أجّجت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من الإليزيه، والتي اعتبر فيها أن «النظام السياسي - العسكري الجزائري استَند إلى ريع الذاكرة وتاريخ رسمي أُعيدت كتابته تماماً، وتَأسّس على كراهية فرنسا»، راسماً شكوكاً حول حقيقة وجود أمّة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، الأزمة المتفاقمة بين بلاده والجزائر. وعلى الرغم من أن سلسلة إشاراتِ حُسن نيّة صدرت سابقاً عن ماكرون، مِن مِثل إعادة الاعتبار للمناضل الفرنسي في صفوف «جبهة التحرير الوطني الجزائرية» موريس أودان، والاعتراف باغتيال السلطات الفرنسية المحامي والثوري علي بومنجل، وإعادة جماجم 24 من المجاهدين الجزائريين إلى بلادهم، أنبأت بإرادة الرئيس الفرنسي تحقيق المصالحة، إلّا أن تصريحاته الأخيرة أعادت تظهير رغبة واضحة في تسييس النقاش حول الذاكرة، طارحة العديد من التساؤلات في هذا الإطار.
اعتبر وزير خارجية الجزائر، رمطان لعمامرة، تصريحات ماكرون، خطأ جسيماً (الأناضول)

ويَعتبر مراقبون أن تصريحات ماكرون التصعيدية تشي بخيبة أمل لديه، نتيجة فشل محاولته «مصالحة الذاكرتَين الجزائرية والفرنسية»، خصوصاً أن التقرير الذي كان أعدّه المؤرّخ بنجامان ستورا - عن حرب الجزائر -، بطلبٍ من الرئيس الفرنسي، يمثّل بالنسبة إلى الأخير انفتاحاً قوبل بلا مبالاة الطبقة السياسية الجزائرية. لكن مصدراً مطّلعاً في الجزائر يرى أن الحسابات الانتخابية هي الدافع الأول وراء مواقف الرئيس الفرنسي، الذي كان يصف الاستعمار بأنه «جريمة ضدّ الإنسانية» خلال حملته الانتخابية في عام 2017، وأصبح يتبنّى اليوم الخطاب المعادي للجزائر لمنافَسة مرشّحَي اليمين المتطرّف، مارين لوبن وإريك زمور. ومن هنا، يرى المصدر أن «ما يقوله ماكرون اليوم لا يمكن فهمه خارج السياق الانتخابي وجنون استطلاعات الرأي، التي تُسّجل تقدّماً ملحوظاً للوبن وزمور بما يتجاوز الـ30% من نوايا التصويت»، مضيفاً أنه «مع الانزياح الواضح للمجتمع الفرنسي نحو اليمين، لم يجد ماكرون تكتيكاً أفضل من مهاجمة الجزائر لاصطياد أصوات اليمين المتطرّف، المعروف بعدائه لها، وتأزيم العلاقات معها، على الرغم من أن مواطنيها يشكّلون أكبر جالية أجنبية تعيش في فرنسا».
وفي الاتّجاه نفسه، يجزم الخبير السياسي الجزائري - السويسري المتخصّص في شؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حسني لعبيدي، بمركزية البُعد الانتخابي في اعتبارات الرئيس الفرنسي، مُذكّراً بأن توظيف العداء للجزائر في الانتخابات الرئاسية هو أمر تقليدي، ولا تشذّ انتخابات 2022 عن هذه القاعدة. وفي مواجهة التهديد الذي يمثّله الشعبوي زيمور، ومزايداته حول التأشيرات الممنوحة للجزائريين، اختار ماكرون إبراز تشدّد مفرط حيال الجزائر. ويلفت لعبيدي إلى أن الرئيس الفرنسي «يجسّد مفارقة لافتة، فبعدما افترض البعض أنه سيكون رئيس المصالحة بين البلدين لأنه أوّل رئيس ولد بعد استقلال الجزائر، ولا يحمل أعباء المسألة الاستعمارية وجيل الحرب، فقد اتّجه نحو التشدّد بدلاً من المضيّ في مسعاه لمصالحة الذاكرتَين. تصريحاته هي جزء من المزايدات الانتخابية التي ستُعطّل مسار المصالحة لأنها صادمة للسلطات الجزائرية ومهينة لقطاع واسع من الجزائريين».
