بعد مخاضٍ عسير، وفي ظلّ تحالفات تخالف عداوات سابقة، انتخب ممثّلو الليبيين في «ملتقى الحوار الوطني»، السلطة الجديدة التي يُفترض أن تتولّى إدارة مرحلة انتقالية تنتهي بإجراء انتخابات يوم الـ 24 من كانون الأول/ ديسمبر المقبل، لتسليم السلطة إلى نظام منتخَب شعبياً، بإشراف دولي. وبعدما اضطرّت البعثة الأممية للركون إلى نظام القوائم الانتخابية وإجراء تصويت على مرحلتَين، جرى اختيار قائمة محمد المنفي التي ضمّت في عضوية المجلس الرئاسي كلّاً من: عبد الله اللافي وموسى الكوني، والتي حازت 39 صوتاً في المرحلة الثانية من التصويت، في مقابل 34 صوتاً لقائمة رئيس البرلمان عقيلة صالح ووزير داخلية «الوفاق» فتحي باشاغا، والتي حصدت غالبية طفيفة في الجولة الأولى.مرّت عملية الانتخاب هذه في مخاض عسير في ضوء السجالات الكثيرة التي تخلّلتها، فيما حازت النتائج، التي تَعهّد جميع الأطراف باحترامها، ترحيباً أممياً ودولياً. والنظام الانتقالي مسؤول عن تأليف الحكومة واختيار الوزراء في فترةٍ أقصاها 21 يوماً قبل الحصول على موافقة البرلمان؛ وفي حال تعذُّر الأخيرة، وخصوصاً أنه لا يُتوقّع أن ينجح أعضاء البرلمان في عقد جلسةٍ موحّدة للمرّة الأولى منذ عام 2014، تحصل الحكومة حينها على ثقة «ملتقى الحوار السياسي» المسؤول بدوره عن مراقبة كلٍّ من الحكومة والمجلس الرئاسي. نظرياً، أصبح لليبيين سلطة انتقالية جديدة مسؤولة عن البلاد، وسط مطالب واضحة بعدم التوقيع على أيّ اتفاقات مصيرية من قِبَل الحكومة الانتقالية، سواء التي انتهت ولايتها برئاسة فائز السراج، أو الجديدة التي شكّل اختيارها صدمةً في مصر والخليج، لكون قادتها المنتخَبين محسوبين على تيار الإسلام السياسي، بخلاف قائمة عقيلة صالح التي دعمتها القاهرة والرياض وأبو ظبي، وهو ما يمثِّل انتصاراً كبيراً للأتراك. أمّا عمليّاً، فستواجه الحكومة الجديدة مشكلات جمّة على أرض الواقع؛ مردُّ ذلك ليس التمديد المحتمل للفترة الانتقالية وحسب، بل أيضاً العداوات الكثيرة التي اكتسبتها مُقدَّماً، من رئيس البرلمان الذي خسر الانتخابات ولكنّه لم يُقدِم على الاستقالة من منصبه، ومن وزير الداخلية في حكومة «الوفاق» الذي يمتلك سيطرة فعلية على قطاع واسع من القوات العسكرية، وهو موقف ينسحب على أسامة الجويلي، آمر المنطقة العسكرية الغربية في «الوفاق» والعدوّ اللدود للواء المتقاعد خليفة حفتر. يدفع ذلك إلى احتمال حصول مواجهة في الفترة المقبلة بين السلطة الجديدة والمرشّحين الخاسرين الذين رفضوا الاستقالة من مناصبهم قبل الترشُّح، في وقت لا يُتوقّع فيه أن يكون رئيس مجلس الدولة قادراً على إزاحة خليفة حفتر من قيادة الجيش، على رغم صلاحياته الواسعة، وذلك بسبب الصدام الذي يمكن أن يحدث، فضلاً عن عرقلة نقطة توحيد المؤسسات التي ستكون على رأس أولويات الحكومة.
