وجّهت الحكومة الإيطالية اتّهامات مباشرة إلى قوات «فاغنر» الروسية شبه العسكرية، بالمسؤولية عن زيادة أعداد قوارب الهجرة غير الشرعية في البحر الأبيض المتوسط، في الفترة الأخيرة. وقال وزير الخارجية الإيطالي، أنطونيو تاياني، أواخر الأسبوع المنقضي، إن «مجموعة المرتزقة الروسية تثير القلق في ليبيا، كما هو الحال في كلّ أفريقيا»، متّهماً إيّاها بأنّها «تغذّي هروب الناس والهجرة غير الشرعية». وفي تصريحات سابقة منتصف الشهر الجاري، قال وزير الدفاع الإيطالي، جويدو كروسيتو، إن «فاغنر مسؤولة عن زيادة أعداد قوارب المهاجرين التي تحاول عبور البحر المتوسّط، في إطار استراتيجية روسية للانتقام من دول تدعم أوكرانيا». ولئن لم ترُدّ موسكو على هذه المزاعم الإيطالية، غير أن تقارير دوليّة تتحدّث عن ارتفاع أعداد المُهاجرين الذين وصلوا السواحل الدولية خلال العام الحالي ثلاث مرّات مُقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، من دون الحديث عن أيّ دور روسي محتمَل في ذلك.وتأتي الاتّهامات الإيطالية لروسيا في وقت تتسارع فيه منذ أسابيع وتيرة التحرّكات والتصريحات الغربية ضدّ «فاغنر»، ضمن جهود تقودها الولايات المتّحدة بهدف إخراج المجموعة من ليبيا، التي تُعتبر بوّابة هامّة ورئيسة نحو عمق أفريقيا.
ولا يُعرف عديد هذه المجموعة بالضبط، ولا خريطة انتشارها المفصّلة، لكن قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر لا تنكر وجود «خبراء رُوس» يعملون معها، مبرّرةً ذلك بكون الجيش الليبي، منذ عقود، يستعمل أساساً قِطع سلاح روسية الصنع تحتاج إلى الصيانة والتدريب. لكن التقارير الأممية تؤكد أن «فاغنر» تقاتل جنباً إلى جنب قوات حفتر، وتسيطر على قواعد عسكرية في البلاد، وتتّهمها حتى بارتكاب جرائم وانتهاكات إنسانية، وفق ما أشار التقرير الأخير لـ«البعثة المستقلّة لتقصّي الحقائق في ليبيا»، التابعة لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، والصادر منذ يومين.
وتبدو الولايات المتحدة أكثر تصميماً من أيّ وقت مضى، على تكثيف جهودها ضدّ وجود «فاغنر» ودورها في ليبيا. وكان البيت الأبيض أعلن، منذ شهر كانون الثاني الماضي، تصنيف المجموعة الروسية على أنها «منظّمة إجرامية دولية». وقال المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي، جون كيربي، حينها، في إحاطة صحفية إن «فاغنر منظّمة إجرامية تُواصل ارتكاب فظائع وانتهاكات لحقوق الإنسان على نطاق واسع». وفي العشرين من آذار الجاري، أدّت مساعدة وزير الخارجية الأميركي، بربارا ليف، زيارة إلى ليبيا دامت يومَين، التقت خلالها حفتر في مقرّه في الرجمة شرقي البلاد، حيث تحدّثت بوضوح عن ما سمّته «دور فاغنر المزعزع للاستقرار والانتهازي في ليبيا والمنطقة». واكتفى المكتب الإعلامي لحفتر، في المقابل، ببيان مقتضب أشار فيه إلى أن النقاش مع الوفد الأميركي تناول «التطوّرات السياسية في ليبيا، وأهمية دعم جهود بعثة الأمم المتحدة من خلال التنسيق مع مجلسَي النواب والدولة لإعداد القوانين الانتخابية المطلوبة، تمهيداً لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية قبل نهاية عام 2023». غير أن بربارا ليف، في تصريحات لاحقة، إثر عودتها من ليبيا، أكّدت مجدّداً أن «مجموعة فاغنر تنتهك السيادة الليبية وتزعزع استقرار منطقة الساحل، وتستغلّ ليبيا بشكل مبدئي كطريق ممهَّد للوصول إلى وسط أفريقيا ونهب مواردها».
وبدأ التوجّه الأميركي نحو السعي إلى إخراج قوات «فاغنر» من ليبيا، يتجلّى بشكل عملياتي منذ بداية العام الجاري، وبالتحديد منذ زيارة مدير المخابرات الأميركية، وليامز بيرنز، منتصف كانون الثاني الماضي، والتي كانت الأولى لمسؤول بهذا المستوى إلى ليبيا منذ عام 2012. بدت تلك الزيارة أمنيّة الطابع بامتياز؛ إذ عَقد خلالها بيرنز اجتماعَين اثنين: أوّلهما مع رئيس «حكومة الوحدة»، عبد الحميد الدبيبة، الذي يبدو حليفاً متعاوناً في ملفّات عدّة، آخرها تسليم المتَّهم في قضية لوكربي أبو عجيلة المريمي، والثاني مع حفتر، فيما لم يلتقِ رئيسَي البرلمان و«الدولة»، وجرى التكتّم على الاجتماعَين المُشار إليهما. ويعني ما تَقدّم أن الملفّات الرئيسة التي تناولها المسؤول الأميركي تتعلّق أساساً بالجانبَين الأمني والعسكري، بما يشمل الحضور الروسي في البلاد وأنشطة «فاغنر» هناك، وفق ما أوردته مصادر صحافية أميركية. ولا تنفصل المساعي الأميركية الحثيثة والمتسارعة لتحجيم هذا الحضور، عن الحرب الدائرة في أوكرانيا، والتي تلعب فيها «فاغنر» بالتحديد دوراً رئيساً وكبيراً.
وتتحالف روسيا، التي لا تعلن بشكل رسمي حضور قوّات نظامية لها في ليبيا، مع حفتر المنتشرة قوّاته على مساحات واسعة من البلاد، تشمل حقول وموانئ الطاقة الرئيسة والكبرى. وفي عام 2020، قدّر تقرير الخبراء التابع للأمم المتحدة عدد عناصر «فاغنر» في هذا البلد بـ1200 عنصر، وهو ما يثير مخاوف الغرب، لِما تمثّله ليبيا من ساحة تنافس دولية جديدة، وأيضاً لقربها من السواحل الأوروبية، فضلاً عن الخشية من تأثير روسي إضافي «سلبي» في لعبة الطاقة.
في المُقابل، لا يزال حفتر متكتّماً في وجه التصريحات والمطالب الغربية بخصوص «تعاونه» مع روسيا، فيما لم تَخرج إلى العلن سوى تسريبات صحافية غير مؤكَّدة عن طلبه من الطرف الأميركي إخراج القوّات التركية كشرط رئيس لقبوله بإخراج تلك الروسية.
وتسير المساعي الأميركية بالتوازي مع مسار «لجنة 5+5» العسكرية، والتي تعمل، من بين أهدافها، على إخراج المرتزقة الأجانب من البلاد، وتوحيد المؤسّسة العسكرية. لكن الاستعجال الأميركي للتخلّص من حضور «فاغنر» ودورها، يبدو أكبر من أن ينتظر نتائج مسارٍ بطيء ومتعثّر وغير مضمون النتائج. ولهذا، تبدو الأسابيع القادمة مفتوحة على احتمالات كثيرة، قد تعيد رسْم المشهد الليبي برمّته.