كان متوقعاً أن يعلن رئيس الحكومة المكلّف، أمس، عن فريق عمله الحكومي، لكن ذلك لم يحصل. بعد لقائه رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، أدلى الجملي بتصريح أعلن فيه تأجيل الأمر لـ«التحرّي جيداً في كفاءة ونزاهة المرشحين وبعدهم عن الالتزام الحزبي»، مكتفياً بالقول إن المسألة ستُحسم قريباً. هذا التأجيل غير المتوقع يرجّح أن يكون سببه رفض رئيس الجمهورية مرشحَي وزارتَي الخارجية والدفاع، واللذين يتمّ اختيار شاغلَيهما بالتشاور معه كما يقول الدستور.ويعمل الجملي على تشكيل حكومة مستقلين، وهو ما كان قد أعلنه يوم الاثنين الماضي بعد انهيار المفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية على رغم وصولها إلى مرحلة متقدّمة شملت اتفاقاً مبدئياً على تقسيم الحقائب والأدوار. وقال الجملي، في كلمته تلك، إنه تمّ الاتفاق «على كلّ شيء، حتى في توزيع الحقائب... (رغم) تشبّث الأحزاب بشروط قصوى». وشرح المنهج الذي تبنّاه خلال المفاوضات بالقول إنه حرص على أن يوجد «حضور رمزي للأحزاب (15 وزارة) وبقية الوزارات (تُكلَّف بها) كفاءات وطنية متخلّصة تماماً من الاعتبارات السياسية»، مؤكداً أنه ليس لديه نية «خدمة أيّ حزب وإن كان حزب حركة النهضة».
لكن الأحزاب التي رفضت المشاركة في الحكومة شكّكت في استقلالية الجملي والشخصيات التكنوقراطية التي اقترحها، لناحية ارتباطها بـ«النهضة». إذ قال الأمين العام لحزب «التيار الديموقراطي»، محمد عبو، في تصريحات إعلامية، إنه تمّ اقتراح أسماء وزراء قُدّموا كمستقلين، لكن ثبت أنهم مرتبطون بـ«النهضة»، مشيراً بالأخصّ إلى وزارة الداخلية. وشكّك عبو حتى في التزام الجملي و«النهضة» بتطبيق ما ورد في الاتفاق المبدئي مع حزبه، والذي ينصّ على منح الأخير وزراتَي العدل والإصلاح الإداري بصلاحيات كاملة. أما «حركة الشعب» فقد برّرت انسحابها من مشاورات تشكيل الحكومة برفضها المزج بين المتحزّبين والمستقلين. وأعلن الأمين العام للحركة، زهير المغزاوي، أنهم يريدون «حكومة سياسية بحتة مبنية على مقاربات ورؤى وبرامج واضحة»، وهو ما لم يتحقق بناءً على رغبة الجملي منح 10 حقائب ذات طابع اقتصادي للمستقلين، إضافة إلى رفض رئيس الحكومة المكلّف صياغة وثيقة «إعلان سياسي» تُحدّد مهمات الحكومة وتوجّهاتها الكبرى. كذلك، أعلن حزبا «تحيا تونس» و«ائتلاف الكرامة» انسحابهما من المشاورات الحكومية لأسباب مماثلة.
يعمل الجملي على تشكيل حكومة مستقلين بعد انهيار المفاوضات لتأليف حكومة ائتلافية


وكانت المشاورات بين الجملي والأحزاب قد تعطّلت في مرحلة أولى، قبل أن تُستأنف بجهود وساطة من نشطاء سياسيين، لتنهار مرّة أخرى. لكن، مع ذلك، لا يمكن القول إن فشل مسار تشكيل حكومة ائتلافية لم يكن متوقعاً، في ظلّ حالة انعدام الثقة التي تسود المشهد السياسي، والتي برزت منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية. إذ تنظر أغلب الأحزاب بعين الريبة إلى «حركة النهضة»، على أساس سجلّها السياسي في الأعوام الأخيرة، حيث تعرّضت أغلب الأحزاب التي تحالفت معها سابقاً لهزّات وصراعات داخلية تلاها فشل انتخابي. يضاف إلى ما تقدّم تقلّب مواقف الحركة التي عقدت تحالفات غير منتظرة، كان آخرها الاتفاق مع حزب «قلب تونس» على تصعيد زعيم «النهضة» إلى رئاسة البرلمان، على رغم العداوة التي شابت علاقتهما أثناء الحملة الانتخابية. وقوبل تكليف حبيب الجملي نفسه بموجة تشكيك؛ ففي حين وصفته «النهضة» بأنه شخصية مستقلّة قادرة على تجميع الأحزاب، شكّكت هذه الأخيرة في استقلاليّته، وخاصة أنه كان قد عمل سابقاً في حكومة تزعّمتها الحركة. وحتى قرار الجملي الأخير تشكيل حكومة مستقلين يُنظر إليه كخيار اتخذته «النهضة»، وفق ما أوحى به بيان مكتبها التنفيذي الذي صدر قبل كلمة الجملي، وتبنّى «تشكيل حكومة إصلاح وإنجاز» غير متحزبة. ويتّضح من البيان، الذي تحدّثت فيه «النهضة» عن تقديمها تنازلات لإرضاء الأحزاب، أن خيار تشكيل حكومة مستقلّين مدروسٌ ويصبّ في اتجاه واضح، هو الخطة البديلة التي وضعتها الحركة، وتقوم على إرضاء حزب «قلب تونس» الذي طالب بتشكيل «حكومة كفاءات». وفي هذا الإطار، يروج في الكواليس السياسية أن التشكيلة الحكومية ستتكوّن أساساً من شخصيات مقرّبة من الحركة والحزب، لكن من دون انتماء مباشر إليهما.
ويبدو كلّ شيء جاهزاً للمضيّ في تطبيق ذلك التوجّه. لكن العنصر الوحيد الذي يبدو معطّلاً له هو رئيس الجمهورية، بحسب ما أنبأ به أمس رفضه المرشحَين لوزراتَي الدفاع والخارجية. والظاهر أن حسابات الرئاسة تذهب إلى أبعد من ذلك، وخصوصاً أن سعيّد عبّر أخيراً عن رفضه لما يحاك في كواليس السياسة، وهو يتقابل بشكل منتظم مع الأحزاب التي انسحبت من المشاورات الحكومية. وفي حال تواصل عدم رضى رئيس الجمهورية، فإنه يمكنه لعب ورقة الوقت، عبر الاستمرار في رفض المقترحات للوزارتين اللتين يشرف على عملهما، ما قد يؤدي إلى تدخله مباشرة لتكليف شخصية أخرى من اختياره لتشكيل الحكومة، في حال فشل الجملي في عرض فريقه على البرلمان خلال الفترة المتبقية له، والتي لا تتجاوز أسبوعين وبضعة أيام.