عبد العلي حامي الدين*بالرغم من التباعد الجغرافي الكبير بين المغرب وإيران، فإنّ العلاقات المغربية ــ الإيرانية ليست وليدة اليوم، بل لها جذور تاريخية تعود إلى فترة نهاية القرن السادس عشر الميلادي. واستمرت العلاقات بين الجانبين في الحقبة المعاصرة، وتميّزت الروابط بين البلدين بمرورها بمجموعة من المراحل بدءاً من التوافق السياسي زمن الشاه «رضا بهلوي» والملك الراحل الحسن الثاني، إلى القطيعة بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979. وأعقبتها مرحلة من الانفراج والانفتاح أثمرت مزيداً من التطبيع على صعيد العلاقات الثنائية.

أولاً: التنسيق والتوافق قبيل الثورة

يعود قرار إقامة العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإيران إلى مطلع ستينيات القرن الماضي، إذ لم تقتصر العلاقات على مستوى التمثيل الدبلوماسي، بل تعدتها إلى التنسيق السياسي والأمني بين البلدين، ولاسيما أنّه في ظل هذه المرحلة كانت إيران في صراع مستميت ضد محاصرة المدّ القومي العربي والنفوذ السوفياتي من خلال مشاركتها في حلف بغداد. وبعد هزيمة الدول العربية في حزيران / يونيو1967 ووفاة الزعيم المصري جمال عبد الناصر عام 1970 وتراجع التيار القومي الثوري في المنطقة وبروز تيارات جديدة في الوطن العربي، انطلقت إيران من تصور وجود فراغ للقوة في ظل تراجع دور مصر الإقليمي. تراجع يسمح لها ببناء علاقات مع دول عربية وإسلامية تتقاسم الرؤى والمصالح نفسها، حتى لو كانت في دائرة بعيدة عن النفوذ التقليدي الإيراني وهي دائرة المغرب العربي.
وعلى هذا الأساس، قامت العلاقات الإيرانية ـــــ المغربية، مع استحضار البعد الشخصي في بناء هذه العلاقة بين الملك الراحل الحسن الثاني والشاه «رضا بهلوي». وامتدت هذه العلاقات لتشمل تنسيق بعض العمليات الأمنية والاستراتجية في أفريقيا زمن الحرب الباردة.
إلى جانب التنسيق السياسي والأمني، حظيت العلاقات الثنائية برصيد لا بأس به من المعاهدات والاتفاقيات في شتى الميادين (الاقتصادية والفلاحية والفنية). وبالرغم من التوافق، الذي ميّز العلاقات البينية، إلا أنّها شهدت خلافات حول بعض القضايا التي أثّرت على مسارها في بعض الأحيان، منها تمسك الجانب المغربي بضرورة تسوية قضية الجزر الثلاث (أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى) الإماراتية وعدّها غير إيرانية، وهو ما كان يثير حفيظة شاه إيران. ومن جهة أخرى، كان لرفض الشاه التنازل عن صفقة طائرات «الفانتوم» التي طلبها المغرب من الأميركيين والتي راهنت الرباط في الحصول عليها، أثر كبير في توتير العلاقات بين الطرفين.

ثانياً: القطيعة بعيد الثورة

قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، لم يدخر المغرب جهوده ومساعيه الدبلوماسية، لحلّ الأزمة والخلاف بين الشاه وجماعة العلماء في حوزة قم. وبنجاح الثورة الإسلامية في إطاحة نظام الشاه عام 1979، دخلت الدولتان مرحلة القطيعة، واتخذ خلالها المغرب موقفاً مناقضاً للنظام الجديد هناك. ثم انقطعت العلاقة بين البلدين عام 1981، نتيجة إعلان المغرب قرار استضافة الشاه، وهكذا تأزمت العلاقة بين المغرب وإيران وشابها جفاء دام ستة عشر عاماً.
خلال هذه الفترة، مثّلت الأيديولوجيات أحد المؤثرات المهمة في عملية صنع السياسة الخارجية. ولم تلق السياسة الإيرانية الجديدة الترحيب من الأنظمة العربية الحاكمة باستثناء سوريا. وفي عام 1980 أعلن صدام حسين حربه على الجمهورية الفتية مدعوماً من الغرب. وقد تميز الموقف العربي في ذلك الوقت بالجمود تجاه إيران الثورة. وبدل الاستفادة من التطور الإيجابي في سياستها الخارجية، مثل دعم القضية الفلسطينية ومعاداة إسرائيل، بدأت حملات التجييش ضدها واختلاق الخوف من التمدّد الشيعي، واستحضار كلّ الحقب السوداء في التاريخ المشترك.
وفق ذلك، عمل المغرب داخلياً على التصدي لكل ما رآه محاولات إيرانية لتصدير الثورة إليه. بالموازاة مع ذلك، جاء دعم الموقف الإيراني في قضية الصحراء لأطروحة الانفصاليين، ليزيد من عمق الهوة بين الدولتين. وفي أعقاب القمة العربية الثانية عشرة في فاس 1982، أثناء الحرب العراقية ـــــ الإيرانية، أبدى الملك الراحل الحسن الثاني استعداد المغرب إلى جانب باقي الدول العربية، لتنفيذ التزاماته تجاه العراق بموجب معاهدة الدفاع المشتركة العربية في حالة عدم استجابة إيران واستمرارها في الحرب.
خلال هذه الحقبة تميزت العلاقات بالقطيعة والتوتر بفعل تباعد تصورات البلدين إزاء القضايا الدولية والإقليمية وقضايا المصالح المشتركة. هكذا شهدت الروابط بين البلدين المزيد من التأزم، من خلال تصعيد المواجهة الدبلوماسية بينهما. وفي عام 1986 عندما كان المغرب يرأس القمة الإسلامية، انعقد في شهر كانون الثاني / يناير بفاس المؤتمر السادس عشر لوزراء خارجية الدول الإسلامية. وتقرر في الاجتماع أن يعقد الوزراء اجتماعهم التقليدي في نيويورك في شهر تشرين الأول / أكتوبر، أثناء مشاركتهم في دورة الأمم المتحدة، ويكون الاجتماع مناسبة لاستعراض جدول الأعمال. وقبل الاجتماع بيوم واحد، أجريت اتصالات بين الوفد السوري والوفد الإيراني، مدعومين من وفدي ليبيا والجزائر، لإبعاد المغرب عن رئاسة الاجتماع، تمهيداً لاتخاذ قرار بفصله من المنظمة. السبب وراء ذلك استقبال الملك الراحل «الحسن الثاني» رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق «شمعون بيريز» في مدينة إيفران المغربية. وهكذا تقدم كل من الجانب السوري والجانب الإيراني بطلبيهما أثناء الاجتماع تعليق عضوية المغرب في منظمة المؤتمر الإسلامي، إلا أنّ يقظة الدبلوماسية المغربية حالت دون نجاح هذه المناورة الإيرانية.
في الوقت نفسه تواصلت الحملات الإعلامية بين البلدين حتى توقف الحرب العراقية ـــــ الإيرانية ووفاة الإمام الخميني، وإبداء النظام السياسي الإيراني الجديد نوعاً من الانفتاح والتقارب مع الدول العربية، ما سيفسح المجال لانفراج العلاقات بين الجانبين.

