بعد عام على صدور كتابه «تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب» باللغة الفرنسية، يعود الدكتور جورج قرم مع النسخة العربية، التي تنشرها دار الفارابي في معرض بيروت للكتاب. يتناول الكاتب مسألة تكوين صورة الغرب الحالية، ويعالج الدور الذي أدّته الحروب والثقافة والفن في تحديد هذه الصورة وخلق أسطورة أوروبا المتحضّرة. كذلك يحاول أن يتقصى عن مصير قيم عصر الأنوار، والأسباب التي أوصلت أوروبا إلى حربين داميتين. وتنشر «الأخبار» مقدمة الكتاب التي حملت عنوان «استثنائية أم حَتْميّة أوروبا في التاريخ المعاصر؟»
جورج قرم
كيف أمكن لفظةً عادية جغرافية وفلكيّة التوجّه، كمثل لفظة «الغرب»، أن تمثّل في الفكر ذاك الحد المَهيب، لما يتّصف به من مِنعة تفوق تلك التي تتّصف بها كلّ العوائق الطبيعية التي تفصل بين المجتمعات وتباعد بينها؟ أتكون لفظة «الغرب» مولّداً لمشاعر الغَيريّة الجذرية، الفائقة التنوّع؟ أم تكون واحداً من تلك الشعارات التي تنطوي على كمٍّ هائل من الآمال الإنسانوية الطابع والمضمون؟ أم أنّها تحمِل كذلك في طيّاتها مجموعاً وافراً من التفاعلات والارتدادات السلبية الرافضة؟ كيف أمكن أوروبا، هذه القارة الصغيرة المشتملة على شعوب وثقافات متنوعة أن تولّد المفهوم الغيبي والجغراسي للغرب، ذاك المفهوم الأسطوري الشامل الجامع الذي مثّل حيّزاً تولّد فيه هذا الكمّ من الأفكار الجديدة التي غيّرت وجه العالم؟ تلك هي التساؤلات التي أردتُ الإجابة عنها في هذا الكتاب، وهو يمثّل امتداداً لمؤَلّفين آخرين سبقاه إلى طرح إشكاليات مختلفة، سيُستفاض فيها هنا، وتُسْبَر أعماقها (1).

في تحليل مبدأ القوة المنظِّمة لمفهوم الغرب

كنتُ قد حاولت بداءةً الشروع في التأريخ لانبثاق مفهوم «الغرب»، عارضاً لاستعمالاته الكثيرة في المضامير الفلسفية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والجغراسية. فهذا المفهوم الجغرافي البسيط هو، في الواقع، متعدد المعاني، وهو كثيراً ما يستعمل على نحو مكثّف ينضح بالانفعالية، بل قل بطريقة وَسْواسية عُصابية، وذلك في أنماط مختلفة من الخُطب الفلسفية والأكاديمية والميتافيزيقية (أي التي تُعنى بالمطلقيات التي تتحكّم بحياة البشر) والتاريخية، وتلك المعنية بالهوية والسياسة. ولعلّ في مثل هذا البحث المعرفي الواسع الفائدة الكبيرة للقارئ واستثارته. وهو ما سنراه على امتداد هذه الدراسة. وفي انبثاق هذا المفهوم واستعماله المفرط والتكراري، طوال القرنين الماضيين، ما يدلّ على تَطْواف المخيّلة التاريخية والجغرافية في الثقافات الأوروبية المختلفة، كما خارج القارة. غير أنّ دراستي هذه لا تتقصّد البحث في هذا الشأن، بل هي محاولة أكثر بساطة، جهدتُ فيها لإيضاح أنماط الاستعمال الكثيف والمتزايد الانتشار لهذا المفهوم، لدرجة انتهى معها إلى تأطير وتوجيه كلّ الأبحاث والكتابات في مضمار العلوم الإنسانية، كما كل اشتغال عقلي يُعنى بالفكر الفلسفي ـــــ السياسي.
وكما سنرى، شهد بشكل خاص كلّ من القرنين التاسع عشر والعشرين استعمالاً مكثفاً لهذا المفهوم، لدرجة خِلنا معها أنّه كان يؤدي دور المحور المغناطيسي المستقطب المثير للانفعال في الفضاءات الذهنية المختلفة، وفي الرؤى والإدراكات الحسية المتنوعة للعالم، التي كانت آنذاك تحرك أوروبا وتثير فيها الاضطراب. فكلما اشتد وطيس التناقضات بين الرؤى التاريخية والفلسفية للعالم من جهة، والمشاعر القومية النقيضة من جهة أخرى، متوافقاً وبروز التفجيرات العنفيّة القوية داخل القرة الأوروبية نفسها، لَقِيَ مفهوم «الغرب» تعميماً لافتاً. فيفرض بالتالي نفسه على الفلاسفة والمؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا والألسنية، الذين يتفكّرون في تنوّع الشعوب وما تنطق به من لغات، وفي مسار التاريخ الكوني، كما في الحيّز الذي تشغله أوروبا في كونيّة الجنس البشري. وعلى نحو هذه المفارقة، اقترنت استعمالات المفهوم بطابع المبدأ العقيدي والمرونة في آن معاً، وهو قد استحال إلى لفظة آلية ذات طابع سحري، إلى صيغة قطعيّة وتكرارية، تحدد إطار كل جهد فكري وتقيّده.
كيف أمكن الجزء نفسه من القارة الأوروبية إنتاج عبقرية موزارت الفريدة، ومن ثم عبقرية هتلر الشيطانية
وإذ عمدتُ إلى التوسّع في تأملاتي السابقة لمفهومَي الشرق والغرب اللذين كنتُ قد أطلقت عليهما تسمية «الهويات العملاقة» (mega-identites)، اللذين لا يلبث تجوال الفكر التاريخي والأنثروبولوجي أن يضعهما في تناقض جذري، حرصتُ في الفصلين الأوّلين من المؤلَّف على تحليل كلّ من العنصر التركيبي الميثولوجي للمفهوم، والأنماط والتقنيات المعتمدة في تشكيله وكيفية عمله، والوظائف التي يؤديها في المجالات المتنوعة حيث يجد له استعمالات، كما في الحِقب المختلفة التي يسير تاريخ القارة الأوروبية المأسوي والعنيف على وقعها. ولعلّ أكثر ما يبرز من النصوص العديدة المُستشْهَدْ بها في هذا المؤلَّف فيلفت انتباه القارئ، لا بل يستثير يقظته، هو بلا ريب، اختزال تاريخ القارة الأوروبية، بما يضمن في الغالب إفراغه من مصادر التنوّع المتعددة والتناقضات والأعمال العنفية البالغة القسوة، والارتقاء به إلى مرتبة المثال الذي يصحّ التماهي به. فالمراد من ذاك الاختزال وتلك الأمثلة هو، في الواقع، إرساء الأسطورة على أسس صلبة، وهذا يقتضي عزل العوامل المشوّهة وتهميشها، والقذف بها في غياهب التاريخ، أو على العكس، تحويلها إلى ظروف مُلزِمة بانبثاق وحدة الغرب، وذلك في المنظور الماورائي الديني للتاريخ.
في مثل هذه المقاربة، يصبح من الممكن الجزم بوجود سلسلة تاريخية متواصلة ومتماسكة تنزع إلى هدف أوحد وفريد، منذ الأزمة الأكثر قِدماً. ومن المفترض بهذا التواصل التاريخي العابر للأزمة أن يضمن على الدوام، خلف الفوضى والأعمال العنفية والاختلافات، وجود وحدة سامية، تعلو عليها كلها، و«روحاً» أوروبية، كما و«حضارة» أوروبية واحدة ذات خصوصية فريدة، تحتل مكاناً مركزياً في تاريخ العالم. غير أنّ الاستعمال التاريخي والفلسفي أو الانثروبولوجي لمفهوم «الغرب» ـــــ أو لمفهوم «أوروبا»، علماً بأنّ استعمال هذا الأخير لا يزال قائماً، وإن كان على نحو أقل تواتراً مما كان عليه خلال القرن التاسع عشر، بوصفه رديفاً أو معادلاً للأول ـــــ يحطّ دائماً رحاله في ختام مساره السريع في الخُطَب المتميّزة بطابها السياسي المحض، وبخاصة منها تلك الجغراسية المضمون والتوجّه، التي ينطق بها قادة أوروبا ونُخَبها، وفي أيامنا هذه قادة الولايات المتحدة الأميركية ونخبها.
