تونس | لم يأخذ المشهد الانتخابي في تونس شكله النهائي بعد، وإنْ كانت ملامحه العامّة بدأت تتّضح، من دون أن تُبدّد الضبابية التي يضفيها عليه القانون الانتخابي الجديد، والذي لا يتيح فهْم الخريطة الانتخابية من حيث ترشيحات الأحزاب ووزنها في كلّ منطقة، وبالتالي حظوظ فوزها أو احتمالات هزيمتها - مثلما كان عليه الحال في القانون السابق -، باعتبار أن جعْل الاقتراع للأفراد لا للقوائم، واشتراط الحصول على التزكيات، وتغيير الدوائر الانتخابية، كلّها جعلت المشهد أقرب إلى رقعة شطرنج متداخلة. مع ذلك، يمكن التقدير، من الآن، أن حزام الرئيس قيس سعيد في البرلمان المقبل لن يتشكّل، خلافاً لأحزمة الرؤساء السابقين، من الأحزاب السياسية، بل من مجموعات متفرّقة، تنسب نفسها إلى تاريخ مشترك مع سعيد في فترة من فترات فعله السياسي قبل الرئاسة أو بعدها، وتُريد، على ما يَظهر، استغلال هذا المعطى المفترَض في الوصول إلى مجلس النواب. ومن بين تلك المجموعات، التي تشترك في الانتماء إلى فئات شعبية بعيدة عن النُخبة السياسية والفكرية، «الشعب يريد» التي تقدّم نفسها بوصْفها مَن كانت وراء حملة سعيد الرئاسية، وإلى جانبها أيضاً شباب «حراك 25 جويلية» التي تتّخذ الصفة عيْنها، و«تنسيقيات 25 جويلية»، فيما آخر اللاحقين بركْب هؤلاء، عميد المحامين السابق إبراهيم بودربالة، في إطار مبادرة «لينتصر الشعب»، التي تضمّ، إلى جانب بودربالة، نوّاباً سابقين ورؤساء أحزاب مستقيلين، علاوة على شخصيات حقوقية ونشطاء معروفين. وتُعدّ هذه المجموعة ذات ثقل سياسي هامّ، بالنظر إلى هويّات شخصياتها، وارتباطهم بالفضاء العام وكثافة حضورهم الإعلامي، ودورهم الفعلي في الدفاع عن سعيد ومشروعه - خلافاً لبقيّة المجموعات ذات الارتباط الشكلي به فقط - وهو ما جعلها، منذ الإعلان عنها، محوراً لهجمات المعارضة.
فَتح نظام الاقتراع للأفراد على أساس التزكيات، الباب لعودة مَن غادروا الساحة الانتخابية

وفَتح نظام الاقتراع للأفراد على أساس التزكيات، الباب على مصراعَيه لعودة مَن غادروا الساحة الانتخابية منذ انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، ومِن هؤلاء قيادات نقابية سابقة ومناضلون ضدّ نظام زين العابدين بن علي، فضّلوا عدم خوض غمار الترشّح سابقاً خوفاً من أن تطْحنهم ماكينة الأحزاب، فيما الشروط اليوم، على تعقيدها، تبْقى سهلة عليهم تلبيتها. أيضاً، يلاحَظ تَواتر إعلانات الترشّح في أوساط الطبقتَين الوسطى والفقيرة، فيما امتنعت وجوه الطبقة الثرية والنافذة عن المشاركة المباشرة، أو فضّلت التخفّي وراء ترشيحات من فئات أخرى، في حين يبدو أن البرلمان المقبل سيفقد كتلة «المهن الحرة» التي طالما كان لها نصيب فيه، من أطبّاء ومهندسين وقضاة ومحامين ورجال أعمال. أمّا الأحزاب السياسية المعارضة لسعيد، وعلى رأسها حركة «النهضة»، فعلى رغم إعلانها صراحةً مقاطعة الانتخابات، إلّا أن مسار جمْع التزكيات كشف أنها استعانت بمستقلّين من خارج صفوفها للترشّح، ساعيةً من وراء ذلك، على ما يَظهر، إلى تجميع ثلث معطل يمكّنها من شلّ عمل البرلمان، وإجبار حزام سعيد الذي لا يزال في طوْر التشكّل على الرضوخ لإرادتها. في هذا الوقت، رُصدت خروقات عديدة في مجال جمع التزكيات، من بينها مثلاً التعطيل المتعمَّد لإدارات حكومية بهدف عرقلة تصديق التزكيات الخاصة بمرشّح بعيْنه، في مقابل حُظوة آخر بإجراءات سلسلة وسريعة، فيما ضُبطت لدى مراكز الشرطة حالات تلبُّس برشوة الناخبين لانتزاع تواقيعهم على طلبات الترشّح. كذلك، أدّت شرذمة الدوائر الانتخابية إلى أقسام متشعّبة وصغيرة، إلى جعْل الأجواء مشحونة داخل القرية الواحدة أو الحيّ الواحد، على رغم أنها أسهمت في ارتفاع الإقبال على الترشيح، الذي بات في متناول جميع الفئات.
في خضمّ ذلك، تزداد الأزمة الاقتصادية سوءاً، في حين تلتزم حكومة نجلاء بودن الصمت إزاء مظاهر المعاناة التي يعيشها المواطنون، وعلى رأسها الفقدان المتكرّر للمواد الغذائية الأساسية، ونفاد مخزون البلاد من الوقود، والذي دفع التونسيين إلى الاصطفاف في طوابير أمام محطّات الوقود على أمل الحصول على ما يكفي لتيسير تنقّلاتهم، خاصة في ظلّ تردّي منظومة النقل العمومي. وتستتبع هذه الأوضاع تداعيات كبرى على المستوى الاجتماعي، لعلّ أبرزها تنامي أرقام الهجرة غير النظامية، خصوصاً نحو أوروبا، بمسلكَيها التقليدي عبر البحر، أو جوّاً عبر صربيا. ولم تقتصر الأرقام، المهولة في هذا المجال، على العاطلين عن العمل وأصحاب المهن اليدوية فقط، بل شملت أيضاً أصحاب وظائف حكومية ومهن حرّة ذات دخْل مستقرّ وعائلات بأكملها. وإذ تظلّ الحكومة على صمتها أيضاً حيال تنامي هذه الظاهرة، فإن ذلك يبدو مرتبطاً بعلاقة سعيد المتوتّر مع الغرب، وامتناعه عن القيام بدور «حارس الحدود» البحرية لأوروبا، فيما يواجه انتقادات وعقوبات غير مباشرة على غِرار قِطع الدعم والمساعدات والهبات.