أحسنَت تركيا استغلال الظروف الدولية الناجمة عن الحرب الروسية على أوكرانيا، بما تستبطنه من حاجة غربية شديدة إلى موارد طاقة جديدة، في تعزيز نفوذها على الساحة الليبية، وفق ما أظهرته الاتفاقات المُوقّعة أخيراً بينها وبين حكومة عبد الحميد الدبيبة. وإذ يبدو الطرفان الأميركي والأوروبي غير ممانعَين لهذا المسار، بما يعنيه من تزكية لبقاء الأخيرة حتى إجراء الانتخابات، فإن مصر لا تفتأ تحاول بكلّ جهدها عرقلته، متّكِلةً في ذلك على حكومة فتحي باشاغا ورئيس البرلمان عقيلة صالح، وهو ما لا تَظهر مضمونةً نتائجه، الأمر الذي يفرض على القاهرة إعادة صياغة كلّية لاستراتيجيتها حيال جارتها الغربية
عادت لغة المصالح المشتركة لتجمع بين الدبيبة وأنقرة بعد أشهر من الجفاء (أ ف ب)

تَجدّد، في الآونة الأخيرة، التصعيد المصري - التركي إزاء القضية الليبية، مُعيداً التذكير بذروة هذا الخلاف قبل أكثر من عامَين (حزيران 2020)، عندما حذّر الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، من أن تجاوُز القوات التركية خطّ سرت - الجفرة يمثّل «خطّاً أحمر لمصر وأمنها القومي»، وأن أيّ تدخّل مباشر من جانب بلاده «باتت تتوفّر له الشرعية الدولية». وجاء التصعيد المتجدّد على خلفية قيام حكومة عبد الحميد الدبيبة، المعترَف بها دولياً، بتعميق صِلاتها مع تركيا في الملفّات كافّة، ونجاح الأخيرة في إعادة تسويق الأولى دولياً، كما ظهر في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، في مقابل تَوجّه القاهرة إلى إعادة ترتيب أولوياتها في ليبيا بالتشاور مع دول أوروبية (أبرزها اليونان وقبرص والنمسا).

تركيا ومصر: المحاصصة المستحيلة؟
تلا توقيعَ أنقرة عدّة اتّفاقات اقتصادية مهمّة مع طرابلس في الأسابيع الأخيرة، تحرّكُ الشركات التركية لـ«انتهاز الفرص السانحة في السوق الليبية»، ولا سيما في قطاعات التشييد والطاقة والتكنولوجيا والأمن السيبراني والصحّة والسياحة، حيث تملك تركيا ميزات نسبية (في ما يتعلّق بضخّ استثمارات مباشرة) مقارنةً ببقيّة دول الإقليم. ووَضع مسؤولو تلك الشركات، منتصف الشهر الجاري، تصوّرات محدَّدة للاستفادة من الاستثمارات في ليبيا بوصْفها ثالث أكبر مورّد للنفط إلى أوروبا (تملك احتياطيات مؤكّدة بقيمة 74 بليون برميل بترول، و174 تريليون متر مكعّب من الغاز الطبيعي)، وذات موقع هامّ في سياسات تركيا الأفريقية بشكل عام. وفي ردّه على رفْض مصر (والاتحاد الأوروبي وأطراف ليبية) خطط تركيا لتطبيق عدد من الاتفاقات المُوقَّعة حديثاً، أكد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، عزم بلاده البدء باستكشاف موارد الطاقة في المياه الليبية، والاستفادة من العلاقات المتميّزة مع حكومة الدبيبة في رفْع قدرة خطّ أنابيب «Trans-anatolian»، الذي ينقل الغاز من أذربيجان إلى أوروبا عبر الأراضي التركية، لتصل إلى 32 بليون متر مكعّب سنوياً.
في المقابل، تُواجه مصر، راهناً، تداعيات مواقفها المتعجّلة حيال ليبيا، سواءً السابقة في دعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر، أو الحديثة من خلال تشجيع فتحي باشاغا على محاولة انتزاع زِمام السلطة من الدبيبة. وعمّقت القاهرة مواقفها الصدامية تجاه «حكومة الوحدة»، بانسحاب وفدها من اجتماع «جامعة الدول العربية» الذي كانت ترأسه وزيرة الخارجية الليبية، نجلاء المنقوش، في العاصمة المصرية، ومن ثمّ تأكيدها أن تلك الحكومة لا تملك سلطة إبرام اتّفاقات، ودعوتها «المجتمع الدولي» إلى نزع «الشرعية» عنها. وبموازاة هذا التوتّر، عادت مصالح مصر الاقتصادية في ليبيا إلى نقطة حرجة، بعد تَحسّن ملموس سُجّل العام الماضي، دفَع قطاع البناء والتشييد إلى وضْع خطط طموحة للتوسّع في السوق الليبية. والظاهر، على ضوء التطوّرات الأخيرة، أن التنسيق الاقتصادي بين القاهرة وطرابلس مستمرّ في التراجع، ما ينبئ بجعل أيّ استثمارات مصرية مستقبلية في مرتبة تالية لنظيرتها التركية، ولا سيما المتشابهة منها، وتأخير ملفّ العمالة المصرية بعد وعود سابقة لحكومة الدبيبة بمنحْها الأولوية.
تعكف تركيا على استغلال حالة التوتّر بين القاهرة و«حكومة الوحدة» الليبية