وإذ تطلّعت في الفصل الثالث من هذا الكتاب إلى أبعد من الميثولوجيات الكبرى التي تغلب على الخطاب التاريخي والفلسفي الهادف إلى تأكيد المطلقيّة لاستثنائية أوروبا، حاولتُ تحديد ماهيّة البذور العديدة التي أصبحت في ما بعد، ومنذ منتصف القرون الوسطى، مصدر قوّة هذه القارة وسطوتها. ولقد جاء الكثير من المكوّنات الهامة من مصدر هذه القوة نتيجة «للتثاقف» (أي التفاعل مع معارف وحضارات الشعوب الأخرى) والتواصل المكثفين والمستدامين بنحو ملحوظ، اللذين قُدّر للأوروبيين اختبارهما مع كلّ التنوّع الممكن من الشعوب والتقاليد والعادات السلوكية والعلوم والتقنيات ومستويات الحضارة، خارج قارتهم. غير أنّ هذا التنوّع الذي طبع التواصل، بقي في الغالب مجهولاً من المؤرخين والفلاسفة، وبخاصة عندما كان يتعلّق بحقبة القرون الوسطى، حيث درجت العادة على توصيف القارة بكيان منغلق متقوقع كلياً على نفسه، ومقيّد بالغطاء الحديدي الذي كوّنته المسيحية الجماعية التي أمْلَت على الفرد تفاصيل سلوكياته اليومية، وخصصت له، بدقة متناهية مكانته الاجتماعية في تراتبية صارمة؛ وإذ أعدنا قراءة تاريخ الشعوب الأوروبية، تنأى بنا عن النماذج الاختزالية والتبسيطية التي تحجب العديد من الوقائع والأحداث لتهدف إلى تحديد معالم مثال تاريخي أرقى، يفترض أن تكون العبقرية الأوروبية قد بلغته عبر «الثورات» الكبرى في كلّ من الفكر والاقتصاد، نتنبّه حينئذٍ إلى أنّ المصادفة القدرية كما الحاجة الملحّة هما اللتان كوّنتا أوروبا، تماماً كما فعلتا في القارات الأخرى، عبر المسار الطويل للتاريخ الكوني، وتعددية الحضارات التي يزخر بها.
ويستعيد الفصل الرابع عنواناً تهكميّاً لأحد مؤلفات برنارد لويس الأخير (2)، الذي يتعرض فيه بعنف للعالم الإسلامي، فيجعل منه مثالاً للفشل التحضُّري المُدَوّي الذي لقيه في تكييف نفسه مع الفكر العلمي الذي يميّز الحداثة الغربية. وإذ أُسلّط الضوء على واحدٍ من أكثر الوجوه إشراقاً واستثنائية لأوروبا، أعني به ذاك الازهرار المنقطع النظير الذي آلت إليه اللغة الموسيقية، جمالاً وتنوّعاً وبراعة فنيّة، بدا لي أنّ السعي لإدراك الظروف التي بموجبها أمكن الجزء نفسه من القارة الأوروبية إنتاج عبقرية موزارت الرفيعة والفريدة، ومن ثم ـــــ بفارق قرنين من الزمان ليس غير ـــــ إنتاج العبقرية الشيطانية المؤذية والضارة والفتّاكة التي ميّزت هتلر. فقد بدا لي أنّ مثل هذه المحاولة في فهم ما حصل لأوروبا لكي تتدهور حضارتها وأخلاقها من مستوى عبقرية موزارت البرّاقة إلى مستوى الوحشية الهتلرية هي أكثر أهمية وشرعية من محاولة برنارد لويس في البحث السطحي المغرِض في أنماط الحضارة الإسلامية. وبعد أن أَنْصَفتُ هذه المرحلة المهمَلة، إنْ لم نقل المتجاهَلة في معظم الأحوال من العبقرية الأوروبية، عمدتُ ـــــ في الفصل الرابع عينه ـــــ إلى عرض القصور البالغ في الشروح الموضِحة لظهور النازية وطبيعتها.
هكذا، يصبح من الممكن الدخول، في الفصل الخامس، في استكشاف معمّق لصدام الرؤى، التي كان يُنظَر من خلالها إلى العالم، والنُظُم الفلسفية التي مزّقت أوروبا في القرن التاسع عشر. ولقد كان من شأن هذا الصدام أن هيّأ، ليس فقط لانتصار الأيديولوجية النازية، بل أيضاً لتدمير الطوائف اليهودية الأوروبية. ويعود هذا الصدام في جذوره إلى رفض عنيد لإرث عصر التنوير والمبادئ الإبداعية التي انبثقت من رحم الثورة الفرنسية. وسرعان ما استشرى هذا الرفض بفعل هجوم مزدوج، نبع من الماركسية كما من التيار المعادي للتنوير، نادباً اندثار البيئات التقليدية، وما ينطوي عليه هذا الاندثار من فقدان لطرق العيش المستقرة، كما من القضاء على تضامن أفراد الجماعات التي توصف بالعضوية، والتي آلت إلى الانحلال والذوبان في المجتمع العصري، وذلك بفعل ما أصابها من تآكل ألحقه بها تطور الرأسمالية الصناعية.
وإذ نواصل ونعمِّق تحليلات الفصل الخامس، يُظهِر الفصل السادس من هذا المؤلَّف كيف أنّ الرسم الخيالي والأسطوري الذي عكس صورة اليهودي، قد حُمّل كل آفات أوروبا وشرورها، إذ أجمعت الأطياف السياسية من أقصى يسارها إلى أقصى يمينها، على النظر إليه بوصفه كبش الفداء والضحية القربانية المهيّأة على الدوام للإهلاك، بغية تطهير أوروبا وتحريرها من الانحطاط المتربص بها. لذلك إنّ إعادة قراءة تاريخ أوروبا هذه، كما أحاولها هنا، تكشف بوضوح «حوليّة الإبادة اليهودية المعلَنَة» التي تظهر في تجلياتها الفظّة لدى قراءة كبار الفلاسفة وكتّاب الحداثة الأوروبية منذ القرن الثامن عشر.
هذا ما دفعني، في الفصل السابع من هذا المؤلَّف، إلى تقويم نقدي لاضطرابات العالم الراهن، الذي ورثناه من تاريخ اصطخب بالتقلّبات خلال القرنين المنصرمين، ومن الديناميات الأوروبية المختلفة التي طبعتهما والتي عمدت إلى توصيفها على امتداد الفصول السابقة. وإذ أحاول اجتناب الوقوع في شرك الخلاصات التوليفية والاختزالية الكبرى لهذا التاريخ التي عليها بُنيَ مفهوم «الغرب»، أُخضِع هذه الاضطرابات للتحليل مستعيناً بمفاتيح فهم جديدة تسمح بتناول تاريخ أوروبا بشكل مختلف. ومن شأن هذه المقاربة أن تجيز للقارئ إدراك دقائق المسار الأوروبي ومسار الصلات التي يقيمها بالعالم، وخصوصاً بالدول التي تنضوي في ما يسمى العالم الثالث، وذلك عبر نظام إدراكي آخر لقراءة تاريخ أوروبا وعلاقتها بالعالم، يجعلها أكثر فائدة وغنى من تلك التي تقترحها المباحث الرائجة، والنقاشات الخطابية الكبرى التي تقدمها لنا وسائل الإعلام الغربية، وكذلك الخُطَب السياسية الجوفاء على بلاغتها التي ينطق بها صنّاع القرار في أوروبا.
أما في الفصل الثامن من الكتاب، فقد حاولت رسم وتحديد الإشكالية التي يطرحها وجود أوروبا في العالم، وقد تمزَّقه الخضوع للقواعد والأصول كما لعقيدة الانتماء إلى الغرب أو الغربويّة (occidentalisme)، حيث باتت سطوة الولايات المتحدة الأميركية الثقافية، والسياسية، والعسكرية هي اليوم العنصر المحرك من جهة، وتأكيد الاستقلالية، لا بل الانعتاق من هذه العقيدة التي كانت السبب وراء الكثير من الدمار والخراب والعديد من التفجّرات العنفيّة داخل أوروبا كما خارجها، من جهة أخرى. ولقد حاولت هنا توصيف الهوّة المتفاقمة التي تباعد بين الخطاب المتباهي والخاوي لصنّاع القرار السياسي والنُخَب التي تدور في فلكهم، وواقع المشكلات التي تهز العالم وتستثير قلقه واهتياجه. وعلى الرغم من حيوية الفكر النقدي، المعنوي والأخلاقي والسياسي، في أوروبا كما في الولايات المتحدة، يبدو عالم صنّاع القرار على ضفتي المحيط الأطلسي كأنّه مصاب بالانطوائية وما يرافقها من وهن الفكر ومراوحته على نحو دائري مقفول على نفسه، ما يؤدي إلى هذا الخطاب الأجوف والهُجاسي والتهجُّمي العدواني على السواء.
زد على ذلك أنّ سلام العالم ما كان أبداً بهذه الهشاشة التي نراها ماثلة فيه اليوم.
