قبل أيام، حلّ وزير الدفاع التونسي المستقيل، عبد الكريم الزبيدي، ضيفاً على برنامج تلفزيوني من بين الأكثر مشاهدة في البلاد. منذ انطلاق مسيرته السياسية قبل ثلاثة عقود، لم يظهر الزبيدي إعلامياً في لقاء حواري مشابه. لذلك، كانت تلك فرصة لاختبار قدراته الخطابية وتقييم برنامجه. جرى الحوار المباشر تحت أعين المشاهدين الذين رأوا الزبيدي سابقاً وهو يتلعثم، ويتلقى توجيهات من مساعدين له عند تقديمه ملف ترشحه بداية هذا الشهر. عملياً، ظهرت على الزبيدي خلال الحوار العلامات السابقة نفسها، فقد بدا عاجزاً عن تكوين جمل كاملة، وسادت حديثَه فترات صمت حرجة توجّه خلالها بأنظاره نحو الفراغ، ولم يكن إلى جانبه أحد هذه المرة لإنقاذه. عانى الرجل من الارتباك، على رغم خلوّ الجوّ من الضغط الذي اعتادت مقدمة البرنامج تسليطه على ضيوفها، حيث تعاملت معه بليونة، وكانت في أحيان كثيرة تحاول إكمال جمله وسدّ فراغات إجاباته، أو حتى اقتراح/ تخمين إجابات عن أسئلتها.
لا يزال الزبيدي يتصرف كإداري، ولا يتقن التوجه إلى الرأي العام

من ناحية المضمون، ركز المرشّح على نقطتين: خلق مسافة من «حركة النهضة»، وإظهار تأثره بشخصية الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي. حول النقطة الأولى، أظهر الزبيدي موقفه السلبي من «النهضة»، مُذكِّراً بأحد وعوده الانتخابية الخمسة التي أعلنها سابقاً، وهو الكشف عن «الجهاز السري» المزعوم الذي تديره الحركة، وإقامة رابط بينه وبين اغتيال الزعيمين اليساريَّين شكري بالعيد ومحمد البراهمي. إعلان العداء لـ«النهضة» ليس أمراً خاصاً بالزبيدي، فهو قاسم مشترك بين أغلب المرشحين الرئاسيين الذي يصنفون أنفسهم ضمن «العائلة الوسطية»، لكن الأمر في حالته مختلف قليلاً. بعد تلميحه إلى وجود ارتباط بين الحركة والاغتيالَين، عاد الزبيدي ليتحدث عن إعجابه بـ«سياسة التوافق» التي صاغها قائد السبسي، والتي على أساسها شُكِّلَت حكومة مع الإسلاميين، وتحدث عن فترة تولّيه وزارة الدفاع في حكومة ترأسها «النهضوي» حمادي الجبالي، من دون أن يبدي تحفظات عليها، على رغم أن الاغتيالَين وقعا خلال حقبة إدارتها للبلاد. قد يمثل ذلك مفارقة منطقية، لكن الزبيدي ليس صاحب هذه المعادلة، بل ورثها عن الرئيس الراحل الذي كانت له القدرة على إلقاء اتهامات تجاه «النهضة» والتشكيك في نياتها والتحالف معها في الوقت نفسه. خلال الحوار، عمل الرجل على إظهار ولائه للسبسي، لا بوصفه زعيماً سياسياً فقط، بل أيضاً باعتباره شخصاً كان بمثابة «الوالد أو الشقيق الأكبر»، إلى درجه تصريحه بأنه سيحمل معه صورته ليضعها على مكتبه في حال انتخابه رئيساً.

حدود النموذج
استقى الباجي قائد السبسي أسلوبه في إدارة العلاقات والحديث، من «عرّابه» السياسي، الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة. عندما وصل بورقيبة إلى السلطة بعد استقلال البلاد، كوّن حكوماته من شبان كان أغلبهم في بداية عقد الثلاثينيات، ومن بينهم قائد السبسي، وشكّل شخصيتهم السياسية عبر توجيهاته اليومية لهم وخطاباته الطويلة، فحملوا بصمته طوال مسيرتهم. لا ينطبق الأمر نفسه على الزبيدي الذي تشكلت شخصيته السياسية زمن زين العابدين بن علي. لا يحمل الرجل أيّاً من صفات الرئيسين الراحلين، فهو لم يخُض نضالاً حزبياً طويلاً، ولا يملك قدرات خطابية، ولا يتقن لغة الجسد، ولا يجيد المناورات وتلقف اللحظات السياسية. باختصار، يمثّل الزبيدي نموذج سياسيّي حقبته.
خلال فترة حكمه، عمل بن علي على تصعيد عدد من الوجوه الحكومية الجديدة، مِمّن تطغى عليهم النزعة التكنوقراطية. وطوال عقدين ونصف عقد من حكمه، لم يكن كثير من التونسيين يعرفون وزراء الحكومات، لأنهم ببساطة كانوا مُبعدين عن الإعلام والرأي العام وعن الشؤون الحزبية، وكل ما طُلب منهم كان يدور حور التسيير المحكم للإدارة والتخطيط. يمثل الزبيدي هذا النموذج، ويشهد على ذلك تاريخه، فهو كان أستاذاً جامعياً، ثم عُيّن في مناصب إدارية مختلفة، ثم صار كاتب دولة، وانتهى وزيراً. يوجد كثير من السياسيين على الساحة من أبناء هذا الجيل، وقد جاءت عودتهم القوية بعد انتخابات عام 2014، عندما قرّر قائد السبسي الاستفادة من خصالهم التي من أهمها بُعدهم عن المؤامرات السياسية وإثارة القلاقل. يعمل حتى الآن بعض هؤلاء في مناصب حكومية، لكنهم مغمورون، أما السواد الأعظم منهم فقد فشل في إحياء مسيرته السياسية. أبرزهم كان رئيس الحكومة السابق، الحبيب الصيد، الذي جاء به السبسي ثم أزاحه بعد قرابة العام من دون أن يبدي الأول أيّ مقاومة.
مع هذه الانتخابات، ستظهر حدود النموذج الذي ينتمي إليه الزبيدي، فهو الوحيد من بين جيله السياسي الذي تَقدّم لخوض تجربة الانتخابات الرئاسية (فيما الآخرون كانوا يعوّلون دائماً على التعيين ولم يصعدوا عبر الانتخاب). حتى الآن، لا تبدو النتائج إيجابية، إذ إنه لا يزال يتصرف كإداري، ولا يتقن التوجه إلى الرأي العام، ويبدو صعباً على أعضاء حملته وداعميه، الذين كانوا أساساً وراء فكرة ترشحه للانتخابات، تغيير ما راكمته العقود، خلال بضعة أسابيع.