صار موقناً بأنّ عدوّهُ ما عاد يصبر البتّة في طلب رأسه. أنبأه بهذا رفاقه الذين تهيّأ لهم أن يقبعوا بجانبه أثناء فترات التحقيق، وتسنّى لهم أن يتحدّثوا إليه لماماً. بل إنّ ضباطاً سامين في وزارة الداخلية لم يتوانوا، هم أيضاً، عن إخباره بمصيره المحتوم. ولكنّه - قبل كل ذلك، وبعده - يعلم أنّ مَن هم على شاكلة بورقيبة، لا يتردّدون في سفك دم خصومهم متى ما عنّ لهم أن يعلنوا حربهم الشخصية عليهم. قرّ رأيُ الشيخ: إنه ميّت! وعَزَم أمره على أن يثبُت. ذلك أنّ الموت إذا لم يكن منه بُدّ، فَلْتكُن الميتَةُ ميتةَ شهادة. ووقف الشيخ أمام قاضي محكمة أمن الدولة، في ذلك الهزيع الأخير، من ليلة 29 أيلول/ سبتمبر من عام 1987، لينطق بكلمة الإعذار الأخيرة التي تُمنح لكل متّهم، قبل النطق بالحكم النهائي عليه. قال الغنوشي: «إنّ دمي الذي يريد بورقيبة هَدْره، بعد سويعات، سيَسقي دوحة الإسلام في تونس بماء هي في أشدّ الحاجة إليه. فالدعوة لا تُروى بغير دماء أصحابها. ودمي واجب إغداقه، وهو رخيص على شجرة الإسلام».
«غزوة يوم الشجرة»
بيْد أنّ راشد الغنوشي لم يتأتَّ له الموتُ في تلك الليلة، كما توهّم. فقد أنزل به القاضي الهاشمي الزمّال حُكماً أقلّ قدراً من الموت. واستدعى حكمُ الزمّالِ سخطَ بورقيبة العارم، فما كان «المجاهد الأكبر» ليقنع في ما يتعلّق بجريمة «تقويض نظام الحكم، وتبديل هيئة الدولة»، بأقلّ من سفك دم المتمرّدين. تَلْفَنَ الرئيس مزمجراً للوكيل العام للجمهورية (النائب العام) الذي كان قد عيّنه، قبل أشهر قليلة، رئيساً لمحكمة أمن الدولة¹، وأمره أن يعيد المحاكمة من جديد، وأن يقضي بإعدام الغنوشي. قال بورقيبة للقاضي: «إنّ الأفعى لا تموت إلّا إذا قُطع رأسها». ثم أضاف: «وإن على الغنوشي أن يموت!». ثمّ ضرب بورقيبة لقاضيه أجلاً جديداً، للخلاص من هذا الخصيم الطارئ الخطير: «هو شهرٌ واحد، لا أكثر!».
ضجّ العقلاء داخل النظام بهذا القرار العجول. بل إنّ وزير الداخلية التونسي نفسه - وهو مَن هو في الشدّة - ترجّى الزعيم العجوز أن يرجع في ما انتواه، وأن يتمهّل قليلاً في شأن الغنوشي. وأمّا إخوان «الاتجاه الإسلامي» أنفسهم، من بعد أن استبان لهم أنّ بورقيبة ماضٍ في استئصال شأفتهم، فقد أزمعوا أمرهم على خوض المعركة معه، «حتى يجعل الله لهم مخرجاً». حزمت الجماعة أمرها. ثم ألقت مهمّةَ إعداد العُدّة للانقضاض على نظام بورقيبة المتهالك، إلى فريق يشرف عليه الدكتور المنصف بن سالم، بروفيسور الرياضيات المتوثّب.
وما كانت الحركة الإخوانية التونسية لتغفل، هي أيضاً، عن تجهيز جهازها السريّ الخاص. فالتمكين للمشروع الإسلامي، إذا جاء يومه، لا يكون بغير الشوكة. والشوكة لا تتأتّى إلّا باستجلاب رجال ذوي قوّة والاستحصال على أسلحة ذات بأس. وهكذا، مضى الإخوان في تونس، منذ سبعينيات القرن الماضي، يدبّرون خططهم، وينسجون تنظيمهم السرّي الذي يمكنه أن يخترق الأجهزة الأمنية والعسكرية والمدنية في الدولة، ويقدر أن يضرب ضربته متى تهيّأت الظروف. وحينما طُلِب من المنصف بن سالم أن يشرع في إنفاذ المهمّة المستعجلة، وجد البروفيسور الشاب بين يديه فريقاً عمليّاً يتكوّن من 156 عنصراً² تهيّأ لهم أن يخترقوا كلّ الأسلاك الأمنية الحساسة: الحرس الوطني (الدرك)، والشرطة، والديوانة، وجهاز الاستعلامات، والجيش... وفوق ذلك، رأى ابن سالم بين أفراد «مجموعته الأمنية» رجالات من الوزارة الأولى، وكوادر في وزارات الداخلية والدفاع والعدل، بل إنه عثر على عيون في القصر الرئاسي نفسه. وكان عليه، حينئذٍ، أن يسابق الزمن لإجهاض مخطّط بورقيبة أوّلاً، ولإطاحة حكمه ثانياً.
كانت خطّة الجهاز السرّي للإخوان محدَّدة، تتمثّل في استغلال موعد «عيد الشجرة»، الذي يصادف يوم الأحد الأوّل في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام. وكان بورقيبة معتاداً، في ذلك اليوم، بالذات، أن يخرج من قصره المنيع، ليزرع شجيرة في ساحة عامة. وافترض ابن سالم ورفاقه أن تلك لحظة مؤاتية للتواري وسط جموع الناس المهلّلين للزعيم، وفي لحظة حاسمة، يتم اقتناص فرصة وسط الزحام، لإطلاق النار. فإذا هلك بورقيبة، فإنّ نظامه سيتداعى بسرعة كصرح متصدّع. وإذا أمكن لرجال «المجموعة الأمنية» أن يسيطروا على مبنى الإذاعة والتلفزة، فإنّ الخبر سيكون ناراً في الهشيم. وستتكفّل الدعاية في الراديو والتلفاز ببثّ الصدمة والرعب والتخبّط، في قلوب الأعداء. وإنّ مقتل بورقيبة إذا تأكّد وانتشر، واستيلاء ضبّاط من الجيش على الحُكم، سيجرّئُ كثيرين من أفراد الشعب الناقمين على الخروج مهلّلين لما يجري. وبذلك، يكتسب الانقلاب مشروعيّته الشعبية.
فإنْ حصل كل ذلك، فلن يستغرب أحد أن يقفز الكثيرون من مسؤولي نظام بورقيبة، من مركبه الغارق نحو المركب الجديد، ولن يتفاجأ أحد إنْ ولّى «الدساترة» الأدبار مذعورين. فإذا استقام الأمر للثوار الجدد، أمكن حينئذ أن تُفتح أبواب السجن المدني في تونس، وأن يخرج الشيخ الغنوشي ورفاقه من غياهب الظلمات ظافرين فرحين بما أتاهم الله من فضله.

