تونس | لم يكن مطروحاً بتاتاً لدى الرئيس التونسي، قيس سعيد، أن يفتح مواجهة مع القضاء مع بداية إعلانه الإجراءات الاستثنائية في 25 تموز الماضي، وإنما كانت حرباً مؤجّلة لها شروطها. وفي المرتبة الأولى من قائمة تلك الشروط، وضع اليد على وزارة العدل، المناط بعهدتها حصر الملفّات التأديبية للقضاة المشتبه بارتكابهم مخالفات مهنية وجرائم وفساد، وإحالتها للمجلس الأعلى للقضاء، وهو ما جرى بتعيين القاضية، ليلى جفال، على رأس هذه الوزارة. وقد لعبت الصورة السلبية التي يحملها المخيال الجمعي التونسي عن جهاز القضاء، بوصفه أداة للسطوة وتجاوز النفوذ والعدالة، دوراً مساعداً في دعم خطاب سعيد وإجراءاته تجاهه. وإن كان أكيداً أن وضع الجهاز القضائي في تونس يتطلّب وقفة حاسمة وإصلاحاً عميقاً، حتى وإن دفع تضامن القضاة في ما بينهم لرفض مجرّد توجيه الاتهامات لهم أو حتى الشبهات، إلا أن قضية رأسَي الجهاز (الطيب راشد، الرئيس الأول لمحكمة التعقيب - أعلى رتبة قضائية في البلاد -، المشتبه في تورّطه في قضايا رشوة واستغلال نفوذ، والبشير العكرمي، وكيل الجمهورية السابق ورئيس النيابة العمومية، المتّهم بالتورط في التغطية على إرهابيين ودفن دلائل متعلّقة بالاغتيالات السياسية)، أسقطت ورقة التوت عن هذا الجهاز، بل جعلت قضايا الفساد فيه تخرج من دائرة المحرّم إلى النقاش في الفضاء العام. وحتى خلال النقاش في قضايا راشد والعكرمي، كان للقضاة موقف مدافع عنهما، وتشديد على تمتّعهما بقرينة البراءة حتى وإن دانهما جهاز تفقّدية القضاة، وذهب المجلس الأعلى للقضاء بعد ضغط شعبي ومن المنظّمات المدنية إلى إصدار قرارات بشأنهما، وهو ما عمّق هوّة الضيم لدى التونسيين الذين لم يحظوا بهذه الحصانة وقرينة البراءة أمام القضاء، وكانت أبواب السجون جاهزة لاستقبالهم من دون تردّد.
ولأن رقعة معارضي سعيد أخذت في الاتّساع نتيجة أحادية قراراته، فإن قراره الأخير بمراجعة قانون المجلس الأعلى للقضاء، وخطابه حول ضرورة إصلاح هذا المرفق وبخاصة القضاء العدلي، جوبها بالرفض والتنديد، على الرغم من أن الفضاء العام طالما عجّ باتهامات للقضاء العدلي بالبطء في البتّ في القضايا المتعلّقة بالمادة الانتخابية أو شبهات بتدخّل سياسي من قِبَل حركة «النهضة» طيلة عشرية تواجدها في السلطة، والتحكّم في مسار القضايا وتصفية الخصوم السياسيين. وقد كان أوّل المنددين «النهضة»، المتّهمة أساساً بتطويع القضاة، ويُعدّ موقفها هذا منتظراً ومتوقّعاً؛ فما يريده سعيد هو حصر قائمة القضاة الموالين لها أو الذين تورّطوا معها خلال السنوات الماضية واستبعادهم، علماً أنه عمد في الأسبوع نفسه إلى حلّ وزارة الشؤون المحلية تمهيداً لتعليق الحكم المحلي، والذي تسيطر على غالبيته الحركة بترؤسها معظم البلديات في انتخابات 2018. وقالت «النهضة»، في بيان، إنها «تنبّه التونسيين من مخاطر إصرار رئاسة الجمهورية على وضع يدها على السلطة القضائية بقصد إخضاعها وتوظيفها من خلال استهداف المجلس الأعلى للقضاء والتهجّم على القضاة والتشكيك فيهم وأخذ موقعهم من دون حق».
قرار سعيد مراجعة قانون المجلس الأعلى للقضاء جوبه بالرفض والتنديد


والتحق المجلس الأعلى للقضاء بكوكبة المندّدين، باعتباره المستهدف الأول بهذه المراجعة، التي لم يستغرب رئيسه، يوسف بوزاخر، في تصريحات صحافية، أن تذهب «حد إلغاء المجلس برمّته»، معتبراً أن حدوث ذلك يُعدّ «مسّاً بالقضاء وتدخّلاً فيه، وتغييباً للضمانات الدستورية للحقوق والحرّيات، وفي مقدّمها سلطة القاضي في الحفاظ على هذه الحقوق». أمّا بقية هياكل المهنة، لا سيما تلك التي نادت قبل انتفاضة 2011 وبعدها بإصلاح القضاء وإبعاد المشتبه بتورّطهم في الفساد، فقد اعتبرت أن الموقف المبدئي يكون بهذا الشأن «محلّ نقاش موسّع بين مكوّنات جناح العدالة وبقية السلطات، على قاعدة الحوار التشاركي من أجل تصوّر عملي يحدث أثراً عميقاً».
وفي هذا الإطار، أوضحت عضو جمعية القضاة، القاضية لمياء الماجري، لـ»الأخبار»، أن الجمعية التي طالما نادت بضرورة الإصلاح ترى أن «الملف يتطلّب تصوراً كاملاً وتداولاً موسعاً بين الجهات المعنيّة، ولكن في الظروف العادية لا في فترة الاستثناء»، مبرزةً وجود نقاط ذات أولوية كان من الأجدى معالجتها بسرعة. وأضافت الماجري أن «الجمعية ليست ضدّ الإصلاح، وهي مسألة عاجلة، فأيّ خلل يتحمّل كلفته الوطن دولة ومواطنين في معيشتهم»، لكنها تشترط أن يكون ذلك «وفق تصوّر عميق وتنزيل لجميع المضامين الدستورية حول استقلال القضاء في التشريعات الجديدة، ولا يمكن أن يكون في فترة الاستثناء باعتبارها فترة تغيب فيها الضمانات والرقابة، فلا يمكن الطعن في هذه المراسيم ولا مراقبة احترامها للمعايير الدولية لاستقلال القضاء».
وبيّنت الماجري أن «الهدف من الإجراءات الاستثنائية أن تعود الدولة لسيرها العادي، وعند تعافي مؤسساتها الدستورية، يمكن آنذاك طرح مشروع جديد للمجلس الأعلى للقضاء»، مشدّدة على أن «النقاط العاجلة التي لا يمانع أغلب القضاة العمل عليها خلال هذه الفترة هي محاسبة القضاة الذين شملتهم قرارات تأديبية وتحوم حولهم شبهات فساد جدية». وألمحت إلى أن «المجلس الأعلى للقضاء لم يقم بدوره الأساسي في المادة التأديبية وعمد إلى إصدار حركة قضائية (نقل القضاة من محاكم إلى أخرى) عمّقت الفساد، ولا وجه إصلاحياً فيها، ولم يراجع الخطط الكبرى التي تتحكم في العدالة أو تتعلق بشأنها قضايا فساد». كما لفتت إلى أن المجلس «لم يقيّم عمل النيابة العمومية والقطب القضائي المالي، على رغم ما تمّت ملاحظته من بطء شديد في معالجة ملفات الفساد التي تتعهّد بها».