تونس | على امتداد اليومين الماضيين، تتالت المواقف الدولية المتعلّقة بالوضع في تونس، وصبّ أغلبها في اتّجاه واحد: الاهتمام بما يدور في البلاد مع التوصية بإنهاء الوضع الاستثنائي في أسرع الآجال. لم تكن هذه الدول، بخاصّة الوازنة منها، لتتحرّج من وصْف ما جرى في تونس بـ«الانقلاب»، ودعوة الرئيس قيس سعيد إلى العدول عنه، ولكنها آثرت على اتباع نهج براغماتي إزاء ما حدث، لتعلِن تريّثها في متابعة الأحداث، على أن تحدِّد موقفها النهائي على ضوء قرارات سعيد المقبلة، والتي سيتّضح معها تصحيحه للمسار واستماعه إلى المطالب الشعبية، أو احتكاره للسلطة. وإلى غاية الآن، لم تفلح بشكل جلي، مساعي حركة «النهضة» إلى استنفار تحالفاتها الإقليمية - تركيا وقطر أساساً - من أجل لعب أوراق ضغط على الرئيس التونسي والصدح بموقف حادّ تجاهه، إلّا أن هذا الأخير استبق الخطى ليسدّ منبع المساندة، عبر بث «تطمينات» بأن الوضع الاستثنائي سينتهي بمجرّد زوال ما وصفه بـ«الخطر المحدق بالبلاد»؛ حتى أن رسائل الطمأنة وُجِّهت أيضاً إلى المفوضية السامية لحقوق الإنسان، وسط تعهُّد بعدم المساس بـ«حقوق الإنسان والحريات» في خلال هذه الفترة.ومنذ الساعات الأولى لإعلان سعيد قراراته تجميد البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه وإعفاء رئيس الحكومة، هشام المشيشي، توالت ردود الفعل الدولية. وبدا لافتاً أن أياً منها لم يصف قرارته بـ«الانقلاب»، إذ تراوحت البيانات الصادرة بين التحذير من مغبّة الانزلاق في احتراب أهلي، وبين الدعوات إلى الخروج من الوضع الاستثنائي في أقرب وقت ممكن. وقالت الخارجية الفرنسية، في آخر بياناتها، إن الوزير جان إيف لودريان دعا، في اتصال هاتفي جمعه إلى نظيره التونسي عثمان الجرندي، إلى التسريع في تعيين وزراء وتشكيل حكومة قادرة على تلبية تطلّعات التونسيين. موقفٌ بدا، وفق مراقبين، وكأنه اعتراف ضمني من جانب فرنسا بـ«شرعية» قرارات سعيد، لا سيما أنها طالبته بتنفيذها بسرعة بدل مطالبتها إياه بالعدول عنها. ومن جانبها، كشفت الخارجية التونسية أن الجرندي تولّى شرح الموقف لنظيرَيْه الفرنسي والألماني، وللاتحاد الأوروبي، بالقول إن «الطبيعة الاستثنائية لهذه التدابير تهدف إلى التنظيم المؤقّت للسلطة إلى حين زوال حالة الخطر الداهم على الدولة»، وإن سعيد «حريص على ضمان كافة الحقوق والحريات».