العامل الأوروبي: الارتباك المستمرّ
سارع الاتحاد الأوروبي، في الأسبوع الأوّل من الشهر الجاري، إلى إدانة التفاهم التركي - الليبي بشأن استخراج موارد الطاقة من «الحدود البحرية المشتركة»، بحجّة إضرارها بأطراف ثالثة. لكن نظرة أعمق إلى المواقف الأوروبية تشير إلى تفهُّم بعض الدول، ولا سيما ألمانيا وإيطاليا، للسياسة التركية في ليبيا، إذ استضافت ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، اجتماعاً وزارياً أوروبياً وأفريقياً بشأن ليبيا، حضره رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، ووزيرة الخارجية نجلاء المنقوش، فيما عقد الأوّل أيضاً اجتماعاً منفرداً مع إردوغان، الذي يبدو أنه نجح في الترويج لـ«حكومة الوحدة» آنذاك. كذلك، من المتوقّع أن تعزّز ألمانيا تنسيقها مع تركيا، أخْذاً في الحسبان حيوية إمدادات الغاز التي تمرّ بالأخيرة، سواء حالياً أم مستقبلاً، مع تعهُّد أنقرة برفع قدرات خطّ «Trans-anatolian» من الإنتاج الليبي المرتقب. كما يُتوقّع أن تستمرّ برلين في التمسّك بإعلانها المشترك مع فرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة (22 أيلول الماضي)، والذي ينصّ على الالتزام بالدعم الكامل لوساطة الأمم المتحدة الهادفة إلى وضع أساس دستوري لعقد انتخابات رئاسية وبرلمانية في ليبيا «في أقرب وقت ممكن»، في ما يعاكس الرؤية المصرية الداعية إلى تمكين حكومة باشاغا أوّلاً، وإنهاء ولاية الدبيبة، ولا تُمانع تأجيل الانتخابات لشهور أخرى.

الدور الأميركي
تَنظر واشنطن إلى مخاوف القاهرة حيال الأزمة الليبية، بقدْر لا يستهان به من الاهتمام، لكنّ السلوك الأميركي في هذا السياق لا يبدو مُرضياً للمصريين. وأجرت الخارجية الأميركية محادثات مع مسؤولين مصريين، منتصف الشهر الجاري، بخصوص «الوضع في ليبيا»، مشدّدةً على أنه لا يمكن لدولة بعيْنها «فرْض حلّ للأزمة». وحضر الملفّ الليبي، أيضاً، بحسب بيان للسفارة الأميركية في القاهرة، في زيارة باربرا ليف، مساعِدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، لمصر، في مستهلّ جولة شرق أوسطية تستغرق 11 يوماً (11 - 22 تشرين الأوّل)، من بينها أربعة أيام كاملة في العاصمة المصرية. وكما جرت العادة، استقبلت القاهرة محادثات أميركية - ليبية بالتوازي مع زيارة ليف، لكن هذه المرّة بين مسؤولين أميركيين يتقدّمهم المبعوث الخاص وسفير الولايات المتحدة في ليبيا ريتشارد نورلاند (14 أكتوبر)، وبين رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح، حيث ركّزت المحادثات على وضع الأساس الدستوري للانتخابات، والإدارة الشفافة لعائدات النفط الليبي، في ما قد يمثّل نوعاً من الضغط على صالح والقوى الحليفة له (خليفة حفتر وفتحي باشاغا). ويعني ذلك، في ما يعنيه، تهميشاً للرؤية المصرية إزاء الأزمة الليبية، في ظلّ تصاعد أدوار فاعلين إقليميين آخرين خاصة الجزائر وقطر، ونجاح تركيا حتى الآن في تحقيق مكاسب فورية وكبيرة من خلال استغلال التغيّرات الجارية على الساحة الدولية، عبر ربط الملفّ الليبي بملفّات أكثر حساسية للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، مِن مِثل أزمة الطاقة.

خلاصة
تعكف تركيا على استغلال حالة التوتّر بين القاهرة و«حكومة الوحدة» الليبية، من أجل تحقيق مكاسب متعدّدة على حساب مصالح مصر وأمنها القومي في ليبيا. وهي نجحت بالفعل، حتى الآن، في هذا المسار، في ظلّ تعزيز حكومة الدبيبة مقبوليتها، مقابل تراجُع أسهم باشاغا إقليمياً ومحلّياً، بتأثير من تراجُع أكبر لخليفة حفتر في مجمل مسار التسوية. ولا يتبقّى أمام القاهرة، والحال هذه، سوى إعادة النظر جدّياً في مقارباتها الكلّية إزاء الملفّ الليبي، واعتبار الخطوات التركية نموذجاً يمكن أن يتكرّر في الشهور المقبلة، على الأقلّ حتى إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.