تتميّز أفكار الجامعي وعالم السياسة تيموثي ميتشل المبتكَرة والمنشّطة للتفكير بأنّها تقدّم عيّنة معبّرة عن مدرسة الدراسات «بعد ـــــ الكولونيالية» ونظريّاتها الرائجة في العالم الأكاديمي الأميركي خصوصاً، وهي لذلك تقدّم فرصة سانحة لنقاش نقدي لبعض أفكار تلك المدرسة.
الفحم والديموقراطية

تقوم محاججة ميتشل عن النفط والديموقراطية على فرضية أنّ هذه الأخيرة مرتبطة بالعصيان أكثر من ارتباطها بأيّ شيء آخر. هذه فكرة تذكّر بالدور المركزي للنضالات الشعبية والعمّالية في بناء الأنظمة الديموقراطية في أوروبا خصوصاً. وهي لذلك تتحدى الربط الميكانيكي بين الديموقراطية والسلطة البرجوازية وتنقض التماهي المفتعل بين النظم السياسية الديموقراطية والاقتصاد الرأسمالي، وكلاهما طاغٍ على نظريات الليبراليين والماركسيين على حدّ سواء.
لكنّ الإيجابي الذي يقدمه ميتشل عن هذا الموضوع يكاد أن ينتهي عند هذا الحد، لأنّ مفكّرنا السياسي لا يلبث أن يجرّ الموضوع إلى مسالك وعرة تنتهي إلى متاهات. أول الأمر هو مبالغته أيّما مبالغة في الدور الذي يمنحه للفحم ولعمال مناجم الفحم في التحويل الديموقراطي للأنظمة السياسية الغربية، فضلاً عن تهديدهم النظام الرأسمالي برمّته. يقول إنّه اكتشف قدرة عمال الفحم على إيقاف اقتصاد بكامله من خلال دراسته المناطق الأورو ـــــ أميركية التي أصبحت بين ١٨٨٠ و١٩٢٠ معتمدة على الفحم: «هكذا حصل الإضراب العام لأول مرة في نهاية القرن التاسع عشر في مناطق إنتاج الفحم، وكان ذلك تهديداً كبيراً للنظام الرأسمالي». مهما يكن من أمر، فالحد الأدنى الذي يعزوه إلى تلك الوسيلة النضالية الجديدة هو فرض حق الاقتراع ونشوء النقابات والأحزاب السياسية، إضافةً الى تأمينات وضمانات اجتماعية.
لكي يحوّل الفحم الى العامل الحاسم في تحقيق الديموقراطية الغربية، كان لا بد لميتشل من أن يقطع الصلة، التاريخية والسببية، بين سلاح الإضراب العمالي العام من جهة، والثورات السابقة التي أطلقت المسار الديموقراطي من جهة أخرى. ولذلك هو يغيّب حقيقة أنّ أُسس الجمهورية الديموقراطية الأوروبية أُرسيت قبل عصر الفحم، خلال ثورتَي ١٨٣٠ الجمهورية و١٨٧٠ العمالية في فرنسا، وثورة ١٨٤٨ الشعبية التي عمّت معظم بلدان أوروبا الشمالية (وفرضت الاقتراع العام للرجال). هذا حتى لا نعود إلى ثورتي ١٦٤٦ البريطانية و١٧٨٩ الفرنسية.
ثم إنّ ميتشل لا يقدم برهاناً واحداً على أنّ التهديد بقطع الإمداد بالفحم، أو القطع الفعلي لذاك الإمداد، أدّى الدور الرئيسي في انتزاع المكاسب الديموقراطية. فعلى حد ما نعلم، تركّزت الإضرابات العامة في العواصم والمدن الأوروبية الرئيسية، أكثر منها في الأطراف حيث المناجم. وكانت وسائل الضغط الرئيسية في تلك الإضرابات هي وقف العمل في المصانع والمحترَفات، أو احتلالها أو تخريب الآلات فيها، أو شل المواصلات البحرية أو البرية أو النهرية، أو هذه الوسائل مجتمعة.