أخيراً، في خاتمة هذا المؤلَّف، حاولتُ تخيّل المخزون الهائل والمدهش من الطاقة الإبداعية الكامنة لإعادة إطلاق نهضة الثقافة والفكر في أوروبا، لو أنّها تخلّت عن الدوغمائية والتقليد المتحكمة بالخطاب الغربوي. وفي الخاتمة عينها، أشرح كيف حان الوقت لوضع حد لحرب الأفكار والمُثُل والأوهام «الطوباوية»، وبخاصة عقيدة المحافظين الجدد السائدة والنيوليبرالية المسؤولتين عن الأزمة الاقتصادية والمالية التي نتخبط فيها. كذلك فإنّني أحاول أن أظهر كيف لإزالة الحواجز التي تكبّل الفكر الأوروبي، ولانعتاقه من العقائد الجامدة، ولانفتاحه على الثقافات والفلسفات الأخرى في العالم، أن تُسهم إسهاماً كبيراً في بناء عالم أفضل أو، في أية حال، أكثر استقراراً وسكينة.

مسؤولية الخُطَب الفلسفية والغيبية في قلق العالم واضطرابه

أيّ جزء من المسؤولية يتحمله المفكرون الذين طوروا النظم الفلسفية التي أضفت شرعية على إثارة الأعمال العنفية
قد يصدم القارئ المجبول على هالة التعظيم والاحترام التي تحيط بأسماء كبار فلاسفة القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين وكتّابهما، إنْ هو اطّلع على المسؤولية المعزوّة إلى بعض جوانب فكرهم في تشييد فضاء ذهني، فتح الباب على مصراعيه أمام أقصى تجليات العنف الذي تكبدته الشعوب الأوروبية مرتين خلال القرن العشرين. ومن المحتمل أن تَلُمَّ الدهشة بالقراء الذين لا معرفة لهم بعالم الفلسفة القلق الذي أفرزته الثقافات الأوروبية خلال القرنين المنصرمين، إنْ هم اطّلعوا على المكانة اللافتة التي يحتلها هذا العالم، الذي يمكنه أن يبدو كأنّه بعيد كلّ البعد عن وقائع الحياة اليومية. لكن الأفكار المجردة والمفاهيم التي تشكل اللغة الفلسفية ليست أبعد ما يكون عن البراء من السلوكيات الفردية والمجتمعية. وحتى لو لم يكن المرء قارئاً لكلّ من هيغل وماركس ونيتشه، فإنّ رؤى هؤلاء للعالم هي التي أسهمت في صياغة إدراكاتنا الحسيّة للواقع، وما يحتويه من رهانات وتحديات، وبالتالي للسلوكيات المجتمعية والسياسية المتّبعة. فلقد كان لماركس نفسه أن عبّر بوضوح لا لبس فيه عن غزو الفلسفة للحياة اليومية في المجتمعات، والطريقة التي توسّلَتْها لتصبح «الروح الحيّة للثقافة»، يوم «دخلت المجالس ومختليات الكهنة وغرف التحرير في الصحف، وأروقة البلاطات وقلوب المعاصرين الملأى بُغضاً أو المفعمة حبّاً»؛ وهو يستحضر أيضاً «الحريق الذي أضرمته الأفكار» (3).
وفي ذلك المجتمع بالتحديد، حيث تنتشر التربية، وحيث يجد له التعليم العالي نمواً وتطوراً، تشكل الرؤى الفلسفية إلى حد بعيد نُظُمَ الإدراك الحسي للعالم التي تستحوذ على العقول. وفي الواقع، تمارس هذه النُظُم ضمناً أو جهاراً تأثيراً بالغاً على اللغات والمفردات والمصطلحات والمفاهيم المستعملة في الحياة اليومية، وعلى برامج الأحزاب السياسية وأهدافها، كما على الأدب الروائي الكبير، وبلا شك على كلّ الإنتاج الموصوف بالأكاديمي. إذ إنّ هذه النظم تؤثر أيضاً على كبار الأدباء الذين يجعلون من مؤلفاتهم الروائية ممراً لعبور هذه الرؤى إلى معيش الشخصيات الرئيسة التي يضعونها في صلب الحبكة السردية. ومن شأن هذه النظم أن تضطلع بهيكلة المناهج التربوية المدرسية والأكاديمية على السواء. فأيّ جزء من المسؤولية هو ذاك الذي يتحمله المفكرون والأدباء الذين طوروا هذه النظم الفلسفية وتلك الأنساق الميتافيزيقية الطابع التي أضفت شرعية على إثارة الأعمال العنفية وعلى إفلات مجمل الحروب الشمولية من أعنّتها، مُلهبةً القرن الماضي؟
فتطوّر الطباعة، والتربية والتعليم، والميل إلى القراءة، والنزعة إلى التبحّر في العلوم واكتساب المعرفة الموسوعية، كما إلى استكشاف القارات والمساحات الثلجية في كلّ قطبي الكرة الأرضية، وصولاً إلى قمة إفرست، وما لا يعد ولا يحصى من الترجمات بالوافر من اللغات للأعمال الأدبية والعلمية، كلّها خاصيات تميّز أوروبا منذ نهاية القرون الوسطى، وتعطي بلا ريب سعةً وغزارة وقوة للأفكار، لكن أيضاً لما يمكن أن تتضمنه من صور نمطية مسيئة وأفكار مسبقة غير منطقية. بالإضافة إلى ذلك، لا بد من الأخذ في الاعتبار النرجسيات الجماعية، وشهوات القوة والسطوة، والمصالح الاقتصادية، والمطامع المفرطة، الخاصة بأُناسٍ يجسّدون هذه النرجسيات وتلك الشهوات، ويشعرون بأنّ ما يمكن أن نطلق عليه اسم «القدر» ـــــ لافتقارنا إلى كلمة أفضل إيفاءً بالمعنى ـــــ هو الذي يدفعهم إلى المضيّ قدماً في مشاريع القوة والهيمنة. ويتحمل هؤلاء قسماً كبيراً من المسؤولية في المآسي والعذابات التي يمكن الأفكار الفلسفية الكبرى أن تؤدي إليها، ما إن توضع حيّز التنفيذ في سياق المصالح والأهواء. فلا تعتقدنّ أنّ التواضع والشعور بالشك، هما من الخصال المعروفة لدى النُخَب التي تقود العالم، وهي تعمل في أكثر الأحيان على إفسادها، فتحيلها إلى انتهازية عقائدية كريهة تستدعي لمواجهتها والتصدي لها، دفاعاً عنيداً متطلباً عن المبادئ العليا للأخلاق، القابلة هي الأخرى للانحلال الذي يحيلها إلى تعصّب قاهر ونزعات عدميّة مميتة.
وفي التأملات المعروضة في الفصول الرابع والخامس والسادس، أعود إلى الخطب الفلسفية والميتافيزيقية المتناقضة التي أنتجتها الثقافات الأوروبية المختلفة والتي جالت وراجت بكثافة لافتة عبر العالم. وقد تميّزت كلّ تلك الخطب لدى الفلاسفة والمؤرخين والمعنيين بالأخلاقيات والدارسين والباحثين، بخضوعها لسلطة مفهوم «الغرب» صنماً معبوداً، أو تموضعها بالنسبة إليه. تلك هي الحالة في ألمانيا، الواقعة في قلب أوروبا عينها، وهي حالة تفيض ببليغ المعنى في سياق كلامي ومَقْصِده، كذلك فإنّها تنطبق على روسيا، الأكثر طرفية من حيث موقعها الجغرافي التي أضحت مع ذلك، منذ عصر الإمبراطورة كاثرينا الثانية، قوة أوروبية سياسية وعسكرية عظمى، فانتهت إلى أن تصبح هي الأخرى، منذ القرن التاسع عشر، مجتمعاً منتجاً لرؤى ملتهبة عن العالم، أدى إلى مضاعفة تعقيد وكثافة وأهواء العواطف الفلسفية والسياسية في صميم أوروبا.
وبنحو لاواعٍ، لكي لا تهدد وحدة مفهومي أوروبا والغرب وتماسكهما، فإنّ التقاليد التوصيفية في تأريخ الأفكار في أوروبا، أو أيضاً تلك العائدة إلى الأدب، قد تمترست في تصنيفات عامة ومجردة للغاية أو تسميات مبسطة لا تعبّر عن تعقيدات وتناقضات صدام الأفكار الفلسفية والسياسية في أوروبا. تلك هي الحال فعلاً، عندما يُقسَم تطور الفلسفة إلى حِقْبة كلاسيكية، تتبعها حقبة الحداثة ثم حقبة ما بعد الحداثة، أو عندما يصنّف التطور الأدبي في حقب كيفيّة اعتباطية، مجردة في تعريفها، كمثل الكلاسيكية ثم الرومانسية ثم الحداثة، أو كذلك وفاقاً للأنواع المختلفة المندرجة في كل من الشعر والمسرح والرواية والبحث.