ثالثاً: تحسّن العلاقات ومقوّمات التقارب

مثّل قرار إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في عام 1991، منعطفاً مهماً، إذ دخلت الدولتان في مرحلة جديدة من الانفتاح بفعل مجموعة من العوامل الدولية والإقليمية والمحليّة. كان لانهيار المعسكر الشرقي وانتهاء الحرب الباردة تداعيات واضحة على المصالح القومية الإيرانية، دفعتها إلى إعادة ترتيب أولوياتها من جديد في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي والإسلامي عموماً. فبعد انتهاء الحرب العراقية ـــــ الإيرانية، وصعود التيار الإصلاحي، بدأ النقاش يدور في أوساط القيادات السياسية والنخب الإيرانية حول اتجاهين أساسين. اتجاه يذهب إلى القول بأنّ على إيران أن تقدم تجربة إسلامية ناجحة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يتطلب انصرافها للاهتمام بقضاياها. واتجاه آخر لا يرفض بناء «نموذج ناجح»، لكنّه لا يريد التخلّي عن شعارات الثورة، وعن دور إيران الثوري في العالم. وسيُعبّر عن هذين الاتجاهين لاحقاً من خلال تياري الإصلاحيين والمحافظين، قبل أن تظهر خريطة سياسية جديدة أبرز معالمها هي تعددية سياسية حقيقية على حساب التقاطب الثنائي.
كان لهذه التفاعلات بين القوى السياسية دور كبير في خلق ديناميكية سياسية داخلية، انعكست إيجاباً على صورة إيران في الخارج. وأضفت على النظام السياسي الإيراني حيوية مثيرة للمراقبين في الخارج، أيضاً، وخصوصاً مع حدة النقاشات التي وصلت إلى جوهر الجمهورية الإسلامية، ولاية الفقيه.
وكان لحرب الخليج الثانية ونتائجها أيضاً دور محوري في تخفيف مقولة «التهديد الإيراني» في نظر دول الجوار الإقليمي. وساهم وصول كلّ من الرئيسين هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي إلى السلطة، واتباعهما لسياسة الانفتاح نحو دول الجوار، في تعزيز العلاقات الإيرانية العربية والإسلامية.
في ظل هذا السياق، شهدت العلاقات المغربية ـــــ الإيرانية مزيداً من الانفتاح، إذ عرف الموقف الإيراني نوعاً من التقدم بخصوص ملف قضية الصحراء. جمّدت الجمهورية الإسلامية الإيرانية اعترافها بحركة البوليساريو، ودعمت هذا الموقف من خلال قرارات الأمم المتحدة. وقابل ذلك إقرار المغرب بحق إيران في استعمال الطاقة النووية للأغراض السلمية.
لا شك في أنّ الانفراج في العلاقات بين البلدين تحكّمت فيه متغيرات جديدة في منطقة المغرب العربي. جاء تفعيل محور الرباط ـــــ طهران، بعد قطع العلاقات الدبلوماسية بين إيران والجزائر عام 1993. حدث ذلك بعد اتهام السلطات الجزائرية لطهران بالتدخل في الشؤون الداخلية عقب اندلاع المواجهات المسلحة بين الدولة والحركات الإسلامية المسلّحة. وكانت الجزائر ترى نقطة ارتكاز أساسية للحضور الإيراني في منطقة المغرب العربي والحليف المفضل لطهران، بفعل تقاسم القيم الثورية بين البلدين. كما ساهم استمرار الجفاء في العلاقات بين ليبيا وإيران منذ واقعة اختفاء الإمام «موسى الصدر» سنة 1977، في تعزيز العلاقة مع الرباط.
كذلك كان للتنسيق الوثيق والحميم بين طهران ونظام الخرطوم في السودان انعكاساته على العلاقات السودانية ـــــ التونسية التي شهدت أزمة حادّة أدّت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية، وأبانت مخاوف وهواجس من النزعة الإيرانية المعلنة لتصدير الثورة الإسلامية. من هنا بدأت تظهر بعض التعديلات على السياسة الخارجية الإيرانية، مع تفوق جناح هاشمي رفسنجاني على جناح المتشددين. أتاح ذلك فرصة تقويم الموقف الإيراني من الأوضاع في المغرب العربي ومراجعة التأييد الواضح الذي كانت تظهره طهران للحركات الإسلامية المحليّة. وتجسيداً لذلك، سعى الإيرانيون إلى توسيع العلاقات الدبلوماسية العادية مع دول المغرب العربي، بعدما تعرّضت علاقاتهم مع دول المشرق العربي إلى أزمات لم تكن تنتهي هنا، إلا لتتأجج هناك.
وعليه، سجل على الصعيد السياسي حراك دبلوماسي بين الرباط وطهران، عكسته الزيارات المتبادلة، على مستوى عال، بداية من وزير الخارجية الإيراني الأسبق علي أكبر ولايتي عام 1997 وبعدها زيارة الوزير الأول المغربي السابق عبد الرحمن اليوسفي في عام 2001 لإيران. زيارة رآها المراقبون من أهم إشارات الانفتاح في السياسة الخارجية المغربية في عهد الملك محمد السادس. وقد أدّت هذه الزيارات وغيرها إلى توقيع المزيد من الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية، وزيادة الروابط الثقافية. كما تميزت السنوات الأخيرة بتدشين بعض الزيارات بين الأحزاب السياسية المغربية ونظيرتها الإيرانية.
بالرغم من التباعد الجغرافي بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمملكة المغربية، تظلّ عوامل الالتقاء والتقارب بين البلدين متاحة ومتوفرة. فالمغرب يحتلّ موقعاً استراتيجياً متميزاً في أفريقيا والغرب الإسلامي إلى جانب قربه من أوروبا. بينما تتمتع إيران بموقع جيوبوليتيكي مهمّ في آسيا الإسلامية وفي منطقة الشرق الأوسط تحديداً. يحتّم على الطرفين الاستفادة من هذه الإمكانات.
وبإمكان الجانب الإيراني أن يراهن على المغرب شريكاً محورياً في منطقة المغرب العربي والعالم الإسلامي. وتظلّ هذه العناصر كفيلة بإضفاء مزيد من التنسيق وتحقيق نوع من التقارب الدبلوماسي والسياسي في القضايا التي تهمّ العالم العربي والإسلامي وعلى رأسها قضية القدس الشريف. كما أنّ الانفتاح على المغرب من شأنه أن يخفّف من حدة الاحتقان والتوتر الذي تعانيه الجمهورية الإسلامية الإيرانية في علاقاتها مع الدول العربية في المشرق العربي، وخصوصاً مع الطرف المصري.
أما الجانب المغربي، فهو، من منطلق تشبّثه بهويته العربية والإسلامية، يحرص على بناء علاقة متينة مع دول إسلامية شقيقة، ومن هنا تأتي أهمية تعميق العلاقات مع الجانب الإيراني، ذلك على خلفية تطلع طهران إلى أداء أدوار إقليمية مهمّة في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، لأنّها استفادت من ثغر الموقف الدولي والهزائم الأميركية خلال السنوات الأخيرة وعززت بنيتها الاقتصادية والعلمية والسياسية. وعودة المغرب إلى التفاعل من جديد مع شؤون المشرق العربي يمكن أن تمرّ عبر البوابة الإيرانية بعد سنوات من انكفاء الرباط عن المنطقة.
ومن جهة أخرى، بإمكان المغرب أن يبني تجربة جديدة في مجال تعاون جنوب ـــــ جنوب مع الشقيقة إيران من خلال الاستفادة من الخبرة الإيرانية الفنية في مجال الصيد البحري وترميم الآثار.

