من أجل استقلال الجزائر، وكانت غالبية الذين سقطوا من أجله منها... لكنهم أصبحوا بعد ذلك أول ضحايا السلطة الجديدة بعد عام 1962، أو بحسب تعبير مهني، باتوا يهود الجزائر الجدد. وممّا يثير المزيد من الدهشة هو إعجاب الكثير من أبناء القبائل بإسرائيل التي تمثل برأيهم «نموذجاً ودولة شقيقة».
هذا الخطاب المتطرف لا يبتعد كثيراً عن ذاك الذي تروج له تيارات هوياتية بربرية تشرع بدورها في تحريف تاريخ المرحلة الاستعمارية. ولم يعد سراً أن علاقات ربطت الموساد بالقوى الانفصالية، كما يذكر الضابط السابق في الاستخبارات الإسرائيلية، يوسي ألفر، في كتابه «الأطراف: بحث إسرائيل عن حلفاء شرق أوسطيين». وعلى الرغم من افتقاد التيار الهوياتي البربري قاعدة شعبية واسعة، فأنصاره في معظمهم من أوساط بورجوازية وبورجوازية صغيرة، وكذلك من أوساط طلابية، إلا أن وزنه السياسي والإعلامي كبير كما اتضح مع اعتقال شخصيات منتمية إليه، أو قريبة منه، أو توجيه تهم إليها على خلفية قضايا فساد.