تونس | تعوّد الشارع التونسي، منذ أن اتّخذ الرئيس قيس سعيد إجراءات 25 تموز المعروفة، الأخبار والبلاغات المقتضَبة المنشورة في الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية على "فيسبوك"، أو الصفحات الرسمية للوزارات، والتي تعلن قرارات الإقالات والإعفاءات في مختلف مؤسسات الدولة، من دون تفسير في أغلب الأحيان. يوم الخميس الماضي، أُعلن في وزارة الداخلية عن إنهاء صفة "مكلّف بمأمورية" لـ34 إطاراً في ديوان الوزير. وفي بلاغها، أفادت الوزارة بأن هذا القرار جاء "في إطار تكريس الشفافية وإرساء الحوكمة الرشيدة"، وأن المسؤولين الذين تمتّعوا بمنح وامتيازات "لم يباشروا أيّ مأمورية بالديوان"، فيما لم يتمّ الإفصاح عما إذا كانت ستتبع قرارَ إنهاء صفاتهم قرارات تأديبية أو تبعات قضائية أخرى. في اليوم نفسه، أقيل محافظا سيدي بوزيد وقبلي، واعتُقلا لاحقاً. ولم ينته اليوم قبل أن تعلن وزارة النقل عن إعفاء رئيس ديوان وزير النقل، فيصل السطنبولي، من مهامّه، من دون ذكر أيّ تفاصيل إضافية.وفي تعليقه على هذه الإقالات، اعتبر الناطق باسم "حركة الشعب" (حزب مناصر لسعيد)، أسامة عويدات، أن "منظومة ما قبل إجراءات 25 تموز وخصوصاً حركة النهضة، قد عيّنت مقربين منها في دوائر الدولة وكرّست الفساد لسنوات. والإقالات الحاصلة الآن تندرج ضمن إطار محاسبة مَن أضرّوا باقتصاد البلاد أو تلاعبوا بالمال بالعام". وأضاف عويدات، في تصريح إلى "الأخبار"، أن ''الرئيس توعّد منذ أيام بالضرب بقوة على يد الفاسدين، يومان بعدها أقيل مسؤول في وزارة التجارة، وما يفهم من ذلك أن حملة الإقالات تندرج ضمن حملة تطهير مؤسسات الدولة من التابعين للمنظومة القديمة". وأقرّ عويدات بضرورة أن "يخاطب الرئيس التونسيين ويصارحهم ويوضّح ما يقوم به"، لأن "البلاد اليوم في مخاض للخروج من الأزمة، وجبت المحاسبة... وعلى الوزراء توضيح أسباب الإقالات لمسؤولين في وزاراتهم". كذلك، شدّد على ضرورة الإسراع في الخطوات المقبلة، قائلاً: "ثمّة بطء كبير في الإجراءات يمكن أن ينسف مسار 25 تموز".

إقالات مبهمة
شملت الإقالات، إلى حدّ الآن، مسؤولين في وزارات الخارجية والتجارة والصناعة والنقل وأملاك الدولة، ووزارة الداخلية التي عَرفت منذ فترة أيضاً إقالة 20 إطاراً من كبار المسؤولين، وإحالات على التقاعد المبكر، بلا توضيح للأسباب. ويرى أمين عام "الحزب الجمهوري"، عصام الشابي، أن وزارة الداخلية لم تعرف طوال الفترات السابقة موجة إقالات مشابهة، معتبراً في تصريح إلى "الأخبار" أن ما يحدث اليوم "خطير". وانتقد الشابي "طريقة قرارات الإقالة المحاطة بالصمت التامّ في وزارة حسّاسة، وطالما عرفت محاولات لوضع اليد عليها مِن طرف مَن حكموا سابقاً". وضمن المسار نفسه، أنهى الرئيس قيس سعيد، يوم الأربعاء الماضي، مهامّ 15 سفيراً وقنصلاً في الخارج بحسب ما جاء في العدد الأخير من الصحيفة الرسمية "الرائد". وكالعادة، لم يخرج أيّ مسؤول أو متحدّث باسم الحكومة لتوضيح أسباب هذه الإقالات.