رؤية استراتجية جديدة لتطوير العلاقات المغربيّة ــ الإيرانيّة

إنّ البعد الجغرافي لمنطقة المغرب العربي عن الخليج العربي وعن عمق العالم العربي والإسلامي جعل الطبقة السياسية في المغرب في منأى عن جميع المخاوف التي تحكم العديد من الأنظمة العربية في الخليج تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية. هذا خصوصاً بعد الاحتلال الأميركي للعراق وبروز الدور الإيراني فيه. دور أصبح من أهم الأوراق، ليس للتأثير فقط على السياسات الأميركية في العراق وفي المنطقة كلها، بل على مواقف العديد من الدول العربية، وخصوصاً الخليجية منها. ويأتي هذا نتيجة لتأثير الدور الإيراني على الصعود السياسي القوي للشيعة في العراق وداخل بعض الدول العربية الخليجية، فضلاً عن الدعم المباشر لحزب الله في لبنان.
وبعد ثلاثة عقود على الثورة الإسلامية في إيران، تبدد الإحساس بالتهديد الذي تمثله الجمهورية الإسلامية الإيرانية بـ«احتضانها» للحركات الإسلامية الثورية واعتمادها منطق «تصدير الثورة».
وأصبحت الدولة في المغرب تشعر بنجاحها الكبير في خلق الإجماع حول النظام الملكي والملك الذي يعدّ في الوقت نفسه أميراً للمؤمنين، وحول المذهب المالكي السنيّ. وقد ساهم في خلق هذا الارتياح غياب «شيعة» بالمعنى المذهبي للكلمة، واعتماد الحكم المغربي على شرعية دينية معززة بالانتساب لآل البيت، وشيوع ثقافة التقدير والإجلال لآل البيت وللإمام علي كرّم الله وجهه.
وفي هذا السياق يمكن رؤية مذكرة التفاهم بشأن إقامة آلية للمشاورات السياسية الموقعة بين وزارة الشؤون الخارجية والتعاون للمملكة المغربية ووزارة الشؤون الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، بمثابة اتفاق إطار لتطوير العلاقات السياسية بين البلدين في اتجاه أكثر فاعلية وأكثر مردودية.
إن مواد هذه المذكرة تفتح آفاقاً جيدة لرسم استراتيجية جديدة لتطوير العلاقات المغربية ـــــ الإيرانية. وفي هذا الإطار، تقترح هذه الورقة بعض المجالات التي يمكن أن تكون محلّاً لتنسيق المواقف والتشاور واعتماد آليات التعاون والاعتماد المتبادل بصددها، من قبيل مواجهة تحديات العولمة والملف النووي الإيراني والاهتمام بالشأن الأفريقي وتطوير فكرة التقريب بين المذاهب وتعزيز نظرية حوار الحضارات والحرص على وحدة أراضي البلدين.

تنسيق المواقف على مستوى الملفّ النووي

لقد عرف انتشار القدرات النووية السلمية في المنطقة المغاربية تطورات مهمة في الآونة الأخيرة، في ليبيا والجزائر، وتونس. أما بالنسبة إلى المغرب، فهناك اقتناع متزايد بضرورة دخول النادي النووي السلمي. ويقدر الخبراء تكلفة إقامة محطة نووية بالمغرب بأكثر من ثلاثة مليارات دولار (بحلول 2017).
إنّ هذه التطورات تضفي مشروعية كبيرة على البحث العلمي النووي للأغراض السلمية، ومن شأنها تعزيز القدرة التفاوضية للدول العربية والإسلامية في اتجاه الضغط على الولايات المتحدة الأميركية ودفعها إلى التمييز بين ما هو مدني وما هو عسكري في الطاقة النووية.
وفي هذا السياق، بإمكان المغرب أن يعرض على واشنطن إمكانية القيام بدور الوسيط بين طهران وواشنطن لتأمين استئناف المحادثات بينهما، والعمل على تخفيف حدّة الضغط الدولي على إيران. وبإمكان طهران أن تجعل علاقة الرباط الوثيقة بواشنطن مدخلاً جديداً لتحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة أو قناة لتلك العلاقات في ظل التوتر الحالي بسبب الملف النووي.

التنسيق في الشأن الأفريقي

بدأ الاهتمام الإيراني بالقارة الأفريقية خلال ستينيات القرن الماضي، بالتزامن مع حصول أغلب الدول الأفريقية على الاستقلال. غير أنّ انشغال إيران بشؤونها الداخلية عقب الثورة الإسلامية واندلاع الحرب مع العراق أصابا دورها الأفريقي بنوع من التراجع. ومع الرئيس خاتمي، اتجهت إيران إلى تنشيط سياستها الخارجية في أفريقيا في إطار انفتاح النظام على العالم بطريقة براغماتية متحررة إلى حد ما من القيود الأيديولوجية.
أما حضور المغرب في أفريقيا، فله امتداد تاريخي وروحي وسياسي، ويتوفر على خبرة وتجربة لا بأس بهما في مجال التعاون التقني مع دول جنوب الصحراء. وبالتالي فإنّ تنسيق الجهود في هذا المجال في إطار تكريس آلية جديدة للتعاون الثلاثي (أفريقيا، المغرب، إيران) من شأنه أن يكثف الروابط الوثيقة بالقارة السمراء.

رسم استراتيجيّة مواجهة تحدّيات العولمة

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وزوال نظام الثنائية القطبية، برزت العولمة بشعاراتها الاقتصادية المتمثلة في حرية السوق ورفع الحمائية الجمركية وإطلاق الحرية لحركة التبادل التجاري، والتفاعلات المالية والاقتصادية بلا حدود ولا قيود. ولمّا كانت الدول الإسلامية تنتمي إلى الدول المتوسطة والصغيرة التي تتأثر تقليدياً بتحولات البيئة الدولية، كان من المنطقي أن تشعر تلك الدول بآثار العولمة وبالحاجة إلى تحديد مدلولاتها العميقة وآثارها على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والحضارية عموماً، وضرورة رسم استراتيجيات محكمة للتعامل معها. من هنا تبرز أهمية التنسيق الإيراني ـــــ المغربي في مجال تحديد القضايا المثارة في أجندة العالم الإسلامي بشأن العولمة، والإسهام في بلورة رافد مهمّ يمكن أن يكوّن سداً منيعاً أمام سيل العولمة الغربية الجارف.
إنّ السلام العالمي لا يمكن أن يتحقق إلا إذا ووجهت سلبيات العولمة الاقتصادية باستراتيجية مضادة. ذلك أنّ العولمة في الوقت الراهن تعمل لمصلحة دول الشمال المتقدمة على حساب دول الجنوب الفقيرة. وفي هذا الإطار لا بد من إعادة التفاوض حول معاهدة منظمة التجارة العالمية وتعديل المواد التي تتضمن أحكاماً مجحفة بالدول النامية والتي من شأنها أن تلحق أضراراً بالغة الخطورة بالاقتصاديات الناشئة لهذه الدول.

