يبدو إعلان رئيس الدبلوماسية الجزائرية، في الـ24 من الشهر الجاري، قطْع العلاقات مع المغرب، «المسؤول عن الأزمات المتكرّرة والمتعاظمة» كما سمّاها، ردّاً على الحملة الدبلوماسية الإسرائيلية، بالتنسيق مع الرباط، ضدّ الجزائر. الأخيرة اتّهمت المغرب، رسمياً، باستدراج حليفه الجديد الإسرائيلي إلى «مغامرة غير محسوبة» ضدّها. وفيما بعد، لم يتردّد المجلس الأعلى للأمن، الذي يترأّسه رئيس البلاد، ويضمّ القيادة العسكرية العليا، في الإشارة إلى تورّط إسرائيل والمغرب في دعم تنظيمَين إرهابيَين في الجزائر: الأوّل «ماك»، وهو حركة انفصالية في منطقة القبائل تهدف إلى تقسيم البلاد، ولا يُخفي قائدها، فرحات مهني، ميوله الصهيونية، إذ سبق له أن وصف القبائل، في كلمة له أمام «الكنيست» خلال زيارته كيان العدو في 2012، بـ«اليهود الجدد»، لافتاً إلى أن تنظيمه يستلهم «النموذج الإسرائيلي في الانفتاح والتعدّدية»، معتبراً أن على إسرائيل اعتبار «منطقة القبائل دولة شقيقة». كذلك، شكر مهني الملك المغربي على مساندته تنظيمه، وطالبه بافتتاح سفارة «لمنطقة القبائل في المغرب». وجاء الموقف الجزائري الأخير بعد توزيع سفير المغرب في الأمم المتحدة على الدول الأعضاء في «حركة عدم الانحياز» تقريراً رسمياً تُعرب فيه الرباط عن تأييدها لـ«حق الشعب القبائلي بتقرير المصير»، وهو ما شكّل، بحسب الصحافي المغربي علي المرابط، «اعترافاً شبه رسمي بالماك من قِبَل المغرب». وتُتّهم هذه الحركة بالمشاركة في إشعال الحرائق التي توسّعت في الجزائر في الأسابيع الأخيرة، وفي الجريمة العنصرية التي ذهب ضحيّتها الشاب جمال بن إسماعيل، والتي هزّت الرأي العام في هذا البلد. وتُعدّ عمليات زعزعة الاستقرار المتتالية تلك، إضافة إلى ما ظهر من قيام الأجهزة الأمنية المغربية بالتجسّس على مسؤولين ومواطنين جزائريين، من بين الأسباب التي تفسّر قرار الدبلوماسية الجزائرية اعتبار المغرب «قاعدة خلفية للتخطيط لعمليات عدوانية مستمرّة ضدّ الجزائر».
جزائر اليوم ليست نفسها «جزائر بومدين»، ولا يمكن مقارنتها بكوبا أو بإيران

ما زال الجزائريون يَذكرون التهديدات التي وجّهها وزير الخارجية القطري إلى نظيره الجزائري في 2012، خلال اجتماع لـ«جامعة الدول العربية»، سعياً لإجبار الجزائر على وقف مساندتها للنظام السوري، حيث لوّح له بأن «دور الجزائر آتٍ»، لكن تلك الواقعة لم تفلح في تبديل الموقف الجزائري، الذي عاد الرئيس عبد المجيد تبون وأكده بنفسه في مقابلة مع قناة «الجزيرة» القطرية منذ بضعة أشهر. وإذا دلّ ذلك على شيء، فإنما على أن مواقف الدبلوماسية الجزائرية حيال القضايا العربية ليست مجرّد انعكاس لالتزامها بثوابت مبدئية، أو استمرارية لرومانسية ثورية موروثة من الماضي، بل هي تعكس توجّهاً استراتيجياً محكوماً بضرورات الدفاع عن سيادة الجزائر الترابية ومصالحها الجيوسياسية والأمنية. ومن الواضح اليوم، على ضوء التطوّرات الجارية، والاستقطاب الحاصل بين الدول العربية التي انضمّت إلى معسكر التطبيع مع إسرائيل، وتلك المنخرطة في مواجهة مفتوحة معها، أن المقاربة التي تبنّتها الجزائر تبدو واقعية ومتوازنة. لكن، وعلى الرغم من الإدراك المتزايد للتهديدات المترتّبة عليها، فإن الجزائر لا تزال متردّدة في الالتحاق بالمعسكر الثاني، ممثّلاً بمحور المقاومة.
خلفيات هذا التردّد مرتبطة أساساً بطبيعة النظام الجزائري، والصلات الخاصة التي تجمعه بفرنسا، رأس حربة الإمبريالية الغربية في أفريقيا والحليف الأوّل لإسرائيل في أوروبا. فبعد وفاة الرئيس الأسبق هواري بومدين، والتخلّي التدريجي عن الخيار الاشتراكي، نشأت برجوازية جزائرية مرتبطة عضوياً بالغرب وبالمستعمر السابق. وتعاظمت هذه الصلات في القلب من سلطة أصبحت تمثّل تلك الطبقة، وهو ما يمكن الاستشهاد عليه بالعدد الكبير من الوزراء السابقين الذين انتقلوا للعيش في فرنسا، والفساد المستشري في المؤسّسات والذي يمثّل التسعير الباهظ للسلع المستوردة بما يفيد الشركات الفرنسية، نموذجاً منه. وبعد فترة وجيزة في 2019 بدا فيها أن المصالح الفرنسية أضحت مهدَّدة، اتّجهت الأوضاع للعودة إلى سابق عهدها، مع إطلاق سراح العديد من المسؤولين السابقين والمقاولين المقرّبين من فرنسا. وفي الإطار نفسه، تندرج تصريحات تبون التي يكرّر فيها تمسّكه بصداقته مع نظيره الفرنسي، على رغم أن الأخير لم يتردّد، خلال اندلاع الحرائق في شمال الجزائر، في مخاطبة الشبكات البربرية المحلّية المرتبطة بفرنسا، على حساب علاقاته الرسمية مع الحكومة الجزائرية. إذ أعرب إيمانويل ماكرون، في تغريدة، عن تضامنه مع «أصدقاء فرنسا» في الجزائر، معلِناً نيّته إرسال قدرات جوّية لإطفاء الحرائق في منطقة القبائل، بعد حملة صاخبة شنّها أنصار التيار البربري، طالبوا خلالها فرنسا بمساعدتهم. ويعني هذا التصريح المُوجّه إلى وكلاء فرنسا المحليين، والذي يمثّل خطيئة دبلوماسية بلا شكّ، أن أكلاف القدرات الجوّية المرسَلة سيدفعها دافع الضرائب الجزائري، وأن تلك الطائرات ستقوم بوظيفتها في منطقة القبائل حصراً، التي ينشط فيها تنظيم انفصالي مدعوم من إسرائيل والمغرب، وهو ما يُعدّ إشكالياً بامتياز.
جزائر اليوم ليست نفسها «جزائر بومدين»، ولا يمكن مقارنتها بكوبا أو بإيران، غير أنها لا تستطيع التعامي عن عمليات زعزعة الاستقرار التي تستهدف سيادتها وأمنها ومصالحها الوطنية والإقليمية. فالتصدّي لسياسة التحالف الثابت مع فرنسا والولايات المتحدة، المنسجمة مع مصالح بعض الدوائر السياسية والمالية، أضحى مسألة أمن قومي، إن لم يكن الأوان قد آن للبلاد التي سُمّيت يوماً بـ«مكّة الثوريين»، لأن تعود قطباً للمقاومة.