شغورٌ متنقّل
وكحصيلة أوّلية، فإن 4 محافظات من مجموع أربع وعشرين، بقيت لأشهر بلا ممثلين للسلطة التنفيذية، وذلك بعد إقالة المحافظين، في حين كانت بنزرت المحافظة الوحيدة التي جرى تعويض الوالي المقال فيها بشكل سريع نسبياً، حيث عيّن الرئيس أحد أنصاره محافظاً لها، وهو سمير عبد اللاوي الذي كان قد شارك في الحملة الانتخابية التي أوصلت سعيد إلى قصر قرطاج. تعيينٌ أسال حبراً كثيراً حينها، حيث تساءل المنتقدون عن الخبرة التي يكتسبها عبد اللاوي حتى يُعيَّن في منصب مماثل، بخاصة أن الشاب لا تجربة إدارية سابقة له.
من جانبها، وفي تعليقها الوحيد على موجة الإقالات في صفوف محافظين حُسبوا صراحة أو ضمنياً عليها، اعتبرت حركة "النهضة"، في بيان، تزامناً مع أزمة النفايات في محافظة صفاقس وما تبعها من احتقان اجتماعي، ''أن تفاقم المشاكل البيئية في البلاد وبخاصة في جهة صفاقس سببه السياسات المتّبعة منذ انقلاب 25 تموز، وحرمان هذه الجهة وعدّة ولايات أخرى من ولاة (محافظين) يديرون شؤونها، فضلاً عن بقاء البلاد من دون حكومة لأكثر من شهرين".
يتواصل غياب أيّ معلومة رسمية عمّا يحصل منذ إجراءات 25 تموز الماضي


بدوره، شدّد أمين عام "الحزب الجمهوري" (معارض)، عصام الشابي، على أن كلّ الإقالات والإعفاءات والتعيينات الحاصلة في مؤسسات الدولة تجري "خارج الشرعية الدستورية"، واعتبر أن "(الرئيس قيس) سعيد أعطى لنفسه كلّ الصلاحيات". وقال الشابي، لـ"الأخبار"، إن "ما كان يعاب على ما قبل 25 جويلية هو استحواذ الأحزاب الحاكمة على الدولة، اليوم صار الرئيس يستحوذ بمفرده على مفاصل الدولة... ونحن اليوم نسمع بالإقالات من دون أن نعرف السبب أو الخطأ الذي ارتكبه المسؤولون المعزولون... هذا منافٍ لكلّ قواعد الحكم الرشيد". وأضاف: "عمليات العزل تدلّ على أن الرئيس له تصوّر لهدم ما هو موجود لا بناء الجديد". وعن القول بأن الإقالات تأتي في إطار "حرب الرئيس على الفساد"، أوضح الشابي أن "محاربة الفساد ليست شأناً خاصاً بالرئيس، هذا استحقاق وطني، ومحاربة الفساد لا تكون عبر الإقالات والخطب والشعارات"، مشدداً على ضرورة أن "تكون الحرب على الفساد تحت إشراف قضاء مستقلّ يعمل بلا ضغوطات... وفي ظلّ رؤية وطنية شاملة".
من جهته، اعتبر عضو الهيئة الإدارية في منظّمة "أنا يقظ" (منظمة غير حكومية لمكافحة الفساد وتدعيم الشفافية)، مهاب القروي، أن تواصل الشغور على رأس محافظات، دليل "على غياب الرؤيا للمستقبل وعدم وجود بديل". ولفت القروي، في حديث إلى "الأخبار"، إلى أن الإقالات التي لم يُعلَن في أغلبها عن أسبابها، "تفتح باب الإشاعات وتطرح نقاط استفهام كبرى"، قائلاً: "من المفترض أن لا يفتح السياسي باب التأويلات والإشاعات، بخاصة إذا تعلّق الأمر بموظفين عموميين وبالمال العام". ودعا القروي إلى فتح تحقيق قضائي في حال ثمّة شبهات فساد أو سوء تَصرّف تلاحق المُقالين. وشدّد على أن "تطهير" الإدارة لا يجب أن ينتظر قراراً سياسياً لأن "العمل الإداري يخضع للحوكمة والمساءلة، والإدارة العمومية تعمل وفق مبادئ الحوكمة والشفافية، والتطهير يكون بشكل دوري لا مناسباتي، حتى يتمّ ضمان ديمومة الحوكمة والشفافية في الإدارة التونسية". وفيما أضاف أن التونسيين لا زالوا ينتظرون "عملاً دورياً للهياكل الرقابية، لا فرقعات إعلامية للتغطية على فشل سياسي"، دعا إلى "ضرورة تدعيم الرقابة وتعزيزها بموارد مادية وبشرية، وإلى مساءلة السياسيين وأصحاب القرار المسؤولين على الخراب الحالي".
وسط كلّ هذا الجو، يتواصل غياب أيّ معلومة رسمية عمّا يحصل منذ إجراءات 25 تموز الماضي، وهو ما جعل الغموض العنوان الأبرز لهذه المرحلة الدقيقة التي تعرفها تونس.