حلّ إشكاليّة العلاقة بين السنّة والشيعة

أصبح موضوع العلاقة بين السنّة والشيعة يحفل بالكثير من الدلالات السياسية بعدما كان محصوراً ببعض الخلافات الفقهية والعقائدية. لقد تجلّت البداية الملموسة لخطورة الحساسية المذهبية بين السنة والشيعة بعد الغزو الأميركي للعراق ونجاحه في الاستعانة قبل الاحتلال وبعده بعديد من الرموز السياسية والدينية الشيعية ودفعها إلى مقدمة المشهد العراقي في ظل تحجيم مقصود للسنة في العراق. وقد زاد من هذه الحساسية المذهبية، تأليف بول بريمر، الحاكم الأميركي المدني للعراق، مجلس الحكم العراقي في 12 يوليو 2003 والذي عُدّ أعلى هيئة في البلاد وحظي فيه الشيعة بثلاثة عشر مقعداً من خمسة وعشرين، بينما حصل السنة على خمسة مقاعد فقط. وقد جاءت العديد من القرارات والإجراءات المتتابعة في الاتجاه نفسه، وهو ما جعل الطائفة السنية العربية في العراق تشعر بضياع حقوقها نتيجة الانحياز الواضح للطائفة الشيعية، الأمر الذي يعدّ السبب الأول لاندلاع العديد من الصراعات الدموية بين الطرفين، ساهم في تغذيتها شعور بعض الشيعة بأنّ معاناتهم من ظلم النظام السابق أجّجها وجود رئيس «سني المذهب» على رأسه، ومن ثم فإنّ حملات الاضطهاد ضدهم كانت «اضطهاداّ سنياً».
وبغضّ النظر عن صحة هذه القراءة أو خطئها، فإنّ توتر العلاقة بين السنة والشيعة في العراق ألقى بظلاله على العلاقات العربية ـــــ الإيرانية ولم يبق حبيس الظروف العراقية. هكذا خرج ملك الأردن عبد الله الثاني أثناء زيارته للولايات المتحدة الأميركية بتصريحات لجريدة «واشنطن بوست» في 2004 أعرب فيها عن تخوفه من قيام ما سمّاه «الهلال الشيعي» في منطقتي الشرق الأوسط والخليج والذي سيخضع للنفوذ الإيراني. وفي يوم 8 نيسان / أبريل 2006، أدلى الرئيس المصري حسني مبارك بحديث طويل لإحدى الفضائيات العربية، قال فيه إنّ إيران لها بالتأكيد تأثير عميق على الشيعة في العراق. وأضاف أنّه إذا كان الشيعة يمثلون غالبية السكان في العراق فإنّ هناك شيعة في كل الدول المجاورة له، وولاء أغلبهم لإيران وليس لدولهم. وأوضح أيضاً أنّ العراق يشهد حرباً أهلية بين الشيعة والسنة ومختلف الأعراق والمذاهب والطوائف، ما أدّى إلى تدميره تقريباً. وأضاف أنّ انسحاب الأميركيين الآن سيسمح باشتعال الحرب أكثر بين العراقيين وسيسمح بدخول قوى كثيرة، في مقدمها إيران.
إنّ هذه التصريحات وغيرها وما تلاها من أحداث وتطورات أخرى عراقية ودولية ومهمة، حوّلتها من ظاهرة عراقية داخلية إلى ظاهرة إقليمية ذات أبعاد دولية. لقد أصبحت إيران تمثل الآن قطباً للمذهب الشيعي في العالم، بينما يعدّ المغرب نموذجاً للإسلام المعتدل السني القائم على المذهب المالكي والبعيد كل البعد عن الخلافات المذهبية. وفي هذا السياق من المفيد أن تنخرط المملكة المغربية في مبادرة للتعايش والاعتراف المتبادل بالاختلاف وتضييق دائرة الخلاف المذهبي بين الطائفتين والحيلولة دون الانعكاسات السياسية للخلاف السني ـــــ الشيعي، وخصوصاً أنّ الملابسات المعقّدة للأوضاع في العراق تشير إلى احتمالات قوية لوجود أطراف خارجية تعمل على إشعال دائرة الصراع المذهبي والطائفي وتوسيعها.

خاتمة

إنّ محدّدات العلاقة بين دول العالم العربي لا تتحكم فيها محدّدات داخلية مستقلّة عن العوامل الخارجية، وخصوصاً في ظل التبعية الاقتصادية والثقافية والسياسية للعديد من الأنظمة العربية للغرب.
فهناك أطراف دولية عملت منذ قيام الثورة الإسلامية على قطع الوشائج بين العرب وإيران، للاستفراد بكل منهما. بل إنّ الشأن الإيراني ـــــ العربي ليس شأناً ثنائياً، إذ إن الطرف الأجنبي موجود فيه ومؤثر. وينبغي الحذر من هذا الدور والعمل بذكاء لإحباط مخططاته.
إنّ الإخفاق في بناء استراتيجية للانفتاح على العالم الإسلامي، يعود بدرجة أساسية إلى عوامل سياسية وإلى طغيان الحسابات السياسية لبعض الأنظمة الناقصة الشرعية على حساب تطلعات الشعوب وطموحاتها، وعدم الوعي بحجم المكاسب التي يمكن تحصيلها من الانفتاح بين الدول العربية وإيران.
حقّقت الجمهورية الإسلامية الإيرانية تقدماً هائلاً في مجالات اقتصادية وصناعية وعلمية كبيرة، يجدر بالعالم العربي الاستفادة منها. ألم يقل الحديث النبوي الشريف في حق أهل فارس «لو كان العلم معلقاً بالثريا، لتناوله قوم من أبناء فارس»؟ هذا الحديث النبوي يحمل مبشرات روحية قوية تجعل أهل فارس يتطلعون إلى تحقيق هذه البشارة النبوية وتحصيل درجات مهمة في مجال التفوق العلمي والمعرفي والثقافي، وليس ذلك بعزيز إذا توفرت شروط النهضة الحضارية والتحرر من التبعية للآخر.
* باحث، وعضو المجلس الوطني
لحزب العدالة والتنمية المغربي