كذلك تصعب مجاراة ميتشل في حكمه المطلق على فترة ما بعد الفحم، في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، على أنّها حقبة «انهيار الديموقراطية» في أوروبا. يصح القول بانتكاسة للديموقراطية بسبب قيام الأنظمة الفاشية في ألمانيا وإيطاليا، إضافةً الى إسبانيا والبرتغال. على أنّ تلك الفترة شهدت في الوقت ذاته تقدّماً في المسارات الديموقراطية في عدد من البلدان الأوروبية وأميركا. حتى إنّ قسماً من الإنجازات التي ينسبها ميتشل الى حقبة الفحم جرت في حقبة ما بعد الفحم. تحقّق حينها التعليم الرسمي الإلزامي والمجاني، وقُطعت أشواط في علمنة الدولة، ونالت المرأة حق الاقتراع والترشح فدخل نصف المجتمع الحياة السياسية في بلجيكا وفرنسا وإسبانيا وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية.

النفط والديموقراطية بعد الحرب العالمية الثانية

مع أنّ ميتشل يحذّرنا من النظريات المؤامراتية عن القلة التي تسيّر العالم، فإنّه يريد إقناعنا بالرغم من ذلك بأنّ وزير الخارجية الأميركي جورج مارشال وقبضة من الاستراتيجيين الأميركيين وضعوا «خطة» مناهضة لليسار الأوروبي بعدما تبيّن لهم أنّ «الوسيلة الوحيدة لكسر اليسار في أوروبا هي هزم عمال مناجم الفحم. السلاح الوحيد لهزمهم كان النفط». والخلاصة: «هنا تصبح قضية النفط والديموقراطية مثيرة، فهي تؤدي دوراً في العملية الديموقراطية لكن ليس في دول الخليج العربي، كما يعتقد الجميع، بل في أوروبا حيث وُضعتْ حدودٌ على استمرار دمقرطة المؤسسات عبر العنف».
لنقل على عجل بأنّ إثبات دور النفط في إعاقة الديموقراطية في أوروبا لا يتنافى بالضرورة مع الاعتراف بأنّ النفط ذاته يعيق الديموقراطية في دول الخليج العربي وفي المنطقة العربية عموماً. وهو لا يقدم إلينا أيّ دليل على الكيفية التي وضع بها النفط الحدود «على استمرار دمقرطة المؤسسات عبر العنف» في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
نعرف عن تلك الحقبة أنّها فترة شهدت أيضاً إنجازات جادّة في مجال توسيع المشاركة الشعبية وتعزيز ديموقراطية المؤسسات السياسية الأوروبية والأميركية. حينها، أُعيدَ بناء الأنظمة الديموقراطية في ألمانيا وإيطاليا وبعدها في إسبانيا والبرتغال، واتسع نطاق علمنة مؤسسات الدولة، واستكمل نيل المرأة حق الاقتراع والترشح في معظم البلدان الأوروبية وتقلّصت صلاحيات مؤسسات الحكم غير المنتخبة لمصلحة المؤسسات المنتخبة، كما في حال مجلس اللوردات ومجلس العموم البريطانيين، بل يمكن جرّ المحاججة حول هذا الموضوع الى دور «دولة الرعاية» في تعزيز الديموقراطية السياسية عن طريق توسيع مجالات تكافؤ الفرص والحقوق الاجتماعية.

