لن تجد في قاموس الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد الدبلوماسي عبارة «فن الممكن» إطلاقاً، بل العكس تماماً. يكفي أن ترفع عنه غطاء بروتوكولات خارجية بلاده المثقلة بـ«الإتيكيت» والمسكونة بالأعراف التقليدية المكبّلة للحراك الحرّ، كما يصف كبار مستشاريه وزارة خارجية بلادهم، حتى تراه مسافراً على بساط الريح من شرق العالم الى غربه ومن شماله الى جنوبه مقتحماً ضوابط مستحيل السياسة ومحرماتها البروتوكولية. ولو تركته على سجيته لكان غداً صباحاً في القاهرة مفتتحاً سفارة لبلاده فيها رغم ظلال كامب ديفيد الثقيلة على سكة العلاقات الثنائية بينها وبين طهران. وتراه بعد غد في الرباط مطالباً الجانب المغربي بضرورة العودة عن قرار قطع علاقاته غير المبرر وغير المنطقي مع بلاده، مطبقاً المثل العامي الإيراني الشهير «هل رأيت الجمل؟ لا ما رأيته».ولهذا تراه اليوم يكثر من إرسال مبعوثيه الى الدول ذات العلاقات الباردة أو المشوشة مع بلاده، على غير المألوف، واضعاً زعماء هذه الدول في دائرة الإحراج، وتالياً القبول به كما هو واحداً «من جنس الناس» في بلادهم.
بهذا الشعار ترشح للانتخابات المرة الأولى، ففاز على كبار أركان الدولة والنظام. وعلى خطى هذا الشعار مضى في معركته الرئاسية الثانية، فهزم الأحزاب والتكتلات والعائلات والكارتيلات الحكومية. وها هو اليوم يمعن في ممارسة هذا الشعار سلوكاً يومياً، فيطيح السفير يوماً، والوزير يوماً آخر، ولا من مبارز.
لا شيء يفسّر طريقة قرار إقالته لوزيره الأهم ورئيس دبلوماسية بلاده الذي يؤلّف «نصف الحكومة» حسب تعبير البعض من قراء مطبخ صناعة القرار الإيراني، سوى هذه الحماسة المتدفقة التي تسري في روح أحمدي نجاد، والتي جعلته يضيق ذرعاً بذلك النصف الصلد من حكومته فيخلعه كما تخلع الريح القوية الأشجار المعمّرة.
من الكويت الى عمان الى صنعاء، ومنها قد تكون الرياض هي المحطة اللاحقة، ترى «خليله المثير للجدل»، اسفنديار مشائي، يتحرك وهو يحقق النجاح تلو الآخر، حاملاً رسائل الدعوة والتطمين الى زعماء بلدان. زعماء، قالت عنهم وثائق ويكيليكس بأنّهم من المحرّضين الأساسيين على بلاده. والهدف واحد دوماً من وراء هذه الدعوات، وهو وأد الفتنة في مهدها والعمل عكس اتجاه ريح المؤامرة التي تفوح من أوراق خريف أميركا، كما تعبّر بعض أوساط نجاد.
لم يسلم أحمدي نجاد من النقد اللاذع بسبب طريقة خلعه وزيره الأول، حتى من أقرب الناس الى معسكره. غير أنّ لا أحد في المقابل قدم مقاربة حول مضمون او محتوى الخلاف الذي أجبره على الإقدام على مثل هذه الخطوة غير المتعارف عليها ولا المألوفة. هذا يبقي الرئيس عملياً ممسكاً باليد العليا في هذا السياق ويترك الباب مفتوحاً أمامه لتغييرات قادمة لا محالة، في ظل تسارع تحديات الخارج والداخل وتزاحمها على خط سياسة رجل المفاجآت وجامع أضداد المقاربات الشعبية والحكومية.
إنّها ليست المرة الأولى التي يخرج فيها الرجل عن المألوف من أعراف دبلوماسية بلاده المثقلة بـ«الإتيكيت»، فعندما زار دولة الإمارات العربية المتحدة مثلاً، في نهاية ولايته الأولى، وعقد قمة مع رئيسها، قامت يومها الدنيا في أروقة اليمين كما اليسار السياسي والدبلوماسي في بلاده ولم تقعد. وانتقد، على ما سمته هذه الأطراف حينذاك، على تسرعه وعدم مراعاته الأوزان والأحجام والبروتوكولات، التي تقتضي زيارة معاكسة كان ينبغي أن يقوم بها الرئيس الإماراتي له أولاً.
