أُوقِف، يوم الجمعة الماضي، رئيس حزب «قلب تونس»، نبيل القروي، ومدير حملته الرئاسية، شقيقه غازي القروي، وأُودِعا السجن. حصل الأمر فجأةً، حيث دهمت قوات أمنية سيارة المعنيَّين عندما كانا في طريق العودة من اجتماع لحزبهما. على الفور، استنفرت قناة «نسمة» التلفزيونية الآلة الإعلامية للأخوين القروي، واصفةً ما حصل بـ«عملية الاختطاف» التي نفذها «بوليس يوسف الشاهد (رئيس الحكومة)». لم يتأخر التوضيح الرسمي، إذ تتالت بيانات شرحت أن الإيقاف تنفيذ لبطاقة جلب قضائية ترتبط بقضايا غسل أموال وتهرب ضريبي وتحايل، تعود إلى عام 2016. رُفعت القضية في الأصل من طرف جمعية «أنا يقظ» المهتمة بالشفافية المالية، وحُقِّق فيها على مدى الأعوام الأخيرة، لكنها بدأت في التطور الشهر الماضي بتجميد أموال المتهمَين وحظر السفر عليهما. أما عملية الإيقاف، فقد جاءت بعد رفض استئناف القرار الأخير.الطابع القضائي للمسألة لا يعني شيئاً من وجهة نظر الداعمين للقروي وآلته الإعلامية، فما حصل بالنسبة إليهم «تصفية سياسية لأكثر المرشحين شعبية بقرار مباشر من الشاهد». وتشنّ «نسمة»، منذ اليوم الجمعة، حملات تضامن مع القروي، تُبَثّ مباشرة على الهواء أغلب ساعات النهار، وشارك فيها حتى الآن عشرات الضيوف الغاضبين. بشكل واضح، تراوح المسألة بين القضائي والسياسي، فالملف القضائي لم يتحرك طوال ما يقارب ثلاثة أعوام إلا مع دنوّ موعد الانتخابات الرئاسية. لكن مع ذلك، لا يوجد دليل واضح على مسؤولية الشاهد عن تحريك الملف، خصوصاً أن الأخير حصّن نفسه بتوكيل مهماته باعتباره رئيس حكومة إلى أحد وزرائه قبل أيام، في قرار برّره بـ«ضمان حياد مؤسسات الدولة خلال فترة الانتخابات»، كما قال في خطاب متلفز.
ردود الفعل على إيقاف القروي لم تخرج في معظمها عن التشكيك في توقيت القرار القضائي، والتلميح إلى شبهات توظيف سياسي. جاءت آخر المواقف المشابهة أمس في بيان لـ«الاتحاد العام التونسي للشغل»، كبرى المنظمات النقابية في البلاد، وصاحب الحضور الواسع في الحياة العامة. أشار البيان إلى أن المناخ الحالي تشوبه «الإشاعات والتشويهات والضبابية، وخاصة في مستوى التعامل القضائي والأمني، إحدى أهم الوسائل غير المشروعة للتنافس الانتخابي». وشدد على «الحرص التام على استقلالية القضاء، وعدم الزجّ به في الصراعات السياسية حتى يقوم بدوره كاملاً من دون انتقائية»، موجّهاً نداءً إلى القضاء بـ«رفض التعليمات وتحكيم القانون والضمير القضائي»، ومحذراً من «تعكير المناخات الانتخابية»، ما قد يفضي إلى «فسادها ويهدد بعودة الاستبداد».

عودة إلى الأصل
بيانات الأحزاب والمنظمات، على رغم حرصها على حياد القضاء وتساوي فرص المرشحين وتلميحها إلى عودة ممارسات قديمة، تجاهلت حقائق أخرى مرتبطة بمسيرة القروي وشقيقه. فلأعوام، أدى الأخوان أدواراً مهمة في الحياة السياسية، باستخدام نفوذهما الإعلامي. تأسّست قناة «نسمة» أواخر زمن حكم زين العابدين بن علي، وقد كانت مشروعاً لتنويع المشهد الإعلامي من دون إخراجه من دائرة طاعة النظام. تخصّصت القناة حينها في برامج الترفيه والـ«توك شو»، واستفادت من ارتباطها بشركة إنتاج إيطالية يملكها رئيس الوزراء الأسبق، سيلفيو برلوسكوني، مع كلّ ما يشوب ذلك من شبهات ارتباط بشبكات فساد إيطالية.