التفسير التقني للتاريخ

يتضح دون عناء أنّ ما يسعى اليه ميتشل هنا هو مراجعة نظرية سادت في الأوساط الأكاديمية الغربية خلال عقدَي الثمانين والتسعين من القرن الماضي تفسّر «غياب» الديموقراطية في المنطقة العربية بغلبة الريع النفطي على اقتصاداتها. هنا تنقلب معادلة «لا ضرائب من دون تمثيل» التي بُني عليها النظام التمثيلي الديموقراطي رأساً على عقب، ذلك أنّ الموازنة في الدولة الريعية لا تعتمد بالدرجة الأولى على عائدات الضرائب التي يدفعها المكلّفون، ولا الحكّام الذين يستأثرون بالعائدات النفطية يعيشون على حساب خزينة الدولة. فلا يعود الحكام مجبرين على الخضوع للمبدأ الانتخابي أو الانصياع لمنطق تداول السلطة أو حتى تأدية الحسابات للمحكومين.
يأخذ ميتشل على هذه النظرية أنّها ترتكز على الوجه المالي للنفط فقط، فيقدّم إلينا الوجه التقني للمسألة من خلال المقارنة بين دور الفحم والنفط في السياسة. الفحم قابل للاستخدام فور استخراجه من بطن الأرض، ويجري تبادله وتوزيعه في قنوات ضيّقة وقصيرة، وعدد العاملين في استخراجه محدود، فيمكن بالتالي قطع الإمداد به بسهولة. في المقابل، يشغّل النفط من الأيدي العاملة والكوادر والكفاءات أعداداً أوفر. ولمّا كانت حقوله مترامية الأطراف ومصادره بعيدة عن أماكن استخدامه واستهلاكه، ويجري توصيله سائلاً بواسطة النقل البحري أو الأنابيب، ولا يمكن استخدامه قبل تكريره لاستخراج مشتقاته، فإنّ هذا ما يميّز بين مصدر للطاقة يشجع على الديموقراطية وآخر يعيقها.
حقيقة الأمر أنّ استحضار ميتشل المقارنة بين وسائل توصيل الفحم والنفط هو الوجه الآخر لنظريته التكنوقراطية عن سلطة الخبراء. هذه النظرية التي صارت العلامة الفارقة لإسهامه الفكري والأكاديمي في الدراسات البعد ـــــ كولونيالية. اكتشف ميتشل سلطة الخبراء في مصر مرتين، في العهد الكولونيالي كما في عصر الانفتاح الساداتي، وها هو يعلن اكتشاف موقع السلطة الفعلي في اقتصادات النفط. فهو ليس لشركات النفط الجبارة ولا للأنظمة السياسية في البلدان المنتجة، إنّما السلطة للاقتصاديين الخبراء الذين يسيطرون على وسائل احتساب الأسعار، وسبل استخدام المال، وقياس المبادلات، ومراكمة الإحصائيات الوطنية على اعتبار أنّهم هم الذين يستنطقون الطبيعة عن احتياطي النفط ومُهَله فيملكون بالتالي مفاتيح أسرار «الذهب الأسود».
هكذا يحل الخبراء محل شركات النفط المتعددة الجنسيات في التحكّم في اقتصادات النفط، وتحلّ أنابيب توصيل «الذهب الأسود» محل الأنظمة في الدول المنتجة للنفط.

أين التنمية في نقد التنمية؟

والحديث عن «الخبراء» يجرّ إلى الحديث عن «التنمية». جرياً على تقليعة «بعد ـــــ كولونيالية» سائدة، يوجّه مفكرنا الى «التنمية» الكولونيالية والنيوكولونيالية ثلاثا اتهامات بنيوية، إذا جاز التعبير. أوّلاً، التنمية مجرد ايديولوجيا للتحكّم في الناس، في البلدان المستعمرة، تزعم ترقيتهم الى المستوى الحضاري الغربي؛ وثانياً، التنمية بناء ذهني يقوم على فصل الاقتصاد عن السياسة (نموذج التنمية في جنوب أفريقيا المتساوية مع التمييز العنصري والحرمان من الاستقلال)؛ وثالثاً، التنمية تؤدي الى تحكّم الخبراء في الاقتصادات والبشر. ويعزّز ميتشل اتهاماته الثلاثة، بالتذكير بأنّ الولايات المتحدة، التي كانت تستأثر بمعظم موارد العالم، بعد الحرب العالمية الثانية، رفضت إعادة توزيع الموارد والثروات على سائر دول العالم عن طريق المساعدات المالية، واكتفت بإيفاد «الخبراء» الى دول العالم الثالث.