الأمر نفسه تكرر لدى زيارته لمكة المكرمة وعقده قمته الشهيرة مع الجارة العربية الثانية، وهكذا جرى الأمر ايضاً عندما قبل دعوة امير قطر للمشاركة في قمة مجلس التعاون الخليجي.
الذين يعرفون أحمدي نجاد عن قرب ويعملون معه يقولون إنّ قراره الأخير بإقالة الوزير اللطيف والدبلوماسي المحنّك والمجرّب منوشهر متكي، لم يأت على خلفية شخصية ولا حزبية أو فئوية بقدر ما هو قرار أريد من ورائه إحداث هزّة في جسم الوزارة وآلياتها. واختير الرأس لعل في ذلك عبرة لكلّ عامل في هذه المؤسسة التي بات يشعر أحمدي نجاد بأنّها أشبه بالعربة التي تتثاقل حركتها كلما أسرع الرئيس، ما قد يتطلب تغيير بعض العربات الأخرى أيضاً. ذلك أنّ الآلية المرتقبة لعمل الرأس الجديد قد تكون بـ«النانو تكنولوجي» على أساس أنّ المرشح الأقوى لخلافة متكي هو رئيس هيئة الطاقة النووية الدكتور علي اكبر صالحي.
يستعد مساعدو الرئيس نجاد على ما يبدو لحراك دبلوماسي من نوع جديد، لا سيما على الساحة العربية. ويساجل هؤلاء، بحماسة، بأنّ المرحلة المقبلة تتطلب تجاوزاً لكلّ مخلفات العهد الإقليمي المنصرم، وخصوصاً بقايا بصمات الدسائس والكيد الأميركي. وبرأيهم، يتطلب ذلك حركة مشاورات مكثفة ومتسارعة بين الطرفين الإيراني والعربي لمواجهة مرحلة ما بعد الهروب الأميركي الكبير، الذي سترافقه في الغالب سياسة الأرض المحروقة. سياسة ستعني في ما تعني من الجانب الأميركي حرق الحليف والصديق وليس الخصم والعدو فحسب.
إنّها دبلوماسية مواجهة الفتن المتنقلة، اذاً، التي يعتقد الرئيس ومساعدوه وعدد من رموز الخارجية الإيرانية الجدد أنّ الوقت لن يكون عندها كما كان عليه من قبل. ويتطلب ذلك نقلة نوعية في حركة الدبلوماسية العامة لبلادهم إنّ كان على مستوى مؤسسة وزارة الخارجية أو على مستوى البلد ككل.
دبلوماسية «من جنس الناس»، كما يفضل الرئيس نجاد تسميتها، يكون شعارها اقتحام الساحات المحرمة دبلوماسياً عند الضرورة. اقتحام سيتيح، على ما يبدو، التغلب على دبلوماسية زعماء عصر «فن الممكن» ورموزه، المتحكمين بمعادلة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية.
دبلوماسية يعتقد نجاد بأنّها ساهمت في صناعة نصر تموز اللبناني وكوانين الفلسطيني، وهي في طريقها، إذا أتقنت هذه المرة ايضاً، إلى أن تعبر تحديات مرحلة الحصار للسفر الأخير من المشروع النووي الإيراني ومؤامرة المحكمة الدولية على لبنان ومخطط حشر الفلسطينيين في دائرة عبثية المفاوضات.
إنّها، باختصار شديد، دبلوماسية «النانو»، الذرية، في مواجهة دبلوماسية «الناتو»، الأميركية ـــــ الصهيونية. هذه الأخيرة تريد وقف انطلاق مراكب البحار الخمسة (السورية والإيرانية والتركية والعراقية واللبنانية) المتجهة الى موانئ حيفا ويافا واللد والرملة وغزة، كما يخطط ربابنتها، على حد تعبير مقربين من الرئيس.
اللافت والعجيب في «لامتعارفات» أحمدي نجاد هو أنّ الرجل يلجأ الى مثل هذه الخطوة الخطيرة في قاموس الأعراف الإيرانية الحكومية التقليدية في الوقت نفسه الذي يقود فيه مواجهة غير تقليدية على جبهتين خارجية وداخلية. جبهة الحصار الاقتصادي وجبهة تحرير أسعار السلع الأساسية، ما يعني أنّ الرجل من جنس «النانو تكنولوجي» فعلاً، وإلّا لما تمكن من الإفلات من شباك مخاصميه بهذه السلاسة.
* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي ـــــ الإيراني