بعد سقوط النظام، ترنّحت «نسمة» قليلاً، لكنها استعادت توازنها مرة أخرى بالمراهنة على الباجي قائد السبسي. وفق تصريحاته، أدى نبيل القروي دوراً محورياً في إقناع قائد السبسي بتشكيل حركة «نداء تونس»، ثم في رفع أسهمها شعبياً عبر الدعاية لها والدعاية المضادة لخصومها، لا عبر التلفزة فقط، بل كذلك عبر لوحات إعلانية منتشرة في الفضاءات العامة تتبع شركة يملكها الأخوان القروي. استمرّ الودّ بين الرجلين لأعوام، لكنه تراجع عندما قرر القروي بعث مشروعه الخاص، وللحكاية تفاصيل مثيرة. بدأ الأمر بحادث مرور عرضي توفي فيه نجل نبيل القروي، قبل أن يتحول سريعاً إلى مشروع خيري عبر جمعية «خليل تونس»، وبرنامج مرتبط بها يُبثّ على «نسمة» بالاسم نفسه. الفكرة كانت بسيطة، لكن مؤثرة. أشرف نبيل القروي على الدعاية للجمعية عبر التلفزة، وتلقى مساعدات من الناس، أعاد توزيعها في الأرياف القصيّة والأحياء الشعبية.
أدى نبيل القروي دوراً محورياً في إقناع قائد السبسي بتشكيل حركة «نداء تونس»


تدريجاً، اكتشف الرجل أنه يتحدث إلى جمهور واسع يقع بأغلبه خارج حسابات الانتخابات (أي الفئات التي تعزف عادةً عن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية)، لتبدأ شعبيّته بالصعود. واصل القروي عمله «الخيري» إلى أن اقترب موعد الانتخابات، فشرع في التلميح إلى إمكانية خوضه إياها، وقد عانى مشروعه حينها من تضييق حكومي عبر التدقيق في حسابات الجمعية، ومنعها من إقامة موائد إفطار رمضانية، ومحاولة إقفال «نسمة»، واقتراح تعديلات إقصائية في القانون الانتخابي. مع ذلك، استمرّ المشروع، ليعلن القروي ترشحه للرئاسة، ويجمع حوله عدداً من السياسيين المتنقلين بين التشكيلات السياسية ويؤسّس حزب «قلب تونس».
في خضمّ هذا الزخم، لم يكن شيء يعكّر صفو المشروع سوى قضية قديمة. إنها شكوى جمعية «أنا يقظ» المرتبطة بشبهات إجرامية لشركات يملكها الأخوان القروي في تونس والجزائر والمغرب ولوكسمبورغ. شكوى جاء ردّ فعل نبيل القروي عليها عنيفاً، إذ شنّت «نسمة» هجوماً على مسيّري «أنا يقظ»، توضحت تفاصيله في تسريبات صوتية لاجتماعات تحريرية من داخل القناة، تحدث فيها الرجل مع موظفيه بأسلوب أخلاقي هابط عن مضايقته عائلة مدير الجمعية، ورميه باتهامات من قبيل «العمالة لأميركا»، معرباً عن ثقته بأنه لن يحاسَب جراء القدح والتشهير، فأقصى ما سينتظره خطية مالية، أو هكذا كان يظنّ!
اليوم، لم يُمنع نبيل القروي من خوض الانتخابات، فذلك يستوجب وجود حكم قضائي نهائي. لا يزال الأمر ضبابياً، إذ ربما تُمدّد فترة إيداعه السجن، مع إمكانية خوضه السباق وهو محبوس. قد يكون الهدف من إيقاف القروي، بصرف النظر عن مدبّره، حرمانه تنظيمَ حملة انتخابية سليمة، لكن قد يمنحه الأمر أيضاً مظلومية ترفع أسهمه أكثر في صفوف داعميه.