ميتشل الذي يأخذ على الغرب الكولونيالي أنّه أحلّ مفهومه الخاص للاقتصاد وفرضه بالقوة مقياساً للعالم أجمع، لا يتردد في تعمير نظرية كاملة عن الكولونيالية تقتصر على أبحاثه في حالة ميدانية واحدة هي مصر. إنّه ينجح في أمر أكيد: تجريد التنمية الكولونيالية والنيوكولونيالية من المصالح والرأسمالية من آليات الاستغلال. فبعدما حوّل الاقتصاد، أي طرائق إنتاج البشر لمعاشهم، الى مجموعة مقولات غربية قوامها مقولات السوق والملكية والأرض والدولة ـــــ الأمّة، ها هو يحل التنمية بما هي «ايديولوجيا سيطرة» محل التنمية بما هي ممارسات تمييز في قسمة العمل الدولية وفي الاستحواذ على الموارد والثروات واستغلال الأيدي العاملة الرخيصة والتبادل غير المتكافئ. وما دامت التنمية كناية عن ايديولوجيا سيطرة وتحكّم خبراء في رقاب الناس، تنتفي الحاجة الى الدراسة العينية لنتائج الخطط والمشاريع والسياسات الاقتصادية التي طبّقتها وتطبّقها القوى النيو ـــــ كولونيالية أو الأنظمة الاستقلالية. فيحق، والحالة تلك، محاسبة الرأسمالية الإمبريالية الأميركية على إحجامها عن أداء دورها بما هي جمعية خيرية تتصدّق بالبر والإحسان (فيلانثروبي) على سكان المعمورة.
حقيقة الأمر هي عكس ما يقوله ميتشل. قدّمت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية القروض المالية المستفيضة إلى دول العالم الثالث لأغراض سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية. حتى إنّ برنامج «النقطة الرابعة» الذي يشير اليه لم يقتصر على إرسال «خبراء» في التنمية الى دول العالم الثالث، بل قدّم القروض لإنشاء البنى التحتية وطرق المواصلات وتطويرها. كانت المصالح الأميركية الاقتصادية والطبقية والسياسية والايديولوجية منبثّة في صلب مشاريع التنمية الأميركية، وقد سعت الى هدفين معلنين: إغراء الناس بعيداً عن الشيوعية في القارات الثلاث، وإن لم يفلح الإغراء المالي فالقمع دونهم والمجازر (إندونيسيا مثلاً)، وتوسيع الطاقات الاستهلاكية في بلدان العالم الثالث لتصريف منتجات الصناعة الأميركية.
تطابق الاقتصاد مع السياسة في مشاريع التنمية تلك، خلافاً لقول ميتشل. تلازم دور العسكر في الحياة السياسية مع مهمة التأسيس لنشوء «طبقة وسطى جديدة». لم يقتصر الأمر على كون منبت الضباط هو الطبقات الوسطى، وعلى كونهم القوة الأكثر تأهيلاً لتوحيد تلك الطبقات وتمثيلها سياسياً وحملها الى السلطة. كان يرجى من الطبقات الوسطى وعسكرها أن يكوّنا الحاجز الأمني في وجه الشيوعية وطبقتي العمال والفلاحين، أو «الطبقات الخطيرة»، كما كانت تسميها برقيات السفارات والقنصليات الأميركية في عهد ما قبل «ويكيليكس». وأما الشق الاقتصادي من تلك المشاريع الأميركية، فقد كان مكرساً لتنمية الطبقات الوسطى لتمثّل سوقاً متوسعة لاستقبال واستهلاك المنتجات التجهيزية أو الاستهلاكية التي أغرقت الولايات المتحدة بها الأسواق العالمية بعيد الحرب العالمية الثانية.