ويفتقر مفهوم الحداثة عينه إلى الملاءمة والتماسك. ويعود السبب في ذلك إلى أنّ كلّ واحدة من الحقب المذكورة أعلاه قد عرفت نزاعاً بين القدماء والمحدثِين. غير أنّ مفهوم الحداثة ما لبث هو نفسه أن أصبح مرادفاً لمفهوم الغرب، بحيث أنّ الأول يُقبِل على دعم المحتوي الأسطوري للثاني؛ فهل من الممكن تصوّر حداثة غير تلك التي أنتجها الغرب، أو تلك التي يستطيع أن يُلْهمها في أي مكان آخر؟ وعندما تظهر التأثيرات الضارّة للحداثة خارج أوروبا، فهي تنسب إلى «بربرية» همجية غريبة عن الغرب، إذ نادراً ما يقام الرابط التشبيهي أو المقارَن بين الأوضاع الجغرافية والظروف التاريخية ـــــ وهي بالتأكيد مختلفة، ومن شأنها أن تخضع لديناميات القسوة الدموية نفسها التي كان للقارة الأوروبية أن عرفتها في تاريخها.
وعلى هذا الأساس، فإنّ هذه الرحلة الطويلة التي نستهلّها ها هنا في صلب التاريخ الأوروبي، كما في تاريخ الأفكار والنُّظُم الفلسفية التي تواكب اضطرابات هذا التاريخ وانقلاباته، إنما هي تستهدف فتح الباب أمام تفكيك بنية الجوانب المختلفة لأسطورة الغرب. فلقد كان لـ«الحداثة» الأوروبية أن شيّدت منذ أعمال الفيلسوف الألماني هيغل، كبرى نُظُم الإدراك الحسي للعالم حول هذا المفهوم الرئيس بالتحديد. من هنا، كان من الضروري الانكباب، ليس على تحليل الظروف التي شهدت انبثاقه وبروزه فقط، بل أيضاً على تفحّص ماهيّة التطرّف الذي يمكن أن يؤدي إليه، عندما يفقد منشأه الجغرافي، ليتحوّل إلى آلة عمياء تُعنى بإنتاج الهويات، وإلى مواقف فكرية مسبقة ودوغمائية الطابع.
من خلال هذا التفكيك لكبريات الاختزالات التاريخية وللنُّظُم الفلسفية التي ولّدتها، يُظهر هذا المؤلَّف في منظور جديد الأسباب التي أدت إلى التموضع المركزي لهذه القارة الصغيرة، وهو واقع يستحيل تجاهله في تطور البشرية منذ القرن السادس عشر. فعندما تحطم شعوب أوروبية متنوّعة الحواجز التي تعوق تحركيّتها لتنتشر في كلّ القارات الأخرى، بأشكال وبإملاء من دوافع مختلفة، لا يعود هذا التاريخ مجرد تاريخ يسرد ببساطة للغزوات والاحتلالات الاستعمارية البالغة القسوة والدموية، ولا مجرد تاريخ يعرض للإمبريالية التوسعية، ولا تاريخاً يختص بقارة قامت مقام «المنار» الهادي فحملت، عبر أريحيّة مترفّعة عن الأغراض والمنافع الخاصة، التقدم التقني والأيديولوجية الإنسانوية إلى ما بقي من بقاع العالم. زد على ذلك أنّ الذي يريد شرح التحولات التي خضعت لها كلّ القارات الأخرى منذ نهاية القرن الخامس عشر، لا يستطيع أن يقتصد في المقال فيمتنع عن استذكار الطابع الفتّاك لتلك النزاعات العسكرية والفلسفية التي نشبت داخل أوروبا، والتي أدت دوراً رئيسياً في دينامية تدخلات الأوروبيين العسكرية والعلمية والثقافية والدينية في جهات العالم الأربع.

تاريخ أوروبا وتاريخ العالم وباستطاعتنا أن نضاعف من الأمثلة على التأثير الأوروبي الذي جال في كلّ مكان من العالم تقريباً، سواء اعتمد المسار العسكري أم المسار السلمي، على المستوى الفكري كما على المستوى الأدبي والفني. فما من شيء في العالم إلا تأثر بأوروبا، وبخاصة عندما كان هذا التأثير يتوسّل الطرق المختلفة التي اعتمدها الأوروبيون في سردهم لتاريخ العالم كما سردهم أيضاً لتاريخهم وشرح عبقريتهم، ونجاحاتهم وإخفاقاتهم، وباختصار كلّ ما عدّوه قدرهم الاستثنائي في التاريخ الكوني. وفي الواقع، كانت أوروبا استثنائية في تاريخها الخاص كما في إشعاعها ونفوذها العالميين اللذين تميّزهما المظاهر المتعددة. ومن جهة أخرى استثارت هي القَدْر نفسه من الإعجاب والكراهية حيثما حلّت، فأشعرت الآخرين بوجودها. وفي أكثر الأحوال، سبّبت أوروبا الحروب الأهلية وتلك الفلسفية، أكانت علنية أم خفيّة صامتة، في المجتمعات حيث استُشْعِر بنفوذها وتأثيرها. فهل لا تزال أوروبا اليوم قارة صعبة التجاهل؟ ألا تزال واحداً من المحركات المهمة في تاريخ العالم؟ وهل، بعد الإخفاقات المدوّية التي آلت إليها محاولات التوحيد ومساعي المُجانسة سواء بقوة السلاح أو بقوة الأفكار، وفي أغلب الأحوال، بالقوتين معاً، تتوصل إلى تحقيق النجاح، من خلال دينامية سوق اقتصادية مشتركة، وعبر المغامرة الجديدة التي تسعى فيها إلى توحيد هذه القارة سلمياً؟ أستستمر في قيامها مقام الأنموذج ـــــ المصدر، ذاك الأنموذج السياسي والفلسفي والثقافي الذي يؤثر في ما بقي من العالم، علماً بأنّ بعضهم أطروا عليه فرفعوه إلى الأوْج وجعلوا منه مثالاً يحتذى، فيما طاله آخرون بالقدح والذمّ، في أوروبا كما خارجها، إذ إنّه كان بالفعل أنموذجاً أساسياً لمفهوم الحداثة، و«الحضارة» والتقدم، والرقيّ، والإنسانويّة.
وفي ظل هذا الأنموذج ـــــ المثال حسب مفهوم ماكس فيبير، عرف الأوروبيون انفجارات عنف بركانية الطابع ينبغي إدراك مسبباتها المعقدة: من إبادة شعوب القارة الأميركية إلى المحرقة اليهودية، مروراً بالاسترقاق والاستغلال والاضطهاد الاستعماري، وصولاً إلى التفلّت العنيف للأهواء القومية والأيديولوجية بين الأوروبيين أنفسهم. ولا بد هنا من الإشارة إلى التلازم الحاصل بين الأعمال العنفيّة التي كبّدها الأوروبيون بعضهم لبعض، وتلك التي مارسوها بحق غيرهم من الشعوب. فالحروب الصليبية التي استهلّت بالفتنة ضد يهود أوروبا لن تلبث أن تلحق بحرب المئة عام، وأهوال قمع الأنواع المختلفة من الهرطقة الدينية، وفظائع الحروب بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين التي لا تقل خطورة ولا استطالة، والحروب التي قادها لويس الرابع عشر، وحروب الثورة الفرنسية، ثم حروب نابوليون، والمجازر القومية التي اصطخبت بها الحرب العالمية الأولى، التي كانت أوروبية في جوهرها ـــــ وأخيراً الحروب القومية والعرقية والأيديولوجية التي استشرت خلال الحرب العالمية الثانية، وهي التي اتخذت لها على الدوام من أوروبا حيّزاً مركزياً. وتجدر الإشارة بالتالي إلى أنّ الوحشية هذه قد مارسها الأوروبيون بادئ ذي بدء على أنفسهم حتى قبل أن تصبح الشعوب الأخرى خارج القارة، ضحية لها. وبالتالي، يصعب التوفيق بين هذه الأعمال العنفية وتلك الفظائع، وبين الصيغ النمطية والمبتذلة التي تصوّر أوروبا أو الغرب كأنّه المكان المميّز لانبثاق عهد العقلانية والإنسانوية الكونية.