وجّه الغنوشي اتهامه صراحةً إلى الإمارات باستهداف «النهضة» والوقوف وراء قرارات سعيد الأخيرة


وأعربت الولايات المتحدة، بدورها، عن قلقها إزاء تطوّرات الوضع في تونس، لافتةً إلى أنها تدرس إجراءات سعيد من الناحية الدستورية، وأنه لا يمكنها أن تجزم إن كان ما جرى يُعدّ انقلاباً. وحاولت «النهضة» التي جُمّد رئيسها، راشد الغنوشي، من مهامه كرئيس للبرلمان، العمل على إقناع الدبلوماسية الأميركية وأعضاء في مجلس الشيوخ بوجهة نظرها، وحثّ الأخيرين على إدانة ما تعتبره «انقلاباً»، فيما لاقت دعوات قياديين في «النهضة» للولايات المتحدة بقطْع إمدادات التطعيمات والمساعدات الطبية عن تونس إلى حين عدول سعيد عن قراراته، استهجاناً واسعاً في أوساط الرأي العام التونسي. وتعتبر «النهضة» أن سعيها إلى حشد الرأي العام الدولي ضدّ سعيد مشروع تماماً في إطار الدفاع عن «شرعية» رئيس البرلمان وعن المنظومة الحزبية التي يتّهمها الرئيس بـ«تعفين الوضعَين السياسي والاجتماعي». وأبدت قيادات «نهضاوية» ترحيبها بالمواقف الدولية التي «تتنزل في إطار الإجماع على رفض قرارات سعيد»، ووجّه رئيسها الغنوشي، في تصريحات إعلامية، اتهامه صراحةً إلى الإمارات باستهداف الحركة والوقوف وراء القرارات الأخيرة، مناشداً «القوى المؤمنة» بالتجربة التونسية إلى معاضدة جهود الحزب في «استرجاع الشرعية». وبخلاف المتوقّع، جاء موقف المحور التركي - القطري الذي دأب على مساندة «النهضة»، محايداً وغير حاسم، إذ نقلت الخارجية التونسية، في بيان لها، عقب اتصال هاتفي بين الجرندي ونظيره التركي مولود جاويش أوغلو، أن هذا الأخير عبّر عن حرص بلاده على أمن تونس واستقرارها، وثقته في قدرتها على تجاوز المرحلة الدقيقة، مشدّداً على وقوف تركيا إلى جانب تحقيق تطلعات الشعب التونسي. أما الموقف القطري المعلَن عبر دبلوماسيتها، فاكتفى بالدعوة إلى التهدئة وانتهاج الحوار في حلّ الخلافات. واعتبرت الأحزاب المقرّبة من سعيد أن توجّه «النهضة» إلى الرأي العام الدولي يُعدّ «استقواء بالأجنبي وإصراراً على إقحام قوى إقليمية في صراع داخلي دفاعاً عن مصالحها». وقال الناطق باسم حزب «حركة الشعب»، أسامة عويدات، لـ«الأخبار»، إن «النهضة تستجدي قوى أجنبية للعدول عن إجراءات تعلم هي أنها نابعة من مطالب الشعب، وسبق أن طالب بها برلمانيون وسياسيون». وأضاف أنه لا يكفي أن «النهضة ومن معها انقلب على المسار الثوري منذ تولّت الحكم في 2011، وتجاهلت أصوات التونسيين المطالبين بحياة كريمة، وها هي تواصل ذات النهج في إحباط إجراءات جاءت تلبية لرغبة التونسيين في إنهاء فصل من العبث السياسي وتعفين الأجواء وتفتيت هيكل الدولة لصالح الجماعة». وأبرز محدّث «الأخبار» أن «المواقف الدولية لا تخضع لمنطق المناشدات، بل تكون دائماً في صفّ القوي القادر على الفعل فوق أرضه وهو موقع سعيد اليوم»، ومهما يكن من أمر، وفق عويدات، فإن هذه المواقف مؤيدة كانت أو رافضة، لا يجب أن تكون محراراً لموقف الرئاسة التونسية المطالبة بالتمسُّك بسيادة القرار الوطني.
وفي خضم تواتر المواقف الدولية، كانت الجزائر سبّاقة إلى الاتصال بسعيد وإرسال وزير خارجيتها، رمطان لعمامرة، للقائه. ويقيّم محلّلون سرعة ردّ الفعل الجزائري بشدّ عضد سعيد في خصومته مع المنظومة الحزبية، وطمأنته إلى وقوف الرئيس عبد المجيد تبون إلى صفّه. إذ قال الكاتب والمحلّل السياسي الجزائري، كمال زيات، في تصريح لـ«الأخبار»، إن «بلاده تتابع باهتمام بالغ سير الأحداث في تونس بوصفها الدولة الأهم في الفضاء المغاربي، واستقرارها مهم للجزائر من كل النواحي». وفسر زيات أن إيفاد تبون لوزير خارجيته المعروف بحنكته الدبلوماسية وسِعَة اطّلاعه على الوضع في الفضاء المغاربي يأتي في إطار جسّ نبض الطرفين (سعيد و«النهضة») حول استعدادهما للحوار، وذلك في إطار تقريب وجهات النظر وتحذيرهما من الذهاب نحو الصدام الذي ذاقت منه الجزائر الويلات في التسعينيات. ورأى أنه من المبكر الحكم على الجهود الجزائرية بوصفها وساطة بين الطرفين، ولكن الأمر الثابت أن بلاده لا تقبل أن تنزلق تونس نحو الانشقاق والتقسيم. بدوره، سارع المغرب إلى إرسال وزير خارجيته، ناصر بوريطة، محمَّلاً برسالة شفهية إلى سعيد، داعية إلى التهدئة والحوار.