في تلك الفترة، أدّت وكالات الاستخبارات الأميركية دوراً بارزاً في الانقلابات العسكرية في منطقتنا. وكثيراً ما يجري تناسي حقيقة أنّ أول انقلاب عسكري في المنطقة يحمل التوقيع الأميركي الصرف. نعني انقلاب حسني الزعيم، عام ١٩٤٩ الذي هندسته «السي. آي. إيه» وشركة «بكتل» للإنشاءات. حكم الرجل، الذي انقلب على النظام الاستقلالي البرلماني، تسعة أشهر لا أكثر، وقّع خلالها اتفاقيتين. واحدة هي اتفاقية الهدنة السورية ـــــ الإسرائيلية، والثانية اتفاقية مرور أنابيب النفط الأميركية ـــــ السعودية عبر الأراضي السورية بشروط مالية كان البرلمان السوري قد رفضها.

رأس المال والرأسمالية والعنف

لم أستوعب تماماً على من يردّ تيموثي ميتشل عندما يساجل ضد فكرة «تجانس» الرأسمالية، ولا فهمت تماماً معنى إيثاره مصطلح «رأس المال» على «رأسمالية» مفترضاً أنّ المصطلح الأخير يوحّد بالوحدانية والكونية ويسقط في «نظرية المؤامرة» التي تقول إنّ «هناك قلة تتحكم في مصير الجميع»، أو إنّ كلمة واحدة تلخص «ماهية التاريخ ». هل يجب القول، من قبيل اللياقة السياسية إنّ الكثرة تتحكم في مصير الجميع مثلاً؟ مهما يكن، يبدو أنّه علينا أن نقتنع بأنّ طبيعة رأس المال تتغير وفق تغيّر تبريراته. فهو الآن يبرّر نفسه باسم السوق والحرية، والمنطق، ومحاربة «الجهاد». وهل كان رأس المال يبرر نفسه بغير هذه سابقاً، إذا أخذنا في الاعتبار أنّه يغيّر هنا تسمية «معسكر الشر» فقط. لعل الخبير ميتشل يزيدنا علماً لماذا لا تستطيع الرأسمالية أن تكون متعددة ومتناقضة ولا تدعي اختصار ماهية التاريخ وتبقى مع ذلك قوة كونية تتحكّم في مصير أكثرية سكان المعمورة، الذين يعيشون في ظلها. أما عن سبب تغيّر طبيعة الشيء بتغيّر طرائق تبريره، فلعلّنا عثرنا على تفسير له. يرفض مفكرنا تمييز «الشيء» عن «تصور» الشيء ذاته (أو تمثّله)، وفق أعرق تقاليد البعد ـــــ كولونيالية والبعد ـــــ حداثية. حسناً. لكن مفكرنا لا يكتفي بتسخير الشيء لصورته، ولا هو يختزل الشيء بصورته، بل يحلّ صورة الشيء محل الشيء ذاته.
