تونس | تقترب تونس من خوض غمار استفتاء على الدستور في 25 تموز المقبل، المصادف لـ«عيد الجمهورية» من جهة، ولذكرى إعلان الرئيس قيس سعيد التدابير الاستثنائية قبل عام من جهة أخرى، بعدما أصرّ الأخير على أن يكون التاريخ المذكور موعداً للاستفتاء، انطلاقاً من اعتباره نفسه مؤسِّساً لـ«الجمهورية الثالثة». وعلى أبواب هذا الاستحقاق، أعلن سعيد، خلال جلسة لمجلس الوزراء، تسمية كلّ من عميد القانون، الدكتور الصادق بلعيد، رئيساً للجنة الاستشارية للإصلاحات الدستورية، وعميد المحامين، إبراهيم بودربالة، رئيساً للجنة الاستشارية الاقتصادية، على أن تُصدر اللجنتان مجموعة من المقترحات تُعرض على «الحوار الوطني». ولم تهدأ حدّة الجدل حول هذا الإعلان منذ صدوره؛ إذ أكدت العديد من القوى السياسية والمجتمعية، باستثناء تلك التي أعلنت صراحة مقاطعتها الحوار، أنها لن تشارك في ذلك المسار «المشوَّه». وعلى رغم أن الدوائر المقرَّبة من سعيد نبّهته، في أكثر من مناسبة، إلى أن إجراء الاستفتاء بعد شهرَين من الآن غير مستحبّ، كونه سيُواجَه بعزوف من العامّة، خاصة بعد ضعف المشاركة في «الاستشارة الوطنية»، جاءت استجابة سعيد لتلك النصائح في صورة مواقف وإجراءات مُجانبة للمنطق، إذ اعتبر الرئيس، في كلمة ألقاها مساء الخميس، أن المسألة مرتبطة أساساً بعدم ترسيم التونسيين في سجلّ الناخبين، أي بالجوانب الشكلية والرقمية التي تعهّد بحلّها. ولكن سعيد يعلم جيداً أن العزوف مردّه إلى التململ من مسار استبدادي لا يفتأ يتكرّس، من دون التفات إلى أهمّية إشعار التونسيين بالثقة، والتي كانت ستدفعهم إلى المشاركة في الاستشارة، لو أنهم لمسوا وجود رؤية إصلاحية اقتصادية واجتماعية على المدى القريب، يمكن أن تُطَمئنهم إلى انتعاشة محتملة في مقدرتهم الشرائية والمعيشية، وتخطيطاً استراتيجياً بعيد المدى.
يمضي سعيد في تنفيذ تصوّراته معتقداً أنه لا يزال يحظى بالدعم الشعبي نفسه


أخفق سعيد، خلال عشرة أشهر تحكّم فيها بكلّ مفاصل الدولة تقريباً وأدار الملفّ الاقتصادي، في خلق الانتعاشة المنتظَرة. وفي ظلّ أزمة عالمية طاقوية وغذائية، لم تَلُح للتونسيين القلقين على تأمين قوتهم وسط مديونية البلاد وموازنتها المنهكَة وارتفاع الأسعار عالمياً، أيّ بشائر بأن حكومتهم ستعمل على توفير ما يلزمهم وأنهم لن يواجهوا خطر الشحّ. بدا سعيد، إزاء ذلك، وكأنه يتفادى التقاط الإشارات إلى تقلُّص عدد مسانديه، والذي تُرجم بوضوح في الوقفات الأخيرة المساندة له، تماماً كما لم يلتقط جوهر المساندة الشعبية الابتدائية له، والمرتبطة أساساً بالإحباط الناجم عن عشر سنوات متتالية من انهيار المقدرة الشرائية وتردّي مستوى المعيشة وارتفاع نسب الفقر. أوهم سعيد التونسيين أن تشرذم السلطة بين الأحزاب السياسية وتفتيت المؤسسات هما السبب المباشر لذلك التردّي، لكنه وجد نفسه اليوم، بعد أن جمع السلطات بيده، عاجزاً عن إحداث تغيير، أو حتى عن تقديم تصوّر منطقي للتغيير. وكنتيجة لتَواصل هذا الإحباط، جاءت المشاركة في الاستشارة ضعيفة جدّاً، وهو ما يُتوقّع أن يلقاه الاستفتاء أيضاً.
أمّا بالنسبة إلى المنخرطين في الشأن السياسي، فإن الخلاف مع سعيد أعمق من مجرّد العجز عن إصلاح الأوضاع المعيشية؛ إذ إن تعنّت الرئيس، وإصراره على التعامل بفوقيّة حتى مع منظّمات وطنية عريقة ترفض خطواته الأحادية، وتخوينه لكلّ مَن ينتقده، كل ذلك يجعل الكثيرين في تخوّف مستمر من النهج الاستبدادي الذي انعطف إليه. وعلى رغم خروج «الاتحاد العام التونسي للشغل» و«الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان» و«نقابة الصحافيين» لإعلان رفضهم المسارات الأحادية وعدم احترام أبجديات التشاركية والديموقراطية، إلّا أن ذلك لم يدفع سعيد إلى مراجعة نفسه والقيام بالنقد الذاتي بقدر ما رسّخ قناعته بـ«نظرية المؤامرة». وفي ظلّ تشبّث الرئيس بالمُضيّ في مخطّطه أيّاً كانت التحفّظات، يرى بعض هذه الأطراف أن المشاركة في الاستحقاق المقبل برفض الإصلاحات السياسية المقترَحة هي أحسن الحلول المطروحة في الوقت الحالي؛ إذ لن يكون بمقدور سعيد أن يرفض نتائج استفتاء أصرّ على تنفيذه بتصوّره الخاص.
على خطّ موازٍ، تُواصل «جبهة الإنقاذ» التي يقودها أحمد نجيب الشابي في الظاهر، وحركة «النهضة» وراء الستار، لعب دور «الحاكم الموازي»، وإن بلا أدوات إلى الآن. ولذا، بدت مثيرة للسخرية اللقاءات التي عقدتها الجبهة مع سفارات أجنبية، وخرجت لتؤكد بعدها أنها تحظى بدعم دولي يؤهّلها لقيادة البلاد بعد الإطاحة بسعيد. إلّا أن هذا «الحلّ السحري» الذي تلوّح به الجبهة لا يبدو في متناول الأيدي، خاصة أن دعواتها إلى تدخُّل المؤسّستَين العسكرية والأمنية، وكذا إلى انتفاضة شعبية، لم تجد أصداءً.