أيُعْقَل ألا تكون أوروبا اليوم، وهي التي أنجبت الولايات المتحدة، إلا لاحقاً لهذه القوة العظمى
وفي ضوء ما تقدم، تبرز الحاجة إلى إعادة قراءة واستكشاف تاريخ أوروبا بغية إيضاح هذه المفارقة وإدراك مسبّبات التفجيرات العنفية التي أثارها الأوروبيون، كما تلك التي ولّدت هذه القوة في ابتداع الإنجازات العلمية، والفنية، والتقنية المتطورة، وفي التسريع من وتيرتها في هذه القارة ذات المساحة المحدودة للغاية. وبالتالي، ثمّة تلازم بين وجهتين في تاريخ أوروبا، واحد كالح وآخر ساطع، تسعى هذه الدراسة إلى تبيان محركاته المعقدة. ومما لا شك فيه، أنّ هذا التاريخ يقدم لنا منذ الحروب الصليبية أغنى المواقع لمشاهدة التأثير العميق الذي تولّده الأفكار والبيئات الثقافية في كلّ من الحياة السياسية والعادات والسلوكيات داخل كل مجتمع، لكن أيضاً بين المجتمعات. فالأفكار، في واقع الحال، مصمَّمة للسفر، أي لكي ترتحِل عن منبتها، وتتأقلم وتتوطَّن في بيئات بعيدة ومختلفة، في المكان كما في الزمان. ومن شأن كلّ رحلة تشرع بها الأفكار أن تحوّلها إمّا إلى الأفضل، أو إلى الأسوأ، على صعيد النتائج والعواقب التي تجرّها على حياة المجتمعات. وثمّة صعوبة أكبر في إيقاف انتقال الأفكار مقارنةً بتداول السلع والبضائع. فالرسم الجمركي على الأفكار هو السجن، وحظر استيراد الأفكار هو الرقابة أو الحكم بالأشغال الشاقة. في الماضي كان الجزاء الإعدام حرقاً. وكما سنرى على امتداد هذه التأملات والخواطر، فإنّ الشعار السياسي الحديث ما هو إلا نتيجة لفكرة فلسفية، ومناخ ثقافي، وفضاء ذهني، ونظام إدراكي معتمد في النظر إلى العالم. أما الفكرة الفلسفية المعاصرة، فما هي إلا إعادة رسم للعالم، وهي وإنْ حلّت محل تلك التي ورثناها من الدين، إلا أنّها تبقى، على نطاق واسع، مشبعة بوافرٍ من البُنى القديمة.
حتى قبل أن تصبح الشعوب الأخرى خارج القارة، ضحية لها. وبالتالي، يصعب التوفيق بين هذه الأعمال العنفية وتلك الفظائع، وبين الصيغ النمطية والمبتذلة التي تصوّر أوروبا أو الغرب كأنّه المكان المميّز لانبثاق عهد العقلانية والإنسانوية الكونية.
وفي ضوء ما تقدم، تبرز الحاجة إلى إعادة قراءة واستكشاف تاريخ أوروبا بغية إيضاح هذه المفارقة وإدراك مسبّبات التفجيرات العنفية التي أثارها الأوروبيون، كما تلك التي ولّدت هذه القوة في ابتداع الإنجازات العلمية، والفنية، والتقنية المتطورة، وفي التسريع من وتيرتها في هذه القارة ذات المساحة المحدودة للغاية. وبالتالي، ثمّة تلازم بين وجهتين في تاريخ أوروبا، واحد كالح وآخر ساطع، تسعى هذه الدراسة إلى تبيان محركاته المعقدة. ومما لا شك فيه، أنّ هذا التاريخ يقدم لنا منذ الحروب الصليبية أغنى المواقع لمشاهدة التأثير العميق الذي تولّده الأفكار والبيئات الثقافية في كلّ من الحياة السياسية والعادات والسلوكيات داخل كل مجتمع، لكن أيضاً بين المجتمعات. فالأفكار، في واقع الحال، مصمَّمة للسفر، أي لكي ترتحِل عن منبتها، وتتأقلم وتتوطَّن في بيئات بعيدة ومختلفة، في المكان كما في الزمان. ومن شأن كلّ رحلة تشرع بها الأفكار أن تحوّلها إمّا إلى الأفضل، أو إلى الأسوأ، على صعيد النتائج والعواقب التي تجرّها على حياة المجتمعات. وثمّة صعوبة أكبر في إيقاف انتقال الأفكار مقارنةً بتداول السلع والبضائع. فالرسم الجمركي على الأفكار هو السجن، وحظر استيراد الأفكار هو الرقابة أو الحكم بالأشغال الشاقة. في الماضي كان الجزاء الإعدام حرقاً. وكما سنرى على امتداد هذه التأملات والخواطر، فإنّ الشعار السياسي الحديث ما هو إلا نتيجة لفكرة فلسفية، ومناخ ثقافي، وفضاء ذهني، ونظام إدراكي معتمد في النظر إلى العالم. أما الفكرة الفلسفية المعاصرة، فما هي إلا إعادة رسم للعالم، وهي وإنْ حلّت محل تلك التي ورثناها من الدين، إلا أنّها تبقى، على نطاق واسع، مشبعة بوافرٍ من البُنى القديمة.
إنّها إذاً رحلة عابرة لتاريخ أوروبا وللأفكار الأوروبية، في الزمان كما في المكان، تلك التي نشرع بها ها هنا. رحلة في الزمان، لأنّ الأفكار الأوروبية لم تنفك عن اختراع وإعادة اختراع المواريث الثقافية الزائلة التي أسقطت عليها الثقافات الأوروبية المختلفة نفسها في المستقبل: الإرث الإغريقي، والإرث الروماني، وإرث مسيحية القرون الوسطى، وإرث العهد القديم، وإرث القبائل الجرمانية، والإرث الموصوف بإرث الإصلاح البروتستانتي. فمن عصر النهضة إلى الرومانسية، ثم إلى حقبة ما بعد الحداثة، مروراً بفلسفة عصر التنوير، والصوفية الألمانية وتلك السلافية، كانت الثقافات الأوروبية على الدوام تبحث عن قارة مفقودة (Atlantide)، علّها تبتدع المستقبل على نحو أفضل.
وهي أيضاً رحلة عابرة للمكان، لأنّ هذه الأفكار وتلك البيئات الثقافية المتنوعة قد صُدّرت في ركاب الغزوات والفتوحات أو، في أيّة حال، قد استُجْلِبَتْ إلى كلّ مكان من العالم تقريباً. وهي سرعان ما أوجدت أهل الفكر والثقافة أو نخباً جديدة، كان لهذه الأفكار الآتية من الخارج أن أنتجت لديها الآثار والمفاعيل الأكثر تناقضاً، وفي بعض الأحيان الأكثر عنفاً. وفي كلّ مكان من العالم تقريباً، من ألمانيا إلى روسيا ثم الشرق الأوسط والشرق الأقصى، كان لهذه الأفكار أن أيقظت الحماسة والرفض في آن واحد، وأن أثارت الافتتان والتفاني كما الاشمئزاز والبغضاء. وكما سنرى في اللاحق من فصول هذا الكتاب، عندما تنظر ثقافات ومجتمعات أخرى بعضها إلى بعض وينتقد بعضها بعضاً، أو ترى نفسها ضحية للغرب، فإنّها تفعل ذلك في أكثر الأحيان في ضوء الواحدة أو الأخرى من الأفكار الرئيسة القوية والدافعة التي أنتجتها الثقافات الأوروبية الكبرى: الأصالة، والتجذّر، والوفاء للتراث، وصون القيم، والتفوّق في الإدراك الميتافيزيقي للعالم كما لتاريخه، والرسالة الروحية التي ينبغي إهداؤها إلى العالم. من هنا، تصبح الوظائف التخيُّليّة والأسطورية التي يحتاج إليها كلّ مجتمع، وظائف مدوَّلة على نحو خطير، عاكسةً لصدام الأفكار التي كان لها في ما مضى أن هزّت الثقافات الأوروبية المختلفة بعنف بالغ، لدرجة أسهمت معها في تفجير الحربين العالميتين اللتين ضجّ بهما القرن العشرون. لهذا السبب، ترانا قادرين الآن، عند مشاهدة التشنجات الهويّتيّة المرتكزة على أساس أسطوري وغيبي، التي تثير الاضطراب في عالم اليوم، على استحضار المناخات الثقافية الأوروبية تلك، التي كانت قائمة في الماضي.
إنّ عالم الفترة الذهبية في أوروبا، أي عند نهاية الحرب العالمية الأولى، يبدو اليوم كأنّه ينبثق ثانيةً، زاخراً بالحدّة الجيّاشة نفسها للإقبال على الحياة، والسفر، والإثراء، والاستهلاك، والبناء بطريقة فيها من الفحش والشواذ ما يثير الاستغراب. في وقت لا تزال فيه نار المبادئ السياسية الميتافيزيقية تكمن تحت الرماد، كما يشهد على ذلك التهجّم الكلامي المتواصل من الدوائر الإعلامية والسياسية الغربية بحق كل من الصين وإيران، وسوريا وروسيا والإسلام؛ وهو ما يؤكده الدعم الأعمى الذي تغدق به الحكومات الغربية تأييداً للاحتلالات الإسرائيلية واتّساع المستوطنات وتمدّدها، وعلى غزو العراق وأفغانستان، وكلّ ذلك في غياب أيّة مراعاة لقواعد القانون الدولي.
