بعد غموض في المواقف اكتنف فترة تشكيل الحكومة، قررّ الحزبان الأكبر في البرلمان التونسي، إضافة إلى كتل أصغر، دعم حكومة هشام المشيشي عشية عرضها لنيل الثقة. جاء القرار في وضع سياسي معقّد؛ إذ برزت في الأيام الأخيرة، إضافة إلى تحفّظات أغلب الأحزاب على تركيبة الحكومة، ملامح خلاف بين الرئيس المكلّف ورئيس الدولة الذي اختاره. وجرى اختيار المشيشي، الذي كان يشغل منصب وزارة الداخلية في الحكومة السابقة، عقب استقالة سلفه إلياس الفخفاخ على خلفية اتهامات له بالفساد. وآثر المشيشي تشكيل حكومة مستقلة، السواد الأعظم من أعضائها موظفون كبار في الدولة أو قضاة ومحامون. في بيان مجلسه الوطني الاثنين، قال «قلب تونس» (26 نائباً) إنه دعا «الكتلة النيابية للحزب إلى منح الثقة للحكومة المقترحة»، وذلك على رغم «ما عرفته المشاورات حول تركيبة الحكومة من عراقيل ومواقف عبثية ومتناقضة تتضارب ونواميس الدولة، ومن تداخل بين صلاحيات السلطات». لكن الحزب أعرب أيضاً عن تحفّظه على الأسماء التي وقع تعيينها على رأس «وزارات السيادة»، وهي الداخلية والخارجية والدفاع أساساً، وتضاف إليها وزارة العدل، لأنها «تفتقد إلى الكفاءة والخبرة والاستقلالية». وقال رئيس الحزب، نبيل القروي، إنه سيعمل مستقبلاً مع «النهضة» على سحب الثقة من هؤلاء الوزراء واستبدالهم. بدوره، أعلن مجلس شورى حركة «النهضة» (57 نائباً)، في بيان فجر الثلاثاء، خياره التصويت لصالح الحكومة، لكنه عبّر عن تحفّظه على «أسلوب التفاوض والحوار الذي رافق مسار تشكيل الحكومة وعلى هندستها وعلى عدد من الأسماء المقترحة فيها»، وأضاف أن «موقفه ثابت في التمسّك بحكومة سياسية ذات حزام برلماني وشعبي واسع».
جاءت مواقف الحزبين غداة اجتماع في القصر دعا إليه الرئيسُ أحزاباً وكتلاً برلمانية، واختلفت الروايات حول ما جرى خلاله. إذ قالت رئاسة الجمهورية إن سعيّد أكد للحاضرين أن «لا مجال لتمرير الحكومة ثمّ إدخال تحويرات عليها بعد مدة وجيزة»، فيما ذكر القروي أن سعيّد اقترح عليهم الإبقاء على حكومة الفخفاخ مع تغيير رئيسها، وطمأنهم إلى أنه لن يحلّ البرلمان إن لم يرغبوا في منح الثقة لحكومة المشيشي. ويتماشى حديث القروي مع الأنباء التي تَسرّبت حول وجود خلاف بين سعيّد والمشيشي، برز خاصة عند التأخر في إعلان تركيبة الحكومة بسبب ضغوط من القصر لفرض أسماء وزراء بعينهم، ثم تقرّب رئيس الحكومة المكلّف من «النهضة» المتحالفة في البرلمان مع «قلب تونس».
يصف مراقبون ما يحصل في تونس بأنه «انحراف رئاسوي» للنظام السياسي


ما يُتداول حالياً هو أن الحزبين الأكبر في البرلمان ينويان تطويع رئيس الحكومة الجديد، عبر إبعاده عن رئيس الدولة مقابل ضمان الاستقرار لحكومته في مجلس النواب ودعمه سياسياً. يتبنّى حزب «التيار الديمقراطي» هذا التحليل، وهو اعتبر أن حكومة المشيشي تفتقر إلى برنامج ورؤية، كما تشمل وزراء كانوا جزءاً من نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. بناءً على ذلك، لم يُصوّت الحزب الذي كان من أبرز مكوّنات حكومة الفخفاخ لصالح الحكومة الجديدة. التنظيم الآخر الملتحق بالمعارضة هو حركة «الشعب» التي كانت أيضاً طرفاً مهمّاً في الحكم. إذ رأت الحركة أن النهج المتّبع في تشكيل الفريق الحكومي غير سليم، بعد أن اقترحت تشكيل حكومة سياسية من دون أن تجد آذاناً صاغية من رئيس الدولة الذي تدعمه.

انحراف أم إنقاذ؟
طوال فترة نشاطه بعد سقوط نظام بن علي، لم يُخفِ قيس سعيّد رفضه لمنظومة الحكم الوليدة، لا بأحزابها الحاكمة فقط، بل كذلك المعارضة. حاولت أحزاب التقرّب من الرجل عند ترشّحه للرئاسة، وأخرى بعد أن صار رئيساً، لكنه رفض محاولاتها. يَعتبر سعيّد أن الأحزاب تُزيّف إرادة الناس ولا تُمثّلها، وهو يدعو إلى منظومة حكم جديدة قوامها الأفراد والديموقراطية المباشرة، يرى فيها خصومه خطراً، ويُشبّهونها استهزاءً بـ«مشروع القذافي».
لا يمكن للرئيس، حالياً، على رغم ما يتمتع به من نسبة تأييد شعبي مرتفعة، إطاحة النظام السياسي القائم. تقف الأحزاب حاجزاً أمام ذلك، وقد صارت كلّها تقريباً تَعتبر أن مشروعه خطر محدق بالانتقال الديموقراطي. لكن سعيّد ينوي خوض صراعه على مراحل. بهذا المعنى، تُمثّل حكومة المشيشي انتصاراً لسعيّد على الأحزاب. ليست هذه أوّل حكومة تكنوقراطية في العشرية الأخيرة، لكنها أوّل حكومة تُشكَّل من دون رضا الأحزاب وما يُعرف بالمنظمات الوطنية (الاتحادات المهنية)، أشرف على انتقاء أعضائها رئيسٌ حرص الدستور على تقليص صلاحياته التنفيذية.
يصف مراقبون ما يحصل في تونس بأنه «انحراف رئاسوي» للنظام السياسي، فيما تراه أحزاب أهمّها «النهضة» انتهاكاً للدستور. في المقابل، يعتبر أنصار الرئيس أن ما يجري عملية «إنقاذ» للبلد من أحزاب متصارعة فشلت في إدارة النظام السياسي على رغم أنه وليد دستور وضعته هي «على مقاسها». سيكون هشام المشيشي أمام مهمة صعبة للموازنة بين القصر والبرلمان. قال الرجل في خطابه إنه سيُركّز على المسائل التقنية، خاصة معالجة عجز الموازنة الذي فاقمته الأزمة، لكن قد يتعيّن عليه الاختيار بين أحد الطرفين.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا