مرّت الحياة السياسية في مصر بمحطات رئيسية منذ مطلع الألفية حتى الآن. وتزامنت تلك المحطات مع أحداث مركزية سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي. من هذه الأحداث، اندلاع الانتفاضة الفلسطينية وغزو العراق وتعديل المادة 76 من الدستور الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية وما تلاها، واندلاع الحركة العمالية والاجتماعية. وقد كانت كلّ مرحلة من المراحل تطرح خيارات ورهانات أمام قوى المعارضة، كما أنّها كانت تفتح آفاقاً جديدة أمام الحركة. الانتخابات البرلمانية التي جرت أخيراً واحدة من أهم تلك المحطات في الحياة السياسية المصرية، ليس فقط لأنّها شكّلت البرلمان الذي سيشهد انتخابات الرئاسة في لحظة يتوقع فيها الجميع انتقال السلطة، بل لأنّها وضعت رهانات المعارضة على محكّ قاس
وجعلت إعادة النظر في تلك الرهانات أمراً لا مفر منه. لقد اعتمدت قوى المعارضة المصرية، أو أغلبها، على مجموعة من الآليات والأساليب في العمل تصورت أنّها من خلالها تمثّل ضغطاً على النظام ويمكن أن تضطره إلى تقديم تنازلات أمامها. من هذه الآليات اللجوء للتقاضي وجمع التوقيعات واستخدام الضغط الدولي والتشهير الإعلامي. ورغم استخدام بعض الآليات الأخرى، مثل دعم الحركة العمالية والاجتماعية وتظاهرات الاحتجاج، إلا أنّها لم تمثّل رهانات أساسية للمعارضة. تكفي الطريقة التي جرت بها الانتخابات ونتائجها لتوضيح جدوى تلك الرهانات. لقد تمكن النظام من تحقيق أهدافه كاملة في الانتخابات غير مكترث لأحكام قضائية صدرت بالفعل بوقف الانتخابات وإبطالها أو نقد دولي أو صورته في الإعلام.
إقصاء النظام للمعارضة عبر التزوير المنظّم والعنف على النحو الذي جرى في انتخابات تشرين الثاني / نوفمبر 2010، أكدا عدم جدوى رهانات القوى السياسية. لكن هناك أمر لا ينبغي أن يمرّ من دون وقفة جادة أمامه، وهو ردود الفعل على ما جرى في الانتخابات. لقد شهدت انتخابات تشريعية ورئاسية في العديد من الدول عمليات تزوير وخرجت نتائجها عكس ما توقعه الناخبون. هذه الدول أو بعضها شهدت ردود فعل جماهيرية متفاوتة على نتائج الانتخابات وصلت حدّ الانتفاضة في بعضها، مثل أوكرانيا وقرغيزيا وإيران وأخيراً ساحل العاج. وإن كانت كل حالة لها ملابساتها وظروفها إلا أن تلك الأمثلة وغيرها تعبّر عن معارضة تستند إلى قاعدة جماهيرية مستعدّة لخوض معركة. وما حدث في مصر، هو أنّ أكبر احتجاج على تزوير الانتخابات لم يصل إلى ألفي متظاهر، منهم عشرات المرشحين الذين تعرضت نتائجهم للتزوير. ربما يغري رد فعل كهذا النظام على المزيد من التزوير للانتخابات لاحقاً. صحيح أنّ بعض ردود الفعل في الدوائر الانتخابية كانت أقوى، مثل دائرة مؤسس حزب الكرامة الناصري حمدين صباحي، إلا أنّ ردود الفعل العامة كانت في مجملها غير مؤثرة ومحدودة. التفسير التقليدي لردود الفعل الضعيفة على تزوير الانتخابات هو اتهام الجماهير بالسلبية لأنّها لم تهبّ للدفاع عن أصواتها، فضلاً عن انخفاض معدّلات التصويت عموماً، التي لم تتجاوز 25% في الانتخابات الأخيرة حسب البيانات الحكومية، بينما تؤكد المؤسسات المستقلّة التي راقبت الانتخابات أنّ النسبة أقل حتى من نصف هذا الرقم. لكن تهمة السلبية التي تلاحق الجماهير لا تصمد كثيراً أمام مظاهر الإيجابية التي تجلّت في الكثير من الأوقات. ومن الصدف الغريبة أنّه فور انتهاء الانتخابات أضرب عشرات الآلاف من سائقي الشاحنات في أنحاء مصر احتجاجاً على زيادة الضرائب عليهم. الإضراب شلّ حركة نقل البضائع وتسبب في أزمة حقيقية تصدى فيها المضربون لكاسري الإضراب ومنعوهم من قيادة الشاحنات. لا يمثل إضراب سائقي الشاحنات استثناءً، فلا يكاد يمرّ يوم في مصر من دون إضراب أو اعتصام أو تظاهرة. هذا التناقض بين إيجابية الجماهير في الحركة المطلبية وسلبيتهم في الانتخابات التشريعية لا يمكن تفسيره من دون التعرض لرهانات المعارضة نفسها. فمن الواضح أنّ حركة الجماهير ونضالها لم تكن أصلاً ضمن رهانات قوى المعارضة السياسية في مصر، رغم إبدائها الكثير من التعاطف والتضامن معها في الكثير من المناسبات. تبدو الأمور متّسقة إلى حد ما، فالمعارضة التي وثقت بالرهان على ساحات المحاكم وعلى الضغط الدولي والتشهير الإعلامي وغيرها، لم تكن على الدرجة نفسها من الثقة بالجماهير التي من المفترض أنّ التغيير سيكون لمصلحتها. والجماهير نفسها لم تجد نفسها جزءاً من هذه المعركة التي تخوضها المعارضة في مواجهة النظام. لا سبب كافياً إذاً لأن تهبّ الجماهير دفاعاً عن المعارضة عندما زُوِّرت الانتخابات.