وفي الجهة المقابلة للحدّ الغربي للفكر، لا تنقصنا اللعنات التي تدين الحرب الصليبية الجديدة، وهي هذه المرة توصف بالـ«يهومسيحيّة»، وتشجب العودة إلى إمبريالية توسعية لا تطاق، والعودة إلى مسرحية الديموقراطية تزيّن نفسها على نحو خبيث، بكساء الإنسانوية وغطاء حقوق الإنسان. أليست هذه كلّها إشارات تنذر باستعار حريق جديد؟
أما ما يثير القلق أكثر، فهو يكمن في إعادة استعمال مفردات المعاجم الأوروبية القديمة وما تحتوي عليه من الملتبس والمبهم من الألفاظ والمصطلحات، التي تجتاح عالم البحث الأكاديمي، وهو عالم غالباً ما يُخضِع نفسه في الواقع لهذه الأساطير الكبرى، ولا سيما عندما تُعنى المباحث بالجغراسيا والأنثروبولوجيا. وفي الغالب من الأحيان أيضاً، يزوّد البحث الأكاديمي وسائل الإعلام بالمادة التي تغذي المخاوف الوجودية، وقلق الغيريّات الجذرية في طريق المواجهة والصدام الكامل الشامل.
ذلك أنّ انتشار العولمة على وقع الأفكار والتصرفات الأوروبية، يزداد على نحو متواصل خطراً وعنفاً كما يشهد له تاريخ القرن المنصرم، والغزوات التي تعرضت لها دول ذات سيادة في مستهل القرن الجديد (ونعني بها كلاً من العراق وأفغانستان). ومن الملحّ أيضاً أن نسعى إلى استبيان مواضع الصدوع الزلزالية التي تهدد الكرة الأرضية بهزات جديدة، في ظل هذا الصدام الذي نشهده للأفكار والحساسيات الثقافية، كما لما تستتبعه من رؤى عن العالم. ولا بد كذلك من أن ندرك كيف أمكن نُظُماً فلسفية عالية الأهمية وفائقة الرواج، وأفكاراً تنضح نُبلاً وإنسانوية وتدعو الإنسان إلى تشجيعها والارتقاء بنفسه إلى روحية أعلى، أن تنتج كلّ هذا الكم من الأعمال العنفية التي تولّدت من رحم أوروبا عينها، بالغةً في الماضي حدّها الأقصى، والتي لا تزال اليوم تهددنا، نتيجة الانتشار الدولي المتزايد الكثافة لهذه الأفكار.

الانتشارات العسكرية الجديدة والملتبسة لأوروبا في العالم

إنّ الاحتدام الأخير للأعمال العنفية الداخلية الأوروبية خلال الحرب العالمية الثانية، هو الذي حضّ الأوروبيين على التخلي عن الأهواء القومية والأيديولوجية، لينكبّوا على توحيد قارتهم، متوسّلين التبادل الحر، وتحقيق سوق موحّدة وإرساء عملة مشتركة، بالإضافة إلى تعميم كلّ من الحرية الفردية ودولة القانون. فهل لهذا الأنموذج الجديد أن يحقق للأوروبيين الهناء والرفاه، وهل له أن ينشر ضياءه على القارات الأخرى؟ وهل هو يندرج في استمرارية تاريخ القارة أم في القطيعة عنه؟ أثمّة استمرارية في المطامح الإنسانوية والكونية؟ أثمّة قطيعة في الاستخدام المتطرّف والمفرط للعنف الذي غالباً ما ميّز تاريخ الأوروبيين، أكان ذلك في علاقاتهم المتبادلة أم في علاقاتهم مع شعوب القارات الأخرى؟
لكن، إنْ صحّ ذلك، فكيف السبيل إلى تفسير انتشار الألوية العسكرية الأوروبية وتسويغه، وقد تظلّلت ببيارق متنوّعة (من علم منظمة الأمم المتحدة، إلى علم منظمة حلف دول شمالي الأطلسي، وعلم قوات خاصة كما في العراق)، لمواجهة حالات متأزّمة في كل من البلدان، والشرق الأوسط، وأفريقيا، أو أي مكان آخر؟ وكيف السبيل إلى تفسير ما يقدمونه من دعم للانتشار العسكري الأميركي في كلّ من العراق وأفغانستان؟ أفي هذا النهج إسهام في تحقيق السلام العالمي، أم هو المقدمة المنطقية التي تنذر بغزو جديد يُخضَع العالم له، وتُجرّ إليه الدول الأوروبية تحت راية الدفاع عن القيم المسمّاة غربية، وذلك في سياق توسّع القوة العسكرية الأميركية في العالم وانتشارها؟ وإنْ صحّ ذلك، فما الذي يفعله إذاً في عام 2009 جنود من الجنسيات الأوروبية المختلفة، في جبال أفغانستان الوعرة، حيث سبق للجيش الإمبراطوري التوسّعي البريطاني أن حصد في القرن التاسع عشر هزيمة نكراء، وحيث كان للجيش السوفياتي أن أخفق إخفاقاً ذريعاً في أواخر ثمانينيات القرن العشرين؟ وما الذي يفعله الرتباء الدنماركيون والبولنديون والإيطاليون، إنْ اكتفينا بهم فلا تطول اللائحة، في صحارى بلاد الرافدين وبواديها ومستنقعاتها، بعد مضيّ نصف قرن على إزالة الاستعمار؟ أيكونون حقاً جنود السلام، الضامنين لإقامة «نظام ديموقراطي» في العالم، أم هم لا يفعلون سوى العَوْد على بدء، فيستأنفون تقاليد غزو العالم والسيطرة عليه، سائرين في أعقاب توسّع قوة الولايات المتحدة العظمى وتمدّدها، الحاملة لمشعل الغرب؟
سبّبت أوروبا الحروب الأهلية وتلك الفلسفية، أكانت علنية أم خفيّة، حيث استُشْعِر بنفوذها وتأثيرها
كثيرة هي الأسئلة الصعبة المطروحة هنا، التي ستحاول الملاحظات اللاحقة في هذا المؤلَّف جاهدةً توضيحها وتفسيرها، في ظل استحالة الوصول إلى إجابات قطعية لا لبس فيها. ولعلّ في نظرة مَن لم يكن أوروبيّ الأصل، لكنّه أحسن الاطلاع على الثقافة الأوروبية فألِفَها، وقد كانت مكتسبة لديه فلم يُفْطِر عليها، ما لا يحمل فائدة للأوروبيين فقط، لكن أيضاً لكلّ الذين هم خارج أوروبا ولا يعتقدون أنّ الفكر السياسي الأوروبي قد استنفد كل خصوبته وطاقته الإبداعية بالنسبة إلى الأشكال الأخرى من الفكر السياسي. ولا بد لي من أن أضيف أيضاً أنّ اللغة الفرنسية، التي كتبتُ بها هذا المؤلَّف قد اشتهرت لاتّصافها بالوضوح والدقة. فهي خلفت اللاتينية، وقامت مقام لغة الحضارة الأساسية في أوروبا خلال القرنين السابع والثامن عشر. ولا ننسى أنّ كلاً من الذوق الفرنسي، والأدب الفرنسي، والموضة الفرنسية، تمتع بمنزلةٍ رفيعة أصبحت معياريّة، بالنسبة إلى الثقافات الأوروبية الأخرى، كما بالنسبة إلى ثقافات أخرى توسّط انتماؤها بين أوروبا وآسيا. وتلك كانت الحال بنحو خاص في وضع كلّ من الثقافة الروسية، والثقافة التركية العثمانية والثقافة العربية، التي تضررت وأفادت في آن واحد، من المبادرات والمشاريع الأوروبية، وما حملته معها من مآسٍ وشدائد وتقدم ونمو في آن معاً، حيثما قادتها حيويتها الغازية. وبالطريقة عينها، كان لتأثيرها أن انعكس، حتى في الهند والشرق الأقصى، تحوّلاً عميقاً في المجتمعات التي مسّها، سواء اتّخذ له شكلاً ليبرالياً أو محافظاً متمسكاً بتقليد السلف، أو جذرياً، أو ثورياً ماركسياً، بل أيضاً مثّل القيم الجمهورية على الطريقة الفرنسية.