«أشكر الله، والرئيس ابن علي»
لكنّ مخطّط الإخوان لم يرَ النور أبداً. فقد انكشف، فجأةً، قبل أيّام قليلة من ساعة الصفر. وذلك أنّ أحد جنود «المجموعة الأمنية» التي أُوكل لأفرادها تنفيذ الانقلاب على بورقيبة، تهيّب الأمر في اللحظة الحاسمة، وأسرّ إلى خاله بسرّه. ولمّا كان الخال واشياً، فقد تناهى الخبر سريعاً إلى ضباط في وزارة الداخلية. وما لبث الوزير الأوّل زين العابدين بن علي حتى بدأ يحقّق بنفسه في النازلة. ولقد نتجت عن مؤامرة إخوان تونس نتيجتان غيّرتا مسار تاريخ البلاد. ذلك أن الوزير الأوّل، زين العابدين بن علي، سرّع في خطته التي كان يدبّر لها سرّاً مع نفر قليل من حاشيته. وعوض أن يكون انقلاب جماعة الغنوشي، في صبيحة يوم الأحد 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، جعل انقلابه هو فجر السابع من نوفمبر. وأمّا حمّام الدم الذي جهّز له رجال الغنوشي، فقد استبدله ابن علي بإبدال ناعم في رأس السلطة. غير أنّ لقصة نهاية بورقيبة تتمّة طريفة، لا بأس من سردها. ذلك القاضي الهاشمي الزمّال الذي اختاره بورقببة ليعدم الغنوشي، رنّ جرس الهاتف في بيته منتصف ليل السابع من نوفمبر 1987.
كانت خطّة الجهاز السرّي للإخوان محدَّدة، تتمثّل في استغلال موعد «عيد الشجرة» للانقلاب على بورقيبة

كان الاتصال الهاتفي العاجل من الوزير الأوّل. وأُمِر القاضي بالقدوم على جناح السرعة إلى المقرّ المخيف لوزارة الداخلية في شارع بورقيبة. لعلّ الزمّال اعتقد أن الأمر يتعلّق بإعدام الغنوشي، فقد كان بورقيبة يلحّ في طلب رأسه إلحاحاً عجيباً. بيدَ أن الزمّال وجد في مكتب ابن علي، في تلك الليلة الليلاء، مطلباً لم يخطر على باله. طلب الوزير الأوّل من القاضي أن يساعده في إقصاء بورقيبة نفسه. وكان الوزير يحتاج من وكيل الجمهورية أن يأمر سبعة أطباء لكي يمضوا على شهادة طبية تتضمّن أن الرئيس أصبح عاجزاً عن إدارة شؤون الدولة. وبالفعل، قام الزمّال بالإجهاز على بورقيبة بوسيلة قانونية. وأمّا الغنوشي نفسه، فقد أُخرِج من سجنه بعد شهور. وكان أوّل تصريح له هو شكر الله ثم شكر ابن علي الذي قيّض له حياة أخرى، بعد يأس.

الهوامش:
1- قضت الدائرة الاستئنافية في المحكمة الإدارية، في شباط سنة 2018، بإلغاء الأمر عدد 624 لسنة 1987 الذي أصدره الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة بإنشاء محكمة أمن الدولة. واعتبرت أنّ قرار بورقيبة كان غير شرعي، وقضت بإلغائه.
2- اُنظر كتاب «المجموعة الأمنية: الجهاز الخاصّ للحركة الإسلامية في تونس، وانقلاب 1987»، لأحمد نظيف، دار ديار للنشر والتوزيع.