تعكس قوّة الردّ الجزائري ضموراً في تأثير الأوساط المؤيّدة لفرنسا في داخل الدولة الجزائرية


لكن المحلّل السياسي الجزائري محند بيري، يرى من جهته أن تصريحات ماكرون لا ترتبط بأجندة انتخابية فقط، بل هي تندرج في إطار الاستراتيجية المغاربية لفرنسا، موضحاً أن «النفوذ الفرنسي في ليبيا تَضرّر في ظلّ اشتداد المنافسة مع تركيا في هذا البلد، وفي مالي حيث تتدخّل روسيا بدعم من الجزائر، وأخيراً في داخل الجزائر مع اشتداد التجاذب بين باريس وأنقرة على النفوذ. يتراجع موقع فرنسا في الجزائر وفي جوارها نتيجة لاحتدام الصراعات التي أشرنا إليها، والأزمة الحالية بين البلدين هي في الواقع أحد تمظهرات انحسار الدور الدولي لفرنسا». وينبّه إلى أنه «ينبغي أيضاً عدم نسيان ملفّ الماك، التيار البربري الانفصالي الذي طالبت الجزائر السلطات الفرنسية بتسليمها قياداته المقيمة على أراضيها، من دون ردّ إيجابي من باريس»، معتبراً أن «الأزمة مع باريس هي امتداد لتلك المستفحلة مع الرباط، لأن فرنسا أحد حلفاء المغرب الثابتين، وفق ما تُدلّل عليه قضية الصحراء الغربية على سبيل المثال لا الحصر».
ويوافق لعبيدي بدوره على أن البيئة الاستراتيجية الجديدة التي تتشكّل في الساحل وفي المتوسّط، وتتميّز ببروز لاعبين جدد في منطقة اعتُبرت حتى الأمس القريب حديقة خلفية لفرنسا، ليست في صالح الأخيرة، مبيّناً أن «روسيا باتت لاعباً رئيساً في الأزمة الليبية، ويتزايد وزنها في المتوسّط وفي بلدان كمالي والنيجر، ما يثير حفيظة ماكرون. تركيا تتقدّم أيضاً في شرق المتوسط، وأضحت طرفاً لا يمكن تجاهله في ليبيا وزاد اهتمامها بمنطقة الساحل». غير أن هناك، بحسب لعبيدي بُعداً آخر يتجاوز فرنسا؛ «فمنذ اعتراف إدارة دونالد ترامب بمغربية الصحراء، تَعتبر الجزائر أن السياق الجديد الذي يبدو فيه المغرب منتصراً مضرّ بمصالحها، ممّا يحفّزها على إيلاء الأولوية لعلاقاتها مع روسيا وتركيا، حتى ولو أنّنا لسنا أمام بناء محور استراتيجي بين البلدان الثلاثة. الجزائر حذرة جدّاً من سياسة المحاور».
كذلك، تعكس قوّة الردّ الجزائري، عبر استدعاء سفير البلاد من فرنسا ومنع الطيران الحربي للأخيرة من استخدام الأجواء الوطنية في إطار «عملية بركان»، ضموراً في تأثير الأوساط المؤيّدة لفرنسا في داخل الدولة الجزائرية، التي شهدت تغييرات عميقة منذ 2019 عزّزت من سطوة القوى الوطنية. وبحسب المصدر الجزائري المطّلع، فإن «حزم الموقف الجزائري حيال فرنسا يعكس ضعفاً كبيراً في قدرات اللوبيّات المرتبطة بفرنسا، إن لم يكن تهميشها تماماً». وفي الإطار نفسه، يعتقد لعبيدي أن هناك قصوراً فرنسياً في فهم تحوّلات المشهد السياسي في الجزائر، لافتاً إلى أن «فرنسا فقدت حلفاء مع رحيل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة والمقرّبين منه. هناك انحدار في الأنتلجنسيا السياسية الجزائرية. قسم منها قابع في السجون، وآخر جرى تهميشه تماماً أو اختار طريق المنفى. هناك جيل جديد وصل إلى السلطة ليست لديه عقدة نقص حيال فرنسا، ويرى أن الجزائر على درجة كافية من النضج لتختار أصدقاءها وحلفاءها. لهذه الأسباب، نلاحظ اليوم وجود خيارات في ميدان السياسة الخارجية، وتوجّهات استراتيجية مختلفة عن تلك التي اعتمدتها الجزائر حتى سقوط بوتفليقة. هذا الوضع المستجدّ يغيظ فرنسا، ويصطدم بإرادتها في الحفاظ على نفوذ في هذه الدولة، كما كان الحال في الماضي ومن دون أيّ تعديلات»، يختم لعبيدي.