أليس كلّ من الفرنكوفونية والكومنولث البريطاني القائمين اليوم، طيفاً شاحباً ومتأخراً عن تلك المنزلة القديمة التي احتلّتها لغة فرنسا ولغة إنكلترا وعادات كلّ منهما المسلكية، علماً بأنّ هاتين القوتين العظميين قد تنافستا على الإمساك بزمام أمور العالم وقيادته طوال القرن التاسع عشر؟ أليست الولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، القوة العسكرية، والعلمية والثقافية العظمى التي تقود العالم، تاركةً أوروبا على هامش التاريخ الذي مرّ؟ أيُعْقَل ألا تكون أوروبا اليوم، وهي التي أنجبت الولايات المتحدة، إلا لاحقاً لهذه القوة العظمى التي أضحت إمبريالية توسعية لدرجة تذكّر بما كان من حال الإمبراطورية الرومانية؟ ولا ننسى أنّ شبح انحطاط تلك الإمبراطورية وانحلالها، التي استوحت منه أوروبا في عصر النهضة، قد لازم الفكر الأوروبي كما الهُجَاس، تماماً كما يلاحق اليوم الفكر السياسي الاستراتيجي الأميركي. وماذا عن مركب أوروبا، الذي هو اليوم أكثر ثباتاً في تعلّقه بالجمهورية الأميركية التوسعية مما كان عليه خلال القرن العشرين؟ أيّ مصير يمكن أن يكون بانتظار أوروبا، وبخاصة أنّها تقبع في ظلّ قوس عواصف الشرق الأوسط العاتية، الذي يطوّقها ويتربّص بها؟
كانت للقوى الأوروبية العظمى مسؤولية تاريخية مهمة في العديد من النزاعات التي تمزّق هذه المنطقة المضطربة من العالم. فهل ستقوى أوروبا على التخلّص اللبِقْ من اللعبة فتنسحب منها، في ظل هذا الجو المثقل بالتهديد بين غربٍ أسطوري ميثولوجي، يقال فيه إنّه «يهومسيحي»، وبين شرق، لا يقلّ عنه تخيُّليّة، يقال فيه إنّه «عربي ـــــ إسلامي»، وهو جوّ بات اليوم يوصَّف كما لو أنّه يجسّد تماماً صحة مقولة «صراع الحضارات»؟ ولقد كان لجيوش منظمة حلف شمالي الأطلسي أن انتشرت في العالم، في ظل راية هذا الصراع بالتحديد، منذ بداية هذا القرن، واحتلت دولتين سيدتين، هما أفغانستان والعراق. فما الذي تفعله أوروبا في مثل هذا المشروع، الذي لا بد أن يذكّرنا بما أتت به في الماضي، يوم كانت تقود عملياتها الاستعمارية، مسوّغة سلوكها ذاك برغبتها في بسط النظام والحضارة؟

أزمة الثقافة في القرن الحادي والعشرين والأشكال الجديدة للإرهاب

إنّ هذا المؤلَّف موجّه إلى القارئ التائه القلق، أكان غربيّ الأصول أم شرقيّها. ولم أكتب هذه الصفحات دون خشية أن أرتكب في بعض الأحيان اختصارات كيفيّة قد تتعرض للانتقاد من الباحثين المتبحّرين، أو على العكس، أن أنتهي إلى الغموض لشدّة رغبتي في الربط بين الأحداث والأفكار والحقب والمراحل التاريخية والظواهر الاقتصادية والاجتماعية، التي غالباً ما أُهملَتْ أو أُزيلت من الذاكرة لمصلحة غيرها من الأحداث والفصول والظواهر الاقتصادية والاجتماعية. ففي عصر يبرز فيه التخصّص المتنامي في مختلف العلوم والحقول، بالإضافة إلى تجزئة المعارف، يبقى مثل هذا العمل الذي قمتُ به محفوفاً بالمخاطر.
غير أنّني آمل أن يستطيع بحثي هذا الإسهام في إدخال بعض الترتيب إلى تصادم المفردات والمصطلحات المصطخبة، التي تهزّ العالم المُعَولَم الذي نعيش فيه. فالأنواع المختلفة والمتناقضة من الإرهاب الفكري تثير الاضطراب في كوكبنا، وتسمح بازدهار الأشكال المتنوّعة من إرهاب الدولة والإرهاب الذي تضطلع به جماعات عنيفة عبثيّة الطابع، تدّعي تطهير البشرية بشتى الأساليب، انتظاراً لنهاية البشرية بنهاية الألفوية (millenariste)، لا بد أن تذكّرنا بما أمكن له الحدوث في أوروبا، في زمن الحروب الدينية المتوحشة، أو في روسيا بنهاية القرن التاسع عشر. ومع أنّ السياق مختلف بلا شك كلّ الاختلاف، إلا أنّ التعصّب الديني، المقترن بالتوق إلى الكونية، وتوحيد العالم، والتحرر من الأشكال المتنوّعة والمتنامية من تيارات العدمية والعبثية، هي كلّها ماثلة حاضرة في ما نعيشه اليوم عبر عولمة العالم وعجائبها، كما وجوهها المنفّرة ومصطلحاتها المتحجّرة، ولغاتها الخشبية وما تكيل من لعنات، وما تستدعيه هذه الأخيرة من لعنات مضادّة.
وقد حرصتُ في بحثي هذا على الإفادة من كلّ قدرات اللغة الفرنسية، وهي اللغة التي كتبت فيها هذا المؤلَّف، وقدرات اللغة العربية أيضاً في الترجمة، علّني أنتقي بدراية ما تنقله من المفردات والمفاهيم، وهي ليست مترادفات يمكن استعمال الواحدة بدلاً من الأخرى، وهذا ما يحصل للأسف في أيامنا هذه، حيث تستعمل كمترادفات كلمات ومفاهيم لا تحتوي على المعنى نفسه. فدقة اللغة والاستخدام الصحيح للمفردات والمفاهيم يبدوان لي، في الواقع، ضرورة لا بد منها للنجاح في تفسير الإشكاليات التي تسيّر الصلات بين كل من أوروبا والعالم. فالمفردات من طراز الثقافة، الدين، الحضارة، العِرق، الأمة، الشعب الإثنيّة، ليست في الحقيقة مفاهيم مترادفات، لذلك فإن استعمالها من دون دراية يؤدي إلى الكثير من سوء الفهم ذي التأثيرات المقوِّضة والمخرِّبة.
ومن بين هذه المفردات والمصطلحات المتحجّرة المستخدَمة بطريقة استحواذية هُجَاسيّة ومتكررة، نذكر الغرب، والإسلام، والقيم (الآسيوية، والإسلامية، واليهومسيحيّة)، والديموقراطية ودولة القانون، والدكتاتورية والتوتاليتارية، والإرهاب، والمجتمع الدولي، والتبادل الحر، وقوانين السوق. وهي كلّها مصطلحات مجردة حُوّلت إلى شعارات تستخدم بشتى الطرق في معارك الكلمات والمفاهيم المبهمة غير المحددة المعاني، والقابلة بالتالي للتوظيف كأدوات في الشعارات المتناقضة تماماً. وتواكب هذه المعارك الكلامية انتشارات القوة العسكرية، والمزاعم بالرفعة الأخلاقية التي تنسبها إلى نفسها كلّ من الدول وجماعات التأثير التي تحكم العالم وتتسلّط عليه، فتطوّع العقول، وتؤلف الأَنساق التي يُتَفَكَّر بموجبها بكل من السعادة والتقدم ومصير الإنسانية، وما تستثيره هذه الأنساق من نزاعات وتناقضات.
إنّ أشكال الإرهاب المتنوّعة التي تزدهر اليوم في العالم، إنما هي ترجمة للصدوع البركانية المتعددة التي تختلقها في ثقافاتنا، هذه المعاجم الحبلى بالألفاظ المتحجّرة، وتلك المفاهيم الهوجاء التي تستخدم كيفما اتّفق وبطريقة متناقضة. ذلك أنّ وسائل الإعلام الحديثة تدخلها إلى كلّ المساكن في جهات العالم الأربع. والاستعمال اليومي المتكرر والمكثّف والهَوَسي الذي تقْدِم عليه وسائل الإعلام لهذه المفردات والمصطلحات، على وقع نشرات الأخبار المتعددة في اليوم الواحد، والمناظرات السياسية والفكرية التي تستحوذ على أمسياتنا، ينتهي إلى «إفقادنا الوجهة» فنضلّ السبيل. وقد أحسنت الفيلسوفة الألمانية الكبيرة هانّا آرنت تفسير هذه الظاهرة عندما تقول في وصفها لما حصل في أوروبا وأدى إلى الحرب العالمية الثانية: «ليس في هذا الوضع أيّ شيء جديد تماماً. فنحن لسنا إلا معتادين على هذا النوع من التفجّرات الدورية للسّخط المتّقد والانفعالي، الذي يوجَّه ضد العقل والفكر والخطاب العقلاني كردّات فعل طبيعية كما يعرفه الناس عبر تجاربهم الخاصة، لكون الفكر والواقع قد انفصل أحدهما عن الآخر، وإنَّ الواقع أمسى داكناً لا يَنْفُذه نور الفكر، وإنّ الفكر، الذي ما عاد مرتبطاً بالحدث كارتباط الدائرة بنقطتها المركزية، بات مُكرهاً إمّا على التخلّي نهائياً عن معناه، وإمّا على استثارة حقائق قديمة بالية لا ملاءمة فيها» (4).
وخلافاً للتقليد الماركسي المستدام، ولو أنّ الماركسية أضاعت الحيّز الفلسفي والسياسي البارز الذي احتلته خلال الأعوام المئة والخمسين الأخيرة، أي حتى انهيار الاتحاد السوفياتي، فإنّه يسعنا الاعتقاد أن اللغة والثقافة ليستا مجرد نتاج التطور الاقتصادي. صحيح أنّ الفلسفة، والبيئة الثقافية السائدة، والتصنيفات الفكرية، لها كلّها حياة خاصة، ينبغي ـــــ لما يكتنف عليه الأمر من أهمية ـــــ إدراك دوافعها ومحركاتها ودينامياتها. ومما لا شك فيه أنّ للتطور الاقتصادي اللاحق بالمجتمعات، ولوضع العلوم وما تستطيع أن تتحكّم به من تقنيات، وللبيئات الجغرافية، ولـ«الذاكرات» التاريخية، تأثيراً لا يستهان به على الملامح والتجليات المختلفة للثقافة ولأنماط التفكُّر بالعالم، وأنساق إدراكه إدراكاً حسيّاً.