التزام بالقضيّة الفلسطينيّة: الأيديولوجيا و الأمن القومي وأمن الهويّة




أمل سعد ـ غريّب*
مما لا شك فيه أنّ المرء لا يستطيع أن ينظر إلى علاقة إيران بحركات المقاومة في فلسطين ولبنان بالعين ذاتها التي ينظر فيها إلى علاقاتها بالدول العربية والأطراف العربية الفاعلة الأخرى. ولا يعزى هذا التمييز إلى «محور المقاومة» وحده، الذي يربط الجمهورية الإسلامية بحزب الله وحماس وسوريا، إنما يعود أساساً إلى مركزية القضية الفلسطينية التي تمثّل جوهر هذا التحالف الاستراتيجي وتحدّد معالم السياسة الخارجية الإيرانية عموماً.
ولفهم أوضح لعلاقات إيران بالعالم العربي، من المفيد دراسة طبيعة التزامها بالقضية الفلسطينية ونطاقه، وذلك بالاعتماد على المتغيرات السببية الآتية: الأيديولوجيا والأمن القومي والمصالح الاستراتيجية والأمن «الأنطولوجي» (أمن الهوية). تتحكّم بهذه المتغيرات عوامل تاريخية ودينية وثقافية وسياسية حاسمة، عملت على تكريس ثابتين أيديولوجيين واستراتيجيين يتمثلان في رفض الجمهورية الإسلامية لإسرائيل من ناحية، وفي قدسية القضية الفلسطينية من ناحية أخرى.
وقد أثبت التصريح الأخير للرئيس محمود أحمدي نجاد قدسية تلك القضية عندما رأى أن فلسطين هي «القضية الأهم في عصرنا»، وأنّها «أكبر ظلم عرفه التاريخ». وكان آية الله أكبر هاشمي رفسنجاني، وهو يعدّ إلى حد كبير «درع» المعارضة الإصلاحية، «الحركة الخضراء»، إن لم يكن مهندسها، قد ردّد الرأي ذاته في وقت سابق من هذا العام. حدث ذلك في أثناء لقائه مع رئيس حركة الجهاد الإسلامي رمضان عبد الله محمد شلح، إذ صوّر القضية الفلسطينية على أنّها «همّ إيران الرئيس». لكن ما هو أهم من تصريح رفسنجاني، كون كل من «البراغماتيين» و«المعتدلين» (مثل رفسنجاني) في السياسة الخارجية الإيرانية المعروفة، يشعرون بأنّهم مجبرون على توجيه تحية تقدير وإجلال إلى فلسطين، وتأكيد أهميتها الكبرى في الخطاب السياسي الإيراني وفقاً للتقليد الخميني. وعلى الرغم من الخلافات السياسية العديدة بين المعسكرين الرئيسين، كلاهما يدّعي تبنّيه «خط الإمام» (الإمام الخميني) والتزامه بمبادئ السياسة الخارجية التي رسم خطوطها العريضة، وفي مقدمها، عدّ إسرائيل شيطاناً من ناحية، وتبجيل فلسطين من ناحية أخرى.
في الواقع، وقبل اندلاع الثورة الإسلامية بخمسة عشر عاماً، احتلّت القضية الفلسطينية مقدمة اهتمامات الخميني، وذلك لحظة إطلاقه حملته الثورية في الستينيات. وقد كانت فلسطين الفكرة البلاغية المهيمنة على خطاب المرشد الأعلى آية الله سيد علي خامنئي الذي اتبع خط الإمام من خلال منحه فلسطين مرتبة لا مثيل لها حين عدّها المشكلة «الأهم» في العالم الإسلامي. ودأب على ذكرها مراراً وتكراراً، أكثر من أي قضية أخرى، خلال العقدين الأخيرين الحافلين بالخطب. وقال المرشد الأعلى، إثر العدوان على غزة، إنّ الشعب الفلسطيني «يستحق حقاً أن يقال عنه إنّه أكثر شعوب التاريخ صموداً». ويذهب المرشد الأعلى الحالي لإيران أبعد من ذلك حين يعدّ القضية الفلسطينية «معيار قياس التزام المرء بالحرية وبحقوق الإنسان». وهو اختبار يبدو أنّ الرئيس أوباما وشعاره الداعي «إلى التغيير» قد أخفق فيه، وفقاً لخامنئي، لكون إدارته لا تزال «تكذب بوضوح في قضية فلسطين وقضايا أخرى».
يمكن العودة بمأسسة هذين الخطابين المترابطين بشأن كون إسرائيل وفلسطين تؤلّفان دعامتين للسياسة الخارجية الإيرانية، إلى تاريخ إيران المعاصر. تاريخ اتسم بإرث من السيطرة الخارجية من جانب الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، وهما داعمان مخلصان لنظام الشاه بهلوي المستبدّ. وقد عارض الخميني وعلماء آخرون بشدة، قبل عقود من اندلاع الثورة، علاقات الشاه الوثيقة بإسرائيل. وكان من بين أسباب «معارضة» الخميني للشاه، تحويل هذا الأخير الاقتصادَ الإيراني إلى سوق لاستيراد كميات كبيرة من السلع والبضائع الإسرائيلية، فيما رفع صادرات النفط الإيرانية إلى إسرائيل بهدف تلبية احتياجاتها. وقد سحق جهاز الأمن سيئ السمعة، السافاك، أصواتاً معارضة. وكانت الولايات المتحدة الأميركية والموساد قد أسستا السافاك ودعمتاه، إلى حين اندلاع الثورة، ما جعل الخميني يتساءل مرة عمّا إذا «كان الشاه إسرائيلياً؟». وتسببت تلك الاتهامات بالتحديد، والمناهضة لاعتماد «الشاه الخائن» على الولايات المتحدة وإسرائيل، بتوقيف الخميني في الثالث من حزيران / يونيو 1963، ما سرّع في اندلاع الانتفاضة الشعبية المعترضة على توقيفه. حركة عرفت باسم «حركة 15 خرداد»، وقد بلغت ذروتها بعد خمسة عشر عاماً في الثورة الإسلامية في إيران.
في الواقع، يكمن جزء كبير من جذور الثورة الإسلامية في كونه رد فعل على هيمنة الولايات المتحدة وتسلل إسرائيل إلى الاقتصاد والأمن الإيرانيين. وبالتالي، كانت الثورة تمرّداً على الملكية وحرباً للتحرير على الإمبريالية الأميركية والتدخل الإسرائيلي الكثيف في آن معاً، وذلك وفقاً لشعار الثورة الرئيس «استقلال، حرية، جمهورية إسلامية».
تزامنت دعوة الخميني إلى تحرير فلسطين من النظام الصهيوني مع دعوته إلى تحرير إيران من الاستعمار، وذلك برفعه الشعار الثوري «اليوم إيران وغداً فلسطين». لهذا الغرض، أصدر الخميني في شهر تشرين الأول / أكتوبر 1968، فتوى دينية بخصوص واجبات المؤمنين بشأن تخصيص جزء من الخمس (ضريبة الزكاة الدينية) لمساعدة المقاتلين الفلسطينيين. واتسمت الفتوى بطابع غير مسبوق نظراً لكون الفلسطينيين المستفيدين من الخمس ينتمون إلى منظمة التحرير الفلسطينية العلمانية ولم يكونوا من الشيعة.