نستطيع الانتقال سريعاً من هذه «الخبيصة» للنظر في مراجعة مفكرنا السياسي للعلاقة بين الإمبريالية ورأس المال والعنف. يبدو أنّ الحروب التي تشنها الرأسمالية أو الإمبريالية تعبير عن ضعف. «أنا لا أعتقد أنّ هذه القوى [يقصد القوى الإمبريالية] تتمتع بالقوة التي نظن أنّها تملكها، ونحن بطريقة تفكيرنا هذه نعزّز قوتها عبر التحدث دوماً عنها مشدّدين على التجانس والسيطرة». إذا أخذنا قرار الولايات المتحدة احتلال العراق مثلاً نجد أنّ «الحرب على العراق هي نتيجة طريق مسدود ورغبة في السيطرة على الخليج أكثر منها نتيجة قوة ورغبة إمبريالية جبارة». لسنا ندري تماماً ما هو هذا الطريق المسدود وكيف ولماذا وصلت إليه الإمبريالية فقررت أن تشن الحرب على العراق بعد أقل من عقد من انتصارها على المعسكر السوفياتي وانفرادها في حكم العالم. أما عن السبب الآخر للحرب على العراق، ففيه العجب العجاب. «الرغبة في السيطرة على الخليج» ليست هي «رغبة وقوة إمبريالية جبارة». هل المتعارف عليه في العلوم السياسية والاجتماعية والعلاقات الدولية أنّ الرغبة في السيطرة، والقدرة على تحقيقها وممارستها، هما ضرب من ضروب الضعف؟ لنسلّم جدلاً بأنّ القوة التي غزت العراق واحتلّته لم تكن «قوة إمبريالية جبارة». لكن يجري نفي الجبروت عنها بالقياس الى أية قوة أخرى؟ قوة العراق العسكرية، مثلاً؟ هل من حاجة الى عبقرية خاصة لإدراك أنّه كائناً ما كان منسوب الجبروت في تلك القوة الإمبريالية، فقد كان كافياً لتقويض الدولة العراقية فوق المجتمع والشعب. اللهم إلا إذا كان علينا تعريف «القوة الجبارة» بأنّها تلك التي تبيد العراق عن بكرة أبيه وتحيله «قاعاً صفصفاً»؟
لعلنا لم نفهم القصد تماماً. «البعد ـــــ كولونيالية» تهيم بالرمزيات. وتؤثر صورة الشيء على الشيء. لذا علينا أن نسرّ لأن الإمبريالية الأميركية في «طريق مسدود» وأن ترتفع منا المعنويات. بل حريّ بنا الاقتناع بأنّنا كلّما زاد استخفافنا بقوة الإمبريالية، ازددنا قوة وازدادت هي ضعفاً. ولكن لن نجعل هذه المفارقة الفاجعة تأخذنا الى حيث لا نرغب. لن نظلم ميتشل بقراءة نصية لمفرداته بناءً على ما ورد منها في مقابلة «الأخبار» وحدها. نجازف في القول إنّه يستخدم مصطلحات غريبة بعض الشيء عمّا اعتدناه. علينا العودة الى حجر الخيمياء للبعد ـــــ كولونيالية، لندرك أنّ مفكرنا الخبير إنما يهندس للإمبريالية كيف يجب أن تتصرّف: تكون قوية إن غلبت عندها الثقافة على القوة. أي إن هي مارست نفوذها الثقافي واستحوذت على رضى الناس بالطواعية. أما اللجوء الى القوة أو العنف، فدأب من وقعوا في المأزق والضعف.
نكاد نخجل من طرح السؤال التقليدي: هل العنف عنصر طارئ على الرأسمالية والإمبريالية، أي إنّه الشواذ الذي لا يظهر إلا لحظة المأزق أو الضعف، أم تراه عنصراً مكوّناً لهذه وتلك؟ فلعل السيد ميتشل يدلّنا على حقبة واحدة من تاريخ الكولونيالية والإمبريالية لم تمارس فيها سيطرتها والاستغلال بواسطة العنف الدموي: من إبادة شعوب الأزتيك والإنكا في أميركا الجنوبية على يد «جنود الله» من المستعمرين والمستوطنين الإسبان، الخارجين للتوّ من طرد العرب واليهود من الأندلس، وإبادة هنود أميركا على يد المستوطنين البريطانيين، وما سبقها وتلاها من حروب كولونيالية من «حرب الأفيون» الصينية الى استباحة أفريقيا، وصولاً الى احتلال أفغانستان والعراق وحرب لا نهاية لها ضد «الإرهاب الدولي» في زوايا الكوكب الأربع، مروراً بمجازر حربين عالميتين وإبادة هيروشيما وناكازاكي بالسلاح النووي، واضطرار عشرات الشعوب إلى اللجوء الى العنف المسلّح لاقتلاع الوجود الاستعماري في بلادها؟ هل كانت هذه التظاهرات للعنف مجرد تعبير عن «طرق مسدودة»؟
لسائل أن يسأل: ما فائدة كل هذه التقاسيم على مقام التفكيك البعد ـــــ كولونيالي بالنسبة إلى منطقة يغلب الريع النفطي على اقتصاداتها وتتحكّم في مصائر شعوبها أعتى أنظمة الاستبداد والديكتاتورية؟ هل تقول لنا أكثر مما يحب البعض سماعه عندما يصل أذنه رأي «غربي» لا يعجبه عن المنطقة فيكون الرد الغريزي أنّ أوضاع الغرب ليست أحسن حالاً من أوضاعنا. كلنا في النفط سواسية. والسؤال مشروع عن المدى الذي تساعدنا فيه متوالية النفط والديموقراطية على التقدم خطوةً واحدة على طريق فهم عوامل وآليات تشغيل أنظمة الاستبداد في العالم العربي ودور الاقتصاد السياسي فيها، وأسباب استمراريتها المديدة وانتقال أنظمتها الجمهورية الى التوارث السلالي؟ وماذا تضيف تلك المكتشفات عن الخبراء والتنمية الى تلمّس سبل تنمية غير كولونيالية، مستقلّة، اللهم إلا إذا كان القصد هو القول إنّ كل تنمية إنما هي تنمية كولونيالية، فلا يبقى لنا إلا رجم فكرة «التقدم»، كما هو مطلوب، وتقديم الذبائح إلى آلهة «الوراء» والتسبيح بأسمائها الحسنى؟ فأيّ معنى بعد ذلك حتى لذكر موضوع حق الشعوب في السيطرة على مواردها وثرواتها الطبيعية واستخدامها في «التنمية»؟ فضلاً عن الحديث عن دور النفط في استجماع عناصر القوة في الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي ما دام «سلاح النفط» لا فائدة ترجى منه بعدما أفتى السيد ميتشل بأنّ أثر قطع النفط كوسيلة ضغط على الاقتصادات الغربية، خلال حرب تشرين ١٩٧٣، قد تعرّض للتضخيم على يد... اللوبي الصهيوني.
ولا غرابة بعد هذا كله ألّا «يثير» تيموثي ميتشل من مجربات الأمور في منطقة الخليج إلا «انتقال الجامعات» الغربية اليها، بما فيها جامعة نيوويورك التي درّس فيها زهاء ربع قرن. فيكتفي بالتمني أن ينقل ذلك الانتقال الجامعي «بعض الاهتمام الى المنطقة مع الأموال التي تُصرف»؟ والسيد ميتشل وفيّ هنا لنظرته الى الاقتصاد من منظار التبادل. فالمنطقة تحتاج الى «الاهتمام»، والجامعات الأميركية تحتاج الى المال. نتبادل. والمبادلة ثقافية ـــــ رمزية خصوصاً، ما دمنا في حومة البَعد ـــــ كولونيالية. بأموال النفط، نستورد جامعات ومتاحف ودور أوبرا وثلوجاً، و«فورمولا وان»، ومونديالاً وعطوراً وشجرات عيد الميلاد المليونية، في مقابل «بعض الاهتمام».
منذ أكثر من ربع قرن، أدلى ياسر عرفات بتصريح شرح فيه أهداف حركة «فتح» الوليدة فقال: «الغرب بحاجة الى نفطنا ونحن بحاجة الى تفهّم الغرب. ليأخذ الغرب نفطنا ويعطينا تفهّمه».
أخذ الغرب نفطنا ولم تجرِ المبادلة. وتدهور المطلب من مبادلة النفط بـ«التفهم» الى مبادلته بـ«بعض الاهتمام».
انظروا أين أوصلنا هذا النمط من الاقتصاد السياسي!
* كاتب وأستاذ جامعي