ينصبّ الحديث اليوم على جبهة قطاع غزة، على اعتبار أنها مقبلة على سخونة قد توازي عدوان الرصاص المصهور الأخير، أو تتفوق عليه، ولا سيما أنّ المعطيات على أرض الواقع باتت مختلفة، وذلك باعتراف الطرفين، الطرف «الحمساوي» المسيطر على القطاع، والآخر الإسرائيلي المتربّص للانقضاض مجدداً على هذا الشريط الساحلي.غير أن الحديث الكثير عن العدوان والتهديدات التي تُكال يومياً من مختلف شخصيات الطيف السياسي والعسكري الإسرائيلي، قد لا تكون، على الأقل في المرحلة الحالية، قابلة للصرف على أرض الميدان. هذا ما توحي به القراءة الأوليّة لواقع الجبهة الجنوبية الإسرائيلية، التي شهدت في الأيام الأخيرة جملة من المتغيّرات ستكون حكماً في حسابات مسؤولي الاحتلال قبل إقدامهم على أيّ مغامرة جديدة في قطاع غزة، الذي يمكن القول إنه الأضعف قياساً إلى غيره من الجبهات التي تعدّها الدولة العبرية «تهديداً»، وخصوصاً جبهة الشمال.
الضعف هنا نسبي، هذا ما تقوله التقديرات الإسرائيلية المستجدة بالنسبة إلى غزة. تقديرات عنوانها الأبرز الصواريخ المضادة للدروع، وخصوصاً «كورنيت»، الذي كان سلاحاً كاسراً للتوازن في عدوان تموز على لبنان، واستخدمته المقاومة لصناعة ما بات يسمّى «مقابر الدبابات» الإسرائيلية. التقديرات الحالية لم تعد شأناً استخباريّاً، بل باتت حقيقة جرى اختبارها مع تأكيد قوات الاحتلال إصابة دبابة بمثل هذه الصواريخ على حدود القطاع، ما يعني تغييراً في قواعد اللعبة على الجبهة الجنوبية للأراضي المحتلة.
على هذا الاعتبار، فإن التوجه باتجاه العدوان محكوم بعوامل ردع ستكون حكماً عامل ردع لأيّ تصعيد عسكري مرتقب في الذكرى الثانية لعدوان «الرصاص المصهور». عوامل تبدأ من الحديث عن مدى الاستعداد الإسرائيلي عموماً لشن حرب في المرحلة الحالية، ولا سيما أنّ إسرائيل تخشى من امتدادها إلى حرب تمتد إلى خارج حدود القطاع. القلق الإسرائيلي من أيّ حرب جديدة ينبع من مخاطرها، وخصوصاً على الجبهة الداخلية، ولا سيما أنّ الاستخبارات الإسرائيلية باتت على يقين بأن في القطاع صواريخ تطاول تل أبيب.
الجبهة الداخلية قد تكون عنصر الردع الأول في حسابات الحرب الإسرائيلية، فهذه الجبهة لا تزال غير جاهزة للدخول مباشرةً إلى أرض المعركة، وهو ما كشفه حريق غابات أحراج الكرمل قبل أسابيع قليلة، إذ إنه أظهر أن كل المناورات التي قامت بها دولة الاحتلال لتحصين هذه الجبهة كانت مجرّد عناوين عريضة من دون انعكاسات مباشرة على الأرض. هذا الكلام كان عنصراً جامعاً لجميع المحللين الإسرائيليين، الذين أشاروا إلى كارثة تنتظر الجبهة الداخلية في أيّ حرب مقبلة.
الأسوأ في مسألة مواجهة الصواريخ هو الإقرار بالعجز عن التعامل معها على كل الصعد. فلا منظومة القبّة الحديدية سترى النور، ولا عمليات الأرض المحروقة كان من شأنها وقف إطلاق زخّات الكاتيوشا والغراد قبل عامين من الآن. وعلى هذا الأساس باتت إسرائيل أمام واقع التسليم بالترسانة الصاروخية المحيطة بها، التي ستكون لها اليد الطولى في أيّ معركة مقبلة. معركة بات الجميع على يقين بأنها لن تكون أُحادية الجبهة، بل ستصبح ذات طابع إقليمي، وهو ما تأخذه أيضاً الدولة العبرية في حساباتها العسكرية، وقد يكون عامل ردع إضافياً.
الصواريخ المضادة للدروع، ولا سيما إذا تأكّد أن هناك كميّات منها في قطاع غزة، ستكون عنصر ردع آخر، وخصوصاً أن الترسانة العسكرية الإسرائيلية لم تنته بعد من استخلاص عِبَر «حرب تموز» في ما يخص دبابات الميركافا. فالحديث عن تصفيح الدبابات، أو ما سمّي باسم «معطف الريح»، لم يُختبَر بعد، وأساساً فإن من شأنه أن يبطئ حركتها، وبالتالي فإن الدخول إلى معركة بدبابات مكشوفة أمام «الكورنيت» ليس مرجّحاً.
قد تكون عوامل الردع هذه كافية للإشارة إلى أن الحرب على غزة، عكس ما توحي به التهديدات، لن تكون قريبة في فترة الأيام أو حتى الشهور المقبلة، ويمكن إضافة عدم الرغبة «الحمساوية» في إشعال الجبهة لتأكيد أن العدوان ليس قريباً. فالحركة الإسلامية ليست في وارد الدخول في معركة، بل على العكس، فهي تسعى إلى تفاديها حرصاً على الوضع الداخلي في القطاع، ولا سيما أن آثار عدوان الرصاص المصهور لم تُمح بعد. حتى إنها في فترة قريبة ماضية كانت تعمد إلى تجريم مطلقي الصواريخ الذين يخرجون عن إجماع الجهة الحاكمة في القطاع. الأمر قد لا يكون مختلفاً كثيراً اليوم، باستثناء أن الحركة انضمت إلى جوقة المهددين والمتوعدين، لكن مع ضبط لكثافة الصواريخ.
التهدئة قد تكون رغبة جامعة في ما يخص غزّة، من دون أن يمنع ذلك مرحلة تصعيد كلامي وتسخين خفيف للجبهة لا يتدحرج إلى عدوان موسّع.