نَشَطت الولايات المتحدة في ليبيا في الأسابيع الماضية بصورة غير مسبوقة، منذ قيادتها التدخل العسكري لإطاحة نظام معمر القذافي. تَركّزت تحرّكات واشنطن في الشقّ الدبلوماسي خاصة، عبر الاتّصالات مع الفاعلين الليبيين والإقليميين، لكنها شملت أيضاً الجانب العسكري والاستخباري والاقتصادي. يبدو الهاجس الأميركي، مجدّداً، الدور الروسي المتزايد في ليبيا، والذي لا يزال جزؤه الأهمّ غير رسمي حتى الآن، إذ يتمثّل الحضور الروسي العسكري في عناصر شركة «فاغنر» الخاصة، الموجودين في أهمّ قاعدة جوية في البلاد في منطقة الجفرة (وسط)، وفي بعض أهمّ مواقع إنتاج النفط وتصديره في إقليم فزان (جنوب غرب) وخليج سرت.تقوم مقاربة واشنطن على بحث حلول آنية تُمهّد الأرضية لأخرى مستدامة. مؤخراً، كشفت الولايات المتحدة عن اقتراحها إنشاء منطقة منزوعة السلاح وسط البلاد، تخدم كمساحة عازلة بين الشرق والغرب. يهدف ذلك إلى توفير ضمانة أمنية لطرفَي النزاع، قوات المشير خليفة حفتر وقوات حكومة «الوفاق»، عبر استبعاد احتمال تجدّد القتال، وأيضاً حماية البنى التحتية النفطية التي تتركّز في الوسط. أما الحلّ المستدام فيقوم على التفاوض، وينقسم إلى محاور ومراحل. ويُفترض أن تبدأ الخطوة الأولى في المستقبل القريب، عبر إجراء مراجعة مالية للمصرفَين المركزيَّين في البلاد (الوحيد المعترف به دولياً هو في طرابلس ويتبع «الوفاق»)، يليها بحث اتفاق حول طريقة توزيع عوائد النفط الذي أَوقف موالون لحفتر إنتاجه منذ مطلع العام. بالتوازي، تجري محاولات، خاصّة في ما يتعلّق بغرب البلاد، لخلق أجهزة عسكرية نظامية وتقليم مخالب الميليشيات المنفلتة. إذا سار كلّ ما تقدّم وفق المرجوّ، يُفترض أن يتمّ وضع خطوات بناء ثقة، عبر إقامة جسور تواصل مباشر وتعاون عسكري بين شقَّي البلاد. أما الجانب السياسي، فهو الأصعب والأكثر تعقيداً، وتبدو أيّ حلول في شأنه بعيدة المنال، إذ لن يرضى أيّ طرف بها ما لم تَصبّ في مصلحته بشكل مباشر.
يقول بعض أعضاء المجلس الرئاسي لحكومة الغرب إن السراج ينفرد باتخاذ القرارات


تهدف الجهود الأميركية إلى الإمساك بخيوط الملفّ وإدارته، من منطلق أن الولايات المتحدة هي القوة الكبرى الوحيدة التي لم تتورّط بشكل مباشر في مستنقع الحرب، فيما باتت هذه المنطقة الاستراتيجية وسط المتوسط ساحة تصارع على النفوذ بين أوروبا وتركيا وروسيا ومصر وداعميها الخليجيين. تحاول أوروبا أن ترسم صورة موحّدة لدورها في ليبيا، لكن ذلك يحدّ من هامش تحرّكها. وتبدو مشاغل فرنسا، أكثر دولها انخراطاً في الملف، متركّزة على احتواء الحضور التركي المتزايد. أمّا روسيا فلا تمارس دورها بوجه مكشوف، متماهية في ذلك مع السعودية، والإمارات (وإن بدرجة أقلّ). وعليه، فالدولتان الوحيدتان اللتان تلعبان دوراً عسكرياً معلناً في ليبيا هما تركيا ومصر، وينحصر بالتالي خطر المواجهة المباشرة بينهما.