شكّل اختيار السلطة الانتقالية صدمةً في مصر والخليج، لكون قادتها المنتخَبين محسوبين على تيار الإسلام السياسي


في هذا الوقت، تسود حالة من الترقُّب نتائج مفاوضات محورَين مهمَّين؛ الأوّل بدأت فعالياته أمس في سرت بين أعضاء اللجنة العسكرية في اجتماع يُفترض أن يستمرّ عدّة أيام لبحث نشر المراقبين الدوليين، إلى جانب آليات سحب المرتزقة من ليبيا وإعادتهم إلى بلادهم، فضلاً عن مسألة فتح الطرق، فيما سيكون على المشاركين في الاجتماع التوافق على تثبيت وقف إطلاق النار بعد الاضطرابات التي حدثت في أعقاب الخلاف حول تمديد مهلة سحب المرتزقة. واضطرّت البعثة الأممية، في الاجتماع السابق، إلى التراجع عن قرار تمديد مهلة إخراج المرتزقة بعد انتهائها الشهر الماضي بموجب الاتفاق الموقّع لوقف إطلاق النار في جنيف، مؤكّدة ضرورة الخروج الفوري، من دون أن تحدد أيّ آليات لهذا المطلب، بينما تسود حالة من المماطلة بالنسبة إلى هذه النقطة على وجه التحديد من قِبَل بعض المشاركين في الحوار، أملاً في إرجائها حتى اللحظة الأخيرة، باعتبارها من النقاط المثيرة للجدل وشديدة التعقيد. أمّا المحور الثاني، فمرتبط بالحلّ الدستوري، والذي سيناقش في الاجتماعات في الغردقة، من أجل تحديد ضوابط إجراء التصويت على التعديلات الدستورية، وعلى أساسها إجراء الانتخابات وسط تفاؤل بسرعة الانتهاء من هذا المسار لاستكمال باقي المسارات الخاصّة بتعيين مسؤولي الأجهزة السيادية، وتحديد آليات التعيين وسرعة اعتمادها لإعادة توحيد مؤسسات الدولة. وبحسب مصادر تحدّثت إلى «الأخبار»، فإن البعثة الأممية تسعى إلى أن تتسلّم الحكومة الجديدة خريطة واضحة من مخرجات هذه الاجتماعات قبل تسلُّم السلطة، لتجنّب تكرار أخطاء «اتفاق الصخيرات»، وما تبعه من أزمات لم تنتهِ حتى اليوم، بحيث تكون الحكومة الجديدة مسؤولة عن تنفيذ تلك المخرجات من دون أن يكون لها حقّ الاعتراض عليها، مع الأخذ في الاعتبار أن قاعدة الإجماع وآلية توزيع المناصب التي أتت بالسلطة الجديدة، ستضمَن عدم وجود انفراد في القرارات التي ستحظى باعتراف المجتمع الدولي.
المؤكد أن السلطة الانتقالية الجديدة لن تكون قادرة على الدخول في صدامات مع عدة شخصيات بإقصائها من مناصبها أو حتى مطالبتها بالاستقالة، وخصوصاً أن البعثة الأمميّة التي توفّر غطاءً دولياً للحكومة الجديدة، لن تستطيع حمايتها على أرض الواقع من الخاسرين الذين ستكون أعينهم على الانتخابات المقبلة، أو على الأقلّ ضمان خروج آمن يجنّبهم المحاسبة عن أخطاء الماضي، وهو ما يسعى الجميع الآن إلى صياغته بشكل لا يسبّب حرجاً لأحد، ولا سيما عن فترة الحرب بين «الوفاق» وقوات حفتر. جزء من نجاح السلطة الجديدة سيكون قائماً على طريقة إدارة علاقاتها بالفاعلين الحقيقيين على الأرض؛ صحيح أن رئيس الحكومة يمتلك الكثير من الأموال التي عزّزت صعوده في الحياة السياسية، إلّا أن الجزء الرئيسي في نجاح حكومته، هو نيل الثقة من أعضاء «الملتقى». ويُتوقّع من الرجل أن يراعي التوازنات في تشكيلته الحكومية، وأن يفتح قنوات اتصال، ولا سيما مع مصر والخليج، كونه حصل على دعم من تركيا، حيث يمتلك استثمارات كثيرة.