ما إن تسلّمت الثورة زمام السلطة، حتى تجلّت إحدى أولى مهماتها في إغلاق السفارة الإسرائيلية واستبدالها بالسفارة الفلسطينية. وفي السنة ذاتها، أعلن الخميني آخر جمعة من شهر رمضان «يوم القدس» في فعل «تضامن دولي للمسلمين ليدعموا الحقوق الفلسطينية المشروعة للشعب المسلم في فلسطين». وهو أيضاً «يوم للضعفاء والمستضعفين لمواجهة قوى الاستكبار». ويقوم الدعم لفلسطين على أسس أخلاقية ودينية كما يشير الثنائي المكوّن من «المستكبرين» (المضطهِدين) مقابل «المستضعفين» (المضطهَدين): «نحن نساند المضطهَدين أياً كان القطب الذي ينتمون إليه. فالفلسطينيون يضطهدهم الإسرائيليون، إذاً نحن نساندهم».
وفي سياق مماثل، تزامن رفض الاعتراف بحق اسرائيل في الوجود، مع ذريعة علمانية أخلاقية تقرّ بحق تقرير المصير الوطني. وفي هذا الصدد، تُعدّ الدولة اليهودية غير شرعية إذ إنّها تأسست على حساب حقوق شعب آخر، وهي «اغتصبت» منه. من هنا تتكرّر كلمة «الغاصب» ما إن تُذكر إسرائيل. ويحق بالتالي، للشعب الفلسطيني، لا بل إنّه ملزم، باسترداد فلسطين التاريخية كلها، إذ رأى الخميني أنّه «لا فرق بين مناطق 1948 وأراضي 1967، لأنّ «فلسطين» كلّها سلبت». ووفقاً لذلك، رفض الخميني وآخرون التزموا خطه، جميع أشكال مفاوضات السلام مع إسرائيل، عادّين إياها غير مشروعة دينياً: «إنّ إقامة علاقات مع إسرائيل أو مع وكلائها، سواء كانت تجارية أو سياسية، أمر ممنوع ومخالف للإسلام». وردّد علي أكبر محتشمي، وهو رجل دين إصلاحي بارز (وداعم أيضاً للـ«الحركة الخضراء») هذا الحظر الديني عندما أعلن أنّ «المشاركة في مؤتمر أنابوليس (للسلام) أمر غير شرعي من وجهة نظر دينية».
وتجدر الإشارة إلى أنّ القضية الفلسطينية من منظور الخميني، ليست فقط قضية وطنية تخص الشعب الفلسطيني وحده، إنما قضية تخص جميع المسلمين، لأنّ مدينة القدس كانت «أولى القبلتين» وبالتالي فإنّها «تخصّهم». على هذا النحو، على كلّ مسلم واجب ديني وأخلاقي هو «التسلّح ضد إسرائيل» وتحرير القدس. ولكونها جسماً غريباً «زرعته قوى الظلم والطغيان والاستكبار في قلب العالم الإسلامي»، تمثل إسرائيل تهديداً وجودياً، لا للقدس ولفلسطين فحسب، بل للعالم العربي والإسلامي كلّه أيضاً. هذا «الورم الخبيث» أو «الغدّة الخبيثة»، أو «الفيروس»، كما كان الخميني يصفها، عدو «أسس الإسلام» و«الإنسانية». وقد لُعنتْ إسرائيل على أسس دينية وأخلاقية لكونها «نواة الشر» و«وكراً للفساد». لا يزال صدى وصف إسرائيل بالشيطان يتردّد في الخطاب الإيراني الرسمي، مع دأب المرجعيات الدينية على وصف إسرائيل بأنّها «الشيطان الصغير»، و«عَلَم الشيطان» و«تجسيد للشيطان».
صحيح أنّ البعض في العالم العربي وخارجه انتقد إيران لتقاعسها عن تحويل خطابها بشأن فلسطين إلى فعل خلال الغزو الإسرائيلي لغزة عام 2009، إلا أنّ مثل هذه الاتهامات أغفلت لهجة الجمهورية الإسلامية القاسية تجاه الأنظمة العربية في أثناء الحرب وبعدها. إذ إنّ طهران خرّبت علاقاتها بالأنظمة العربية بعدما كانت قد سارت بها قدماً بجهد جهيد، وذلك من خلال استعادتها خطاباً عاطفيّاً يذكّر بأواخر الثمانينيات عندما كانت إيران «تصدّر الثورة» إلى الدول العربية المجاورة. وبذلك، قوّضت إيران عقدين تميّزا بتقارب دبلوماسي أطلقه الرئيس رفسنجاني واستمر حتى الرئيس أحمدي نجاد. وكان هذا الأخير قد سعى بالتزامه بقضايا العالم العربي إلى مواجهة حملة إدارة الرئيس جورج بوش التي حرّضت الحلفاء العرب «المعتدلين» على إيران وأثارت التوترات السنّيّة ـــــ الشيعيّة. ولا بد من النظر إلى الهجوم اللفظي والكتابي على الأنظمة العربية في هذا السياق الخاص.
مع ذلك، ونظراً للدعم الوقح الذي وفّرته الأنظمة العربية، ولا سيما مصر، للمغامرة العسكرية الإسرائيلية في غزة، فضلاً عن المعرفة المسبقة لها بالغزو، والذي أكدته الآن رسمياً وثائق ويكيليكس، تحوّلت النظرة العامة للدور العربي من «التواطؤ» و«التعاون الخفيّ» مع إسرائيل في حرب تموز / يوليو 2006، إلى «تعاون» و«شراكة» صريحتين مع الدولة الصهيونية في حربها على غزة. وفي مواجهة مثل هذه الخيانة الصارخة، لم يعد بإمكان إيران الحفاظ على سياسة ضبط النفس تجاه محاوريها العرب. وانتقد خامنئي «الصمت المشجع» للدول العربية المعتدلة، ناعتاً إياهم بأنّهم «العرب الخونة». فيما نسب أحمدي نجاد لهم بسخرية «ابتسامات الرضا» أثناء «إبادة جماعية لم يسبق لها مثيل»، مدعياً «أنّهم كانوا مع العدو في كلّ أهدافه».
وفي خطوة غير مسبوقة منذ انفراج علاقاتها الأخير مع العالم العربي، خصّت إيران مصر بالهجوم، ليس فقط بسبب حصارها لقطاع غزة، بل أيضاً لـ«احتضانها العلني» لإسرائيل، كما وصفته صحيفة هآرتس الإسرائيلية. وتجدر الإشارة إلى أنّه في تحول جذري من خطابه الدبلوماسي المعهود، ندّد وزير الخارجية السابق منوشهر متكي «بخونة القضية الفلسطينية الذين قالوا للفلسطينيين قبل بضعة أيام من الهجوم إنّ الوضع كان هادئاً». وذلك في إشارة مبطّنة إلى نظام مبارك، والشعور الزائف بالأمان الذي أوحاه به لحماس قبل الهجوم الإسرائيلي. صحيح أنّ النظام السعودي لم يكن مذنباً بالقدر الذي كانه النظام المصري، إلا أنّ الأسرة المالكة في السعودية لم تفلت من ازدراء إيران. ويتبين ذلك من رسالة أحمدي نجاد إلى الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، إذ حثّه فيها على «كسر «صمته» عن مجزرة «تنفّذ في غزة واتخاذ موقف واضح من قتل أطفالك، الذين هم عزيزون على الأمّة الإسلامية».