لتركيا حضور عسكري متزايد في غرب ليبيا، ولا سيما في قاعدة الوطية الجوية التي رفعت من قدراتها بشكل ملحوظ وصارت تستقبل طائرات قتالية تركية، وكذلك في القاعدة الجوية في مدينة مصراتة التي غادرها الطاقم الطبي العسكري الإيطالي (يشغّل فيها مستشفى منذ أعوام) بطلب من أنقرة. أمّا مصر، فقد اكتفت منذ 2014، سنة تصدّر حفتر للمشهد العسكري شرق ليبيا، بتوفير الدعم اللوجستي لحليفها وتسليحه في بعض الأحيان، كما مَثّلت جسر عبور للأسلحة الإماراتية الثقيلة. لكن، عملت القاهرة في الأشهر الأخيرة، خاصة بعد خسائر حفتر العسكرية في طرابلس، على رفع مستوى الجاهزية على حدودها الغربية. وفي هذا السياق، استقبلت قاعدة حباطة الجوية، قبل أيام، 18 طائرة مقاتلة، وفق ما أظهرت صور أقمار اصطناعية.

انقسام داخل «الوفاق»
يشهد المجلس الرئاسي لحكومة «الوفاق» انقسامات بين أعضائه، تتزامن مع سخط شعبي على طريقة إدارة موارد البلاد، إذ تعيش ليبيا، وخاصة المنطقة الغربية، انقطاعاً يومياً للكهرباء يستمرّ ساعات في ظلّ درجات حرارة مرتفعة، إضافة إلى تراكم النفايات في الشوارع، ووجود نقص في توفّر وقود السيارات، علاوة على تزايد الإصابات بـ»كوفيد - 19» لتتجاوز أكثر من 250 حالة يومياً في الفترة الأخيرة.
يقول بعض أعضاء المجلس الرئاسي إن فائز السراج ينفرد باتخاذ القرارات، على رغم أن رئاسة الحكومة تعود إلى المجلس ككلّ وليس إلى رئيسه فقط. في المقابل، انبرى رئيس المنطقة العسكرية في طرابلس، اللواء عبد الباسط مروان، للدفاع عن السراج، واصفاً بعض أعضاء المجلس بالـ»فئة المعطِّلة والمحبِطة»، ومعتبراً أن مواقفهم «لا تخدم مطلقاً إلا بعض الأطراف المحليين ومن يدعمهم دولياً»، في إشارة إلى حفتر وداعميه الخارجيين.
بالتوازي، ظهرت حملة داعمة لسيف الإسلام القذافي على شبكات التواصل الاجتماعي تحت اسم «رَشّحناك»، قالت إنها تُجهّز لمسيرات في ليبيا بدءاً من عشرين آب/ أغسطس الجاري. لا يُعرف من يقف وراء هذه الحملة، لكنها قد تكون إحياءً لمشروع روسي لدعم نجل القذافي، خصوصاً أنه سبق أن سُرّب برنامج سياسي أعدّه «صندوق حماية القيم الوطنية» الروسي، يصبّ في هذا الاتجاه. وفق الوثائق المتوافرة، أرسل «صندوق القيم» باحثين من الروس إلى ليبيا قبيل انطلاق هجوم حفتر على طرابلس في 4 نيسان/ أبريل 2019، حيث التقوا سيف الإسلام، وأعدّوا استراتيجية إعلامية وسياسية لصالحه. ويبدو أن «رَشّحناك» تتبع الكثير من النقاط الواردة في تلك الاستراتيجية، خاصة عبر محاولة خلق حراك انطلاقاً من شبكات وصفحات ومواقع إلكترونية، وكذلك خلايا تنسيق على الأرض. أوقفت حكومة «الوفاق»، في نيسان/ أبريل من العام الماضي، باحثَين روسيَّين لا يزالان معتقلَين لديها على رغم مطالبات موسكو بالإفراج عنهما. وهذه المرّة، قال آمر المنطقة العسكرية الغربية، اللواء أسامة جويلي، إنه لن يتمّ السماح بتنظيم تظاهرات لهذا الحراك «الذي سينضمّ إليه كلّ المندسّين من داعمي العدوان على العاصمة»، بحسب ما يقول.