لكن الأكثر غرابة هو أن تستمرّ المعارضة على الرهانات نفسها بعد ما جرى في الانتخابات البرلمانية. فعندما حشدت المعارضة وسائلها للردّ على تزوير الانتخابات أخرجت من جعبتها الأمور نفسها: رفع قضايا ضد التزوير والمزوّرين، وقضايا لإبطال مجلس الشعب ونزع الشرعية عنه، وقضايا أخرى في المحاكم الدولية، ووقفات رمزية للتنديد بالنظام، وبرلمان مواز يضمّ من زُورت الانتخابات ضدهم. مجموعة من الإجراءات يصعب أن يكتشف المرء مكاناً فيها للجماهير، كما لو أنّه لا دروس من التجربة الماضية. إنّ تأليف مجلس الشعب جاء متجانساً تماماً مع مجمل الأوضاع السياسية في مصر، فالمجلس يهيمن عليه كله الحزب الوطني الحاكم وغابت عنه المعارضة تماماً إلا من أذن لها النظام. هل ثمة أي شيء غير عادي في ذلك؟ وهل من المنتظر أن يأتي مجلس شعب يمثل الشعب بحق في غياب اتحاد طلابي يمثّل الطلاب أو اتحاد عمالي يمثل العمال أو نقابات مهنية تمثل المهنيين أو أي مؤسسة نيابية أو تمثيلية تكوّنت بإرادة أعضائها؟ إنّ من يتصور أنّه بالإمكان القفز على كلّ ذلك ليصنع الديموقراطية من قمتها، لا بد أن يرتطم بصخرة الاستبداد. لا يعني ذلك أنّ الوقت مبكر على الديموقراطية، وأنّ علينا الانتظار حتى بنائها من أسفل بعد تنظيم الجماهير في مؤسسات نقابية وفئوية. المقصود أنّ الديموقراطية لن تأتي عاجلاً ولا آجلاً ما لم تصبح معركة الجماهير، لا معركة النخب. تلك الجماهير التي تتحرك بالفعل كل يوم دفاعاً عن مصالحها المباشرة ولم تقدم المعارضة السياسية نفسها بصفتها جزءاً من هذه الحركة ولم تر فيها أفقاً للنضال الديموقراطي.
لا يمكن عدّ أي من أدوات العمل السياسي غير مجدية، ولا يمكن استبعاد أو اهمال التقاضي والتشهير الإعلامي والتضامن الأممي بين الحركات المناضلة وجمع التوقيعات وغيرها من الوسائل. فكل هذه الأدوات وسائل مساعدة ومفيدة، لكنّها لا تصلح رهانات لتحقيق الديموقراطية في مواجهة نظام يستخدم كل أشكال القوة والقمع ضد معارضيه. الأنظمة المستبدة لا تقدم تنازلات إلا عندما تكون خسائرها من التنازلات أقل من خسائرها في مواجهة حركة المعارضة، وهي المعادلة التي لم تستطع المعارضة المصرية تحقيقها حتى الآن ولا يمكن تحقيقها بأحكام قضائية بل تحتاج إلى قوة الجماهير. لقد بدأت الحكومة تتراجع أمام إضراب الشاحنات عندما أصبحت الخسائر الناجمة عنه ـــــ قدرت بـ500 مليون جنيه ـــــ أكبر من العوائد المفترضة لزيادة الضرائب. هذه هي المعادلة التي تحققها الحركة العمالية والجماهيرية. وإذا لم تنجح المعارضة في تحقيقها فستظل تراوح مكانها.
من المتوقع أن تشهد الحركة الجماهيرية في مصر المزيد من التصعيد في الفترة القادمة. فهناك عوامل مساعدة على الطريق، منها موجة ارتفاع الأسعار التي ستنتجها زيادة الأسعار العالمية، وخاصة للحاصلات الزراعية، واتجاه حركة استقلال النقابات للنضج والاتساع وظهور جيل جديد من القيادات العمالية والاجتماعية تربى على مدار السنوات السابقة في المعارك اليومية للعمال. كما هناك زوال تأثير المسكّنات التي استخدمتها الدولة مثل الرفع الطفيف للأجور والزيادة المضاعفة للأسعار، واتجاه الدولة لسن المزيد من التشريعات ضد العمال والفقراء مثل قانون التأمين الصحي الجديد وقانون الوظيفة العامة. كلّ هذه العوامل تؤكد أنّ الحركة العمالية والاجتماعية، التي فاجأت الجميع من قبل بدرجة نضجها وتطورها ونظامها، ستحمل مفاجآت أكبر في المستقبل. وبعد انتخابات برلمانية تمكّن النظام من السيطرة عليها كلياً وفشلت فيها رهانات المعارضة، لم يعد أمام المعارضة سوى إعادة النظر في خياراتها والبحث عن السبل التي تكسب بها ثقة الجماهير المناضلة لتصبح في معركة الديموقراطية.

* صحافي مصري