وفي الوقت الذي كانت فيه الجمهورية الإسلامية تنتقد الأنظمة العربية لخيانتها لفلسطين، معرّضة بذلك علاقاتها معهم للخطر، كانت تدعّم موقعها بصفتها المدافع عن حقوق الفلسطينيين. أي هي ضمناً «الدولة الراعية للإرهاب الأكثر فاعلية»، وفقًا لقائمة وزارة الخارجية الأميركية لـ«الدول الراعية الإرهاب»، التي دأبت على ذكر إيران منذ عام 1984. ووفقاً لما تشير إليه «تقارير البلدان بشأن الإرهاب» لعام 2009 الصادرة عن وزارة الخارجية، «لا تزال إيران الداعم الرئيسي للمجموعات التي تعارض بعناد عملية السلام في الشرق الأوسط». يعني ذلك حماس والمجموعات الفلسطينية الأخرى إضافة إلى حزب الله الذي استمرت في تقديم «الدعم المالي والمادي واللوجستي له». إنّ العلاقات الوثيقة التي تربط بين الجمهورية الإسلامية وحركات المقاومة ورفضها لما يسمى «عملية السلام»، تجعلها عرضة للمكائد التي تصنعها واشنطن وتل أبيب. ذلك إذا تناولناها في سياق تاريخ الدسائس التخريبية للولايات المتحدة الأميركية في إيران، وآخر دليل عليها الاضطرابات التي اندلعت عقب انتخابات 2009 والتي تبيّن أنّها نشبت في جزء كبير منها تنفيذاً لمخطط للولايات المتحدة وإسرائيل. ويتوضّح تهديد الدعم للقضية الفلسطينية للأمن القومي الإيراني في اقتراح «الصفقة الكبرى» التي طرحها في واشنطن المسؤولان الليبراليان فلينت ليفيرت وهيلاري مان ـــــ ليفيرت. ووفقاً لهذا الاقتراح، توافق طهران على التخلّي عن التزامها بالقضية الفلسطينية وعن تقديم الدعم لحركة المقاومة الفلسطينية وحزب الله، من بين غيرها من التنازلات، في مقابل حصولها على ضمانات بأنّ الولايات المتحدة ستمتنع عن القيام بأي نشاط يهدف إلى تغيير النظام.
هذا ولا يمثّل التزام إيران بالقضية الفلسطينية تهديداً لاستقرارها السياسي فحسب، بل يعرّض مصالحها الاستراتيجية للخطر. فعلى الرغم من تركيز الولايات المتحدة على برنامج إيران النووي ومحاولاتها العقيمة لتوجيه الضربات المتكررة إليها بهدف إخضاعها بواسطة العقوبات، إلا أنّه لولا دعم طهران لحركات المقاومة في فلسطين ولبنان، فإنّه يرجّح أن تغضّ واشنطن الطرف عن برنامج تسليح نووي إيراني. لا بل إنّها قد تساهم في أحد هذه البرامج كما تفعل مع حلفائها، (ألمانيا وبلجيكا وكندا واليونان وإيطاليا وهولندا وتركيا) ضمن إطار سياسة التبادل في منظمة حلف شمالي الأطلسي (الناتو) في ما يخص الأسلحة النووية. وظهر هذا الاستنتاج جلياً في إصرار إدارة الرئيس السابق جورج بوش المستمرّ على الربط بين البرنامج الإيراني المزعوم لأسلحة الدمار الشامل من جهة، وتحالف إيران مع «مجموعات إرهابية»، مثلما تجلى في خطاب «حالة الاتحاد» الذي ألقاه بوش في 29 كانون الأول / يناير 2009، ووصف فيه إيران بأنّها «جزء من «محور للشر» تتسلّح لتهدّد السلام في العالم»، بواسطة الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية التي تسعى، وفقاً لزعمه، لتقديمها إلى حلفائها الإرهابيين. وبطريقة مماثلة، جزمت مستشارة الأمن القومي حينها، كوندوليزا رايس، أنّ «الدعم المباشر الذي تقدمه إيران للإرهاب الإقليمي والعالمي، إضافة إلى جهودها العدوانية للحصول على أسلحة الدمار الشامل، تتناقض مع أيّ نيات حسنة كانت قد أبدتها في أعقاب الهجمات الإرهابية العالمية الأسوأ في التاريخ». ولم تكمن مشكلة واشنطن في ذلك الوقت، في سعي إيران المزعوم للحصول على الأسلحة النووية بحد ذاته، بل في كون دولة متحالفة مع فصائل المقاومة الفلسطينية تسعى إلى الحصول عليها.
صحيح أنّ التزام إيران تحرير فلسطين التاريخية يعرّضها لخطر التهديدات الأمنية الخارجية (إضافة إلى تهديدات داخلية تحرّض عليها قوى خارجية) في المدى المتوسط ويقوّض بعض مصالحها الاستراتيجية في المدى القصير، إلا أنّ وفاء الجمهورية الإسلامية لمبادئها الأيديولوجية يجعلها تجني مكاسب على المدى الطويل وذلك في المجالين المذكورين آنفاً. ففي المقام الأول، إنّ تاريخ إسرائيل في التدخل في الشؤون الإيرانية قبل اندلاع الثورة الإسلامية، يجعلها تمثّل تهديداً مستمراً لاستقلال إيران، وبالتالي يعرّض استقرارها السياسي للخطر. ويثبت ذلك تأكيد محتشمي أنّ تحرير فلسطين يضمن أمن نظام إيران السياسي: «من الطبيعي أنّه إذا استعاد الشعب الفلسطيني حقه المشروع، فلا بد من أن تشهد حتى التهديدات الخارجية ضد جمهورية إيران الإسلامية، انخفاضاً ملحوظاً».
أما في المقام الثاني، فإنّ إيران لا ترى في المقايضة مع الأميركيين بشأن فلسطين، وسيلة للحفاظ على أمنها القومي من الاضطرابات الداخلية أو ضماناً لتحقيق أهدافها الاستراتيجية من دون قيود. وليست المبادئ الأيديولوجية، مثل السيادة والاستقلال والاكتفاء الذاتي والكرامة، قيماً مجردة، بل ضرورات استراتيجية انبثقت من التجربة التاريخية لإيران في السيطرة الأجنبية. وقد تعلّم الإيرانيون من سقوط نظام الشاه المدعوم من الولايات المتحدة وإسرائيل، أنّ سياسة التبعية التي مارستها إيران قبل الثورة كانت وصفة أكيدة للإصابة بالوهن الاستراتيجي والانهيار الداخلي. ولا بد من أن يؤدي تبدد الكرامة والسيادة الوطنيتين إلى التشكيك في الأساس الإسلامي والثوري لتقويض النظام، بالإضافة إلى وطنيته، ما يؤدي إلى زعزعة استقرار النظام.
ويعبّر متكي عن هذا المنطق بوضوح، لدى توجيهه نداءً إلى الدول العربية والإسلامية لدعم فلسطين وسيلةً لخدمة أمنها القومي: «لا يمثّل هذا الدعم إنفاقاً فحسب، بل استثمار لأمن بلداننا»، فيما شرح خامنئي أثناء الحرب على غزة، كيف أنّ التزاماً أعمق بالقضية الفلسطينية قد يعزّز الأمن القومي للدول العربية، محذّراً ضمناً «الحكومات التي لا تدعم المقاومة الفلسطينية من زعزعة غير مقصودة لاستقرارها على يد معارضة داخلية، لكون شعوبها قد استيقظت وباتت تطالب بمزيد من الدعم لفلسطين».
