الجزائر | لم يكن يوم 22 شباط/ فبراير 2019 عاديّاً في تاريخ الجزائر؛ فقد عرفت البلاد فيه تظاهرات عارمة شملت كلّ المناطق من دون استثناء، رفضاً لترشّح الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة، ومطالبةً برحيله هو وشقيقه السعيد بوتفليقة الذي كان متحكّماً بالرئاسة. وأمام قوة التصميم الشعبي، لم يصمد الرئيس بوتفليقة أكثر من شهر ونصف شهر، ليُجبَر على تقديم استقالته بعد أن تخلّى عنه حليفه القوي، رئيس أركان الجيش الراحل أحمد قايد صالح. وبسقوط بوتفليقة، تَحرّك القضاء لتفكيك تكتّلات مالية قوية كانت مستفيدة من دعم محيط الرئاسة لها، ليدخل رجال أعمال نافذون السجون، ويجرّوا معهم مسؤولين كباراً في الدولة، في مقدّمتهم الوزيران الأولان السابقان أحمد أويحيى وعبد المالك سلال وحوالى 20 وزيراً. وفي أعقاب التحوّلَين المذكورَين، بدأ الانقسام يدبّ في صفوف الحراك، الذي لم ينجح في تصدير قيادة موحّدة تتولّى التفاوض باسمه. وعلى رغم اجتماع المتظاهرين على شعارات من قبيل بناء دولة القانون، وتمدين العمل السياسي، وتطبيق المواد الدستورية التي تضع السلطة بيد الشعب، إلا أنهم بدوا مختلفين على وسائل تحقيق ذلك. هكذا، ظهر أن ثمة تيارين: أحدهما يرفض أيّ مسار للحلّ مرتبط بالسلطات، وثانيهما لا يمانع الانخراط في المسار الدستوري الذي أصرّت الأخيرة على البقاء ضمنه. وعلى مرّ أشهر طويلة تخلّلها تأجيل الانتخابات الرئاسية مرّتين متتاليتين تحت ضغط التيار الأول، ظلّ التنازع قائماً ما بين أقطاب الخارطة السياسية، في وقت صعّدت فيه السلطات هجماتها على معارضيها، بتنفيذها عمليات اعتقال واسعة لنشطاء وشخصيات سياسية، وفرضها تعتيماً إعلامياً على المسيرات، وجنوحها إلى قمع المتظاهرين في بعض الولايات، من دون أن تنزلق الأمور إلى العنف، حيث لم يُسجَّل سقوط ضحايا، فيما بقيت «السلمية» سيدة الموقف.
ومع إعلان المؤسسة العسكرية سعيها لإجراء انتخابات رئاسية في 12 كانون الأول/ ديسمبر المقبل، ازداد الانقسام حدّة؛ إذ رفض جزء من الحراك هذا المسعى بشدّة، لاعتقاده بأن الظروف غير ملائمة لإجراءات انتخابات نزيهة تعبّر عن حقيقية خيارات الجزائريين، فيما نحا جزء آخر متمثل في أحزاب وشخصيات إلى الانفتاح على دعوة الانتخابات، باعتبارها الوسيلة الأنسب والأسلم لتحقيق المطالب التي رفعها المتظاهرون. وفي ظلّ الضعف الذي اعترى موقف ما يمكن تسميته «التيار المتشدّد»، المتهم من قِبَل البعض بالتعنّت ورفض أيّ طرح يمكنه إخراج البلاد من عنق الزجاجة، أُجريت الانتخابات بعد سلسلة خطوات استهدفت تنفيس الاحتقان واكتساب المصداقية أمام الجمهور (من قبيل إطلاق سراح المعتقلين، وإصدار أحكام مشدّدة بحق رموز النظام السابق). وأفرزت العملية، التي شكّك «حراكيون» في نزاهتها وتحدّثوا عن نسبة مقاطعة واسعة لها، وصول عبد المجيد تبّون، وهو أحد وزراء عهود بوتفليقة، إلى رئاسة البلاد.
يعتقد قسمٌ من الحراك أن الرئيس الحالي جزء من المنظومة، ولذا يرفض التعامل معه


وشرع تبون، منذ وصوله إلى الرئاسة، في تنفيذ إجراءات يرى أنها كفيلة بتخليص البلاد من تركة النظام السابق. ويستهدف الرجل، بحسب ما يعلن في لقاءاته الإعلامية وآخرها مع صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية، الذهاب بالإصلاحات السياسية إلى نهايتها، من خلال «إحداث قطيعة مع الممارسات السيئة، وأخلقة الحياة السياسية، وتغيير نمط الحكامة، والمراجعة الشاملة للدستور»، وهو ما يعتقد أنه يمكن أن يحلّ الأزمة ويحقق «التغيير الجذري» الذي ينادي به الحراك. ويعتبر تبون أن الحراك «حصل تقريباً على كلّ ما يريد، حيث لم تكن هناك عهدة خامسة، ولا حتى تمديد للعهدة الرابعة، ثم استقال الرئيس، كما أن الوجوه الأكثر بروزاً في النظام السابق قد ذهبوا كذلك، وتمّ الشروع في مكافحة أولئك الذين دمّروا الاقتصاد». كما يعتبر أن «الأمور بدأت تتّجه نحو التهدئة، بعد أن فهم الجزائريون أنه لا يمكن إصلاح وترميم ومعالجة ما تمّ تهديمه خلال عقد، في ظرف شهرين».
لكن في المقابل، يعتقد قسمٌ من الحراك أن الرئيس الحالي جزء من المنظومة، ولذا يرفض التعامل معه أو الاعتراف بإصلاحاته. وهذا ما عكسته الشعارات التي رُفعت أمس في مسيرة العاصمة، حيث وُصف تبون بـ«الرئيس المزوّر»، وبأنه «صنيعة المؤسسة العسكرية». وردّد المتظاهرون، كذلك، هتافات تدعو إلى رحيل كلّ الرموز السياسية المحسوبة على النظام، رافضين قرار الرئيس اعتبار «22 فبراير يوماً وطنياً للتلاحم بين الشعب والجيش»، معتبرين ذلك محاولة للسطو على رمزية الحراك وتحويله في اتجاه آخر. أيضاً، وزّع نشطاء، أمس، بياناً حمل عنوان «بيان 22 فيفري» يدعو إلى مواصلة «التجنيد السلمي» من أجل تحقيق تغيير جذري في منظومة الحكم. ودعا البيان إلى «تكريس السيادة الكاملة للشعب في إطار نظام ديمقراطي اجتماعي مدني». كما دعا إلى «الحرية في تشكيل الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات أو الانخراط فيها»، و«مكافحة الفساد السياسي والاقتصادي بكلّ مظاهره».
إزاء كلّ ما تقدّم، وعلى رغم اعتقاد بعض الخبراء بأن الأمور في الجزائر لا تزال على حالها، وأن ما ستقوم به التركيبة الجديدة في الحكم هو توزيع بعض «المكتسبات السياسية» في شكل إصلاحات محدودة، من دون أن تكون لها القدرة على «شراء السلام الاجتماعي» بفعل الأزمة الاقتصادية، إلا أن آخرين يرون أن مسار التغيير في البلاد يتطلّب وقتاً. وفي هذا الإطار، تقول مديرة البحوث في «المركز الوطني للبحث العلمي» في فرنسا، كريمة ديريش، إن «البعض يريدون رؤية الأمور تسير بشكل أسرع وأسرع بكثير، لكنني أعتقد أن هذه الوتيرة مناسبة جداً لهذه الحركة الاحتجاجية غير المسبوقة».