تونس | لم تمرّ دقائق على إعلان اعتماد ممثّلي الدول الأعضاء في «المنظّمة الدولية الفرنكوفونية»، حتّى أرجئ موعد انعقادها الذي كان مقرَّراً الشهر المقبل في جزيرة جربة التونسية، إلى عام 2022، على أن يُصادق مجلس أمناء المنظمة على هذا التعديل. وعلى خلفية هذا القرار، انطلق خصوم الرئيس التونسي، قيس سعيد، في تهنئة بعضهم البعض، عادّين ما جرى «انتصاراً» لحراكهم الرافض لما يعتبرونه «انقلاباً على الدستور». على أن الموقف الأكثر غرابةً جاء على لسان الرئيس الأسبق، محمد المنصف المرزوقي، الذي فاخر بأن له الفضل في إفشال عقْد القمّة في تونس، كونه يرفض أن يدعو رئيس دولةٍ تمرّ بـ"انقلاب"، رؤساء الدول الفرنكوفونية الديموقراطية الـ30، إلى ضيافته. ويُعدّ تصريح المرزوقي هذا، استكمالاً لدعوته فرنسا، قبل أيّام، إلى مساعدة «المعارضة» على إسقاط سعيد، وعدم التعاون مع رئيس "انقلابي" تشهد تونس في عهده «معاداة للفرنكوفونية» وتنامياً لظاهرة "كُرْه فرنسا". المفارقة أن المرزوقي نفسه بنى حملاته الانتخابية على تبجيل القومية العربية، وعلى سرديّة مقاومة الاستعمار الفرنسي، التي وإن لم يسهم فيها، إلّا أنه ينحدر من الشقّ المعارض للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، واليوسفيين تحديداً، المؤمنين باستمرار الكفاح المسلَّح، فضلاً عن أنه استثمر في شعور التونسيين بالإهانة تجاه سياسات الهجرة الفرنسية التي ما زالت تستبطن تعاملاً عمودياً وانتقائياً مع أبناء البلد. لكنّه، مع هذا، ناقض سرديّته باعتبار نفسه ناصحاً وصديقاً محبّاً للفرنسيين، في مزايدة غير محسوبة العواقب على قيس سعيد الذي تخشى باريس جانبه المحافظ.
وإن كان المرزوقي محقّاً في مسألة «معاداة الفرنكوفونية»، إلّا أن هذا «العداء» لم يظهر بمجرّد تقلُّد سعيد منصب الرئاسة، بل له أسبابه الموضوعية، وعلى رأسها سياسة الهجرة الفرنسية والصعوبات التي تواجه المهاجرين، خصوصاً في ظلّ صعود الخطاب اليميني الفرنسي المحرّض، كما أن لها أسسها المرتبطة بالعلاقات الاقتصادية والمبادرات التجارية المختلّة مع الجانب التونسي. أمّا عن الخطاب المعادي، فباستثناء ترديد سعيد لشعارات عن السيادة الوطنية، وحديثه عن أنه ليس تلميذاً لدى فرنسا وإن لم يذكرها مباشرة، فإن مجال تحرّكه الأساسي كان عبر البرلمان الذي تم تجميده، وعلى لسان التحالف الحاكم وأضلاعه، وبخاصة «ائتلاف الكرامة» الذي اختزل برنامجه الانتخابي باسترجاع ثروات الطاقة التي تنهبها فرنسا. لكن هذا الائتلاف سارع، بدوره، إلى طلب العون الفرنسي بعد إجراءات سعيد، معوّلاً على مفاجأة فرنسية لإيقاف مسار 25 تموز.
دعا المرزوقي الفرنسيين إلى عدم التعاون مع رئيس انقلابي تشهد تونس في عهده «معاداة للفرنكوفونية»


بيد أن الاستهجان لدى الرأي العام، الذي قوبلت فيه تصريحات المرزوقي، وما تلاها من تأجيل للقمّة الفرنكوفونية، كشف أن التونسيين يفرّقون بين إحساسهم بالغبن تجاه فرنسا التي لم تغيّر من سياساتها الاستعمارية ولم تتوقّف يوماً عن سعيها إلى جعل تونس مجرّد حديقة خلفية لمصالحها، وبين الفرصة التي قُدّمت لبلادهم لاحتضان القمّة، التي وإن لن تقدِّم شيئاً على المدى القريب، ستكون لها نتائجها على المديَين المتوسّط والبعيد. فنجاح البلاد في تنظيمها، يعني استقرارها أمنياً، وما سينتج من ذلك من عودة للنشاط السياحي المتوقّف جرّاء العمليات الإرهابية منذ 2013، فضلاً عن العودة إلى جذب الاستثمارات الأجنبية التي غادرت بكثافة للأسباب نفسها.
حجَب انتشاء المرزوقي بإسهامه في إفشال عقْد القمّة الشهر المقبل، الأسباب الحقيقية التي دفعت إلى اتّخاذ هذا القرار، والتي تبدو مرتبطة بالسياق الإقليمي أكثر منها بالسياق التونسي، خصوصاً إذا ما أُخذ في الاعتبار أن فرنسا كانت حليفة للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وعرضت عليه علناً المساعدة لإخماد التظاهرات التي عمّت البلاد خلال انتفاضة 2011، وما يربطها بالأنظمة ولاء الأخيرة لها ومصلحتها السياسية والاقتصادية أساساً. لذا، وفي خضمّ الارتدادات الدولية لخطاب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عن «المستعمرات السابقة»، والتوتّر مع الجزائر ومالي الذي قد يقوّي تذمّر دول أخرى وتمرّدها على الخطاب العمودي الناضح استعماريةً إزاء دول لم تحظَ بعد باعتذار كامل وتعويض عن جرائم الحرب التي ارتكبتها فرنسا على أراضيها في حقبة الاستعمار، وفي ظلّ استمرار الأزمة الجزائرية - المغربية وتصاعدها، لم يَعد منطقياً عقْد القمة في موعدها وجمْع المختلفين على طاولة واحدة لمدّة زمنية قصيرة لن تكون كافية لتسوية هذه الخلافات. ومن هنا، اقترحت الدول الممثَّلة في المنظمة تأجيل القمة، لا تغيير مكان انعقادها، كما كان يأمل خصوم سعيد.