في ضوء تحذيرات كهذه، تدرك إيران بوضوح أنّ احتمال حدوث «الصفقة الكبرى» بشأن فلسطين قد يفضي إلى مصير مماثل لحلفاء الولايات المتحدة الأميركية الذين بالكاد يمثلون قصة نجاح تستحق منافسة الجمهورية الإسلامية. أما من وجهة نظر طهران، فالولايات المتحدة تستخدم الدعم السياسي والعسكري لهذه الأنظمة بوصفها أداة لانتزاع تنازلات سياسية، ما يجعلها مدينة لها. علاوة على ذلك، وبسب خيانة الدول العربية لفلسطين واعتمادها على الولايات المتحدة الأميركية لدعم أنظمتها داخلياً، باتت تُرى، من جراء هذه العملية، فاقدة لسيادتها ولاستقلالها ولموقعها الإقليمي، فضلاً عن شرعيتها الشعبية. ولدى معالجته من هذا المنظور، تحوّل التأييد للقضية الفلسطينية إلى ميزة استراتيجية بالنسبة إلى إيران، لكونه مكّنها من تصدير ثقافتها السياسية في التحرير الإقليمي، التي أسهمت في تعزيز موقعها قوةً إقليمية. ويشرح رئيس مجلس الشوري الإسلامي الإيراني غلام علي حداد عادل بإيجاز قائلاً: «إيران تنعم بالقوة وتحظى بالشعبية في المنطقة لأنّها تدافع عن استقلال الشعوب وتعارض هيمنة الولايات المتحدة في المنطقة». وتؤمن إيران بأنّها من خلال استقلالها عن الغرب، لن تخضع لأي بتزاز، كما هو حال الحلفاء الإقليميين للولايات المتحدة الأميركية. هؤلاء اضطروا إلى التخلي عن القضية الفلسطينية، وبالتالي قوّضوا الشرعية الشعبية لأنظمتهم، في مقابل أمن أنظمتهم (بدلاً من الوطني) الذي لا يعدو في نهاية المطاف إلا كونه مساوياً لبقاء النظام نظراً للتدابير القسرية اللازمة للحفاظ عليه.
وبالتالي، ترى الجمهورية الإسلامية سياستها الخارجية نموذجاً قد تقتدي به الأنظمة العربية. وهو نقيض لمنطق الواقعية الذي تبنّاه أمثال الرئيس مبارك الذين يرون أنّ المقاومة قد أخفقت في «اختبار الكلفة والمنفعة». فإيران عازمة على إثبات أنّ الأيديولوجية والمصالح الوطنية ليست فئات حصرية، أي أنّ تحقيق إحداها يأتي على حساب الأخرى. ففي التشكّل المعرفي للجمهورية الإسلامية، قد يصار إلى التوفيق بين المبادئ والقيم السياسية والمصالح الاستراتيجية، لا بل إنّها قد تعزّز بعضها بعضاً. وبالطريقة ذاتها، قد يتعايش أمن الهوية السياسية للجمهورية الإسلامية مع أمنها القومي ويؤسّس له.
ولهذا السبب بالذات، من المرجح ألّا ترفض الجمهورية الإسلامية مضمون اقتراح ليفريت «للصفقة الكبرى» فحسب، بل المنطق الكامن وراءه إذا اعتمدته رسمياً إدارة أوباما. وتتضمن توصية ليفريت لصناع القرار أن «يوضّحوا نياتهم عدم السعي إلى تغيير في طبيعة النظام الإيراني، لكن بدلاً من ذلك، يعملون لتغيير السياسات الإيرانية التي تراها واشنطن إشكالية». وهذه التوصية متناقضة بحد ذاتها ومختزلة لأنّها تتجاهل حقيقة طبيعة النظام السياسي الإيراني. نظام يعرّف أساساً من خلال سياساته، ولا سيما تلك التي تراها الولايات المتحدة تافهة، وليس من خلال كونه دولة خاضعة لحكم رجال الدين والمناسك الدينية. وهذا هو التكتيك التحويري للولايات المتحدة، لتحويل صراع سياسي أساساً إلى صراع ثقافي يتطلب التسامح المتبادل فقط لحله بدلاً من الكفاح المسلح. وهذا لم يغب عن نظر الخميني عندما لاحظ بطريقة مماثلة: «إذا كنت لا تولي اهتماماً لسياسات الإمبريالية ، وكنت ترى أن الإسلام هو مجرد المواضيع القليلة التي تدرسها دوماً من دون أن تتجاوزها، عندها، ستتركك الإمبريالية وحدك».
ومن شأن أي تغييرات أساسية تطرأ على أهداف السياسة الخارجية الإيرانية، في ظل غياب تحوّل مقابل في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، أن يعني أنّ الدولة الإيرانية قد انقلبت على مبادئها التأسيسية، وقوّضت نفسها. وإذا كانت إيران ستصبح أحد حلفاء أميركا المعتدلين في المنطقة، فستفقد الثورة الاسلامية معناها وستتحدى عندها الجمهورية الإسلامية سبب وجودها وتستعيد هوية ما قبل الثورة التي منحها إياها الشاه. في الواقع، يخطئ اقتراح ليفيرت في تحديد سياسة الأمن القومي الإيراني، إذ يربطها إما بسلامة النظام نفسه، أو بمجرد بقائه كياناً مؤسسياً، وذلك بدلاً من ربطها بأمن هوية النظام أو كينونته، «أمنه الأنطولوجي (الوجودي)».
تحدّد الإجراءات الروتينية الهويات وتمنح الأمن للأفراد، ما يمكّن الدول من أن تصبح إما روتينية أو «متعلقة» بإجراءات مواجهة وخطرة فضلاً عن الإجراءات الآمنة. وفقاً لذلك، يتوافق الأمن الأنطولوجي مع غياب السلامة تماماً، وذلك ما تشير إليه سياسة إيران الخارجية وولاءاتها. وهكذا، إنّ الثورة كانت مدفوعة جزئياً بالنضال من أجل الحرية والاستقلال الوطني، وكان وجود الجمهورية الإسلامية بحد ذاته رد فعل وهويتها دفاعية. أصبحت إيران دولة مشغولة بالحفاظ على استقلالها وكرامتها اللذين جرى اكتشافهما حديثاً. وبما أن الخوف من الهيمنة الأجنبية كان متجذراً في الثقافة السياسية، وُضعت ضمانات دستورية لحماية البلاد من السيطرة الأجنبية والحفاظ على «محورية خطاب» الاستقلال أو «الإفراط في الاستقلال» كما عبّر عنه أحد الأكاديميين. وكما تبيّن المادة 152 من الدستور: «تقوم السياسة الخارجية لإيران على نبذ جميع أشكال الهيمنة، ممارسة وخضوعاً، وعلى الحفاظ على استقلال البلاد... وعلى الدفاع عن حقوق جميع المسلمين، وعلى عدم الانحياز في ما يتعلق بالقوى العظمى المهيمنة». وقد عملت الجمهورية الإسلامية على مأسسة خطابها بشأن العدالة والمقاومة وجعلته دستورياً، مؤكدة من بين أهداف أخرى، «التزامها الأخوي تجاه جميع المسلمين ودعمها الوافر لمضطهدي العالم». وتتكرّر فكرة دستورية وبلاغية هي «محاربة الاضطهاد»، وهو أمر أساس بالنسبة إلى الدستور الإيراني تماماً كما هي مبادئ الحرية والتحرر في الدساتير الديموقراطية الغربية.
إذا كانت الجمهورية الاسلامية تسعى، أياً كانت نياتها وأهدافها، للتوصل الى عقد صفقة كبرى مع واشنطن، فلا بد من أن تفقد هويتها وطناً مستقلّاً ومقاوماً يسعى لتحقيق العدالة. إنّ هذه الهوية السياسية هي العنصر الحاسم الأكثر أهمية لبقاء الجمهورية الإسلامية مقارنة بأمنها بما هي كيان تنظيمي. ويبدو الأمن بوصفه كياناً قائماً على الفكرة أكثر أهمية بالنسبة إلى طرف فاعل أيديولوجياً، مثل إيران، لأنّه إذا استبدل هويته بهوية أخرى، يموت لا محالة، ويصبح كياناً مختلفاً تماماً حتى لو كان بقي سليماً تنظيمياً.
* باحثة لبنانية