ومن جهتها، تستطيع مصالح القوة الاقتصادية أن تجد لها فائدة في هذه أو تلك من رؤى المجتمع والعالم التي تنسجها الثقافة، فتعمل على تشجيعها بوسائل متنوّعة. ومع ذلك، تبقى حياة الأفكار تتميّز بتعقيد وتنوّع كبيرين في كل مجتمع، أو في التفاعلات الثقافية التي تخضع المجتمعات لها في علاقاتها المتبادلة؛ ولذلك فهي التي تتحكّم في الغالب بكل من الحرب والسلم على نطاق واسع. وينسحب الأمر على الأشكال المتنوعّة للعنف المسمّى إرهاباً، ولا سيما عندما يقوم الأفراد، وقد ازدروا بحياتهم كما بحياة غيرهم، بالهجوم على رموز السلطة كما على التجمّعات المسالِمة للمواطنين.
واليوم، تُستخلَف الأنظمة التوتاليتارية بالإرهاب، وهو «مثل الثغرة في الزمان»، في «مسار توّصله»، و«تدفّقه المستمر»، في «مدّة الانتقال بين الماضي والمستقبل»؛ ولكن أيضاً «مقاومة الماضي كما المستقبل»، وهي كلّها عبارات تصويرية زخرت بها المقدمة القيّمة للغاية التي صدَّرت بها هانّا آرنت مؤلَّفها ذا العنوان «أزمة الثقافة» (5) (La Crise de la culture). والحقيقة أنّ هذا «المسار المتواصل» هو الذي انقطع في القرن العشرين، على يد الأنظمة التوتاليتارية، كما بسبب الحربين العالميتين؛ والحقيقة أيضاً هي أنّ الزمن سيطول قبل أن تُرْدَم الثغرة، لأنّ منبتها ـــــ بناءً على ما سنسعى إلى تبيانه ـــــ إنّما يكمن في صدام ما أنتجته أوروبا القرن التاسع عشر من رؤى متناقضة للعالم.
إنّ هذا الصدام للأفكار الأوروبية قد قلب بداءةً تلك القارة الصغيرة عينها رأساً على عقب؛ لكن الصدوع التي يوجِدها في ثبات العالم واستقراره، أنتجت في كلّ مكان منه موجاتٍ زلزالية طويلة الأمد، لن تُستنفَدْ في المستقبل المنظور. ومَن وقف تحت بركان الأفكار الأوروبية، لا يسهل عليه إدراك وتتبُّع المسار المتعرّج والجوفي لقوّة الأفكار، وللعقبات التي تصطدم بها في تنقّلها عبر العالم. وإذ ذاك، يصبح المسافر المِقدام، حقاً مثل عُوْلِس (Ulysse) (*)، المشدود على الدوام إلى الصوت الفتّان لحوريّات الفكر المختلفة. وقد يستسلم للسحر والفتنة في كلّ من زوايا وخبايا بحر الأفكار الذي يحاول فيه تحديد مساره، فيتوقف ويلقي بالمرساة، مُحجماً عن إعادة الانطلاق مجدداً. وإذ ينكبّ على استيضاح ما لا يعدّ ولا يحصى من الكتب البيانيّة عن الثقافات الأوروبية التي حملها معه، يتنبّه إلى ضرورة أن يتعلّم المزيد ويوسّع من فهمه، لكي يقوى على توجيه مساره بين الآلاف من خبايا ذلك البحر. وفي كثافة الإنتاج الفكري والمعرفي لهذه الثقافات وما تقدمه من إنتاجات في حقول الفلسفة، والتاريخ، والميتافيزيقيا، والشعر، والأدب، والألسنيّة، وعلم الاجتماع، وعلم الشعوب (أي الإثنولوجيا)، وعلم الأناسَة (أي الأنثروبولوجيا) ما قد يثبّط عزيمة المسافر. وعند ذاك، يكبر الخطر الماثل في الاستسلام للواحد أو الآخر من الأنماط الفلسفية، أو للواحدة أو الأخرى من البيئات الثقافية التي تنبثق منها، أي الاستسلام لشدو الحوريات الخلاب، أو الارتماء في أحضان التبحّر المتخصّص، فيفقد المسافر بالتالي القدرة على الرؤية الشاملة.

لا كرهاً لأوروبا ولا هياماً بها

ليس هدفنا في هذه الصفحات التعبير عن الرُّهاب من أوروبا، ولا الدعوة إلى الهيام بها، بل إظهار أنّ المعاني الكائنة في مفهوم الغرب، والقيم التي يقال فيها إنّها مرتبطة به، قد تغيّرت تماماً اليوم عمّا كانت عليه معانيها خلال تاريخ أوروبا. وممّا لا شك فيه أنّنا سنقع، خلال رحلة البحث عن أصول المفهوم ومنابعه، على خيوط قديمة اكتست ألواناً وملامح ومناخات ثقافية في ظروف وبيئات جديدة. ذلك أنّ مفهوم الغرب بات اليوم، أكثر ممّا كان عليه في الماضي، وقت كان يثير النزاعات بين الأوروبيين أنفسهم، مفهوماً خاوياً ليس إلا، مفهوماً جغراسياً على وجه الحصر، لا محتوى حقيقياً له يغني حياة الفكر فيتمكن من بناء مستقبل أفضل. والواقع أنّ الثقافة السياسية الأميركية هي التي تبنّت المفهوم، فأخذته على عاتقها، وراحت تخضعه لاستعمال مكثّف خلال الحرب الباردة، لدرجة ما عادت تبدو معها قادرة على التخلي عنه. أما في أوروبا التي استعادت سكينتها بعد أن شهدت نزاعات مزمنة، فلسفية صوفية وقومية مخيفة، وهي نزاعات كانت قد تمحورت حول هذا المصطلح المشبع بالانفعال فإنّها توظف هذا المفهوم بلذة فائقة بغية تأكيد وظيفته الأسطورية لتأكيد غيريّة من نوع جديد بالنسبة إلى كلّ ما هو واقع خارج الغرب، كما لتعميق ذاك الشعور بالتفوّق الأخلاقي الذي ينبغي لما بقي من العالم التكيُّف معه.
لذلك يمكن الاعتقاد بأنّ حيوية أوروبا مقيّدة بما تقوم به الغربويّة من مبادئ عقيديّة متحجّرة. إذ إنّ أوروبا الثقافة والإبداع والابتكار، أوروبا الفن والحسّ الرفيع، أوروبا الفكر الفلسفي والفضول المقبل على معرفة العالم، أوروبا كما سنحاول أن نقبض عليها ها هنا، لا ترتبط بقرابة حقيقية مع المفهوم الحالي للغرب، الذي أصبح مجرد مفهوم جغراسي موظف في خدمة أهداف القوة التوسعية ومراميها. لهذا السبب، قد يجد بعض القراء ما يوحي بالشعور برفض الغرب، فيما قد يخالها آخرون، ممّن هم خارج الغرب، أنّها كُتِبَتْ بإملاء من الهيام بأوروبا. وسيعود للقارئ الحكم النهائي شرط أن يكون قد حاول معي قراءةً أخرى لتاريخ أوروبا في ديناميتها الداخلية المشتركة، وفي علاقاتها مع العالم في القارات الأربع الأخرى.
فأيّ دورٍ ستؤديه أوروبا في التطوّر المثير للقلق الذي نعيشه اليوم؟ أَسَتَدَعْ المُخيّلة، التي باتت جغراسية حصراً وأضحت تُحيي الولايات المتحدة وتستثير التوترات والضغوط، تبتلعها أم أنّها ستتمكن من سلخ نفسها عنها فتأتي بالهدوء والسكينة، مستقويةً بكلّ ما خاضته من تجارب قديمة؟ إنّ جُلّ ما نأمله هو أن تتمكن هذه الرحلة في ثقافات أوروبا الغنية، وفي الماضي من تاريخها السياسي والعسكري الوافر غزارة وحيوية، من المساعدة على فهم أفضل لآلام العالم الحالي.
ولا بدّ لي في ختام هذه المقدمة، أن ألفت إلى ما أدين به فكرياً للعديد من المباحث المتبحّرة بقلم كُتّاب أوروبيين أو أميركيين متبحّرين مختلفين، التي كان لقراءتها أن واكبت مساريَ الفكريّ الشخصيّ وما كنتُ أطرحه على نفسي خلاله من تساؤلات. فهي أسهمت إسهاماً كبيراً في تغذية فكري النقدي، بل قُل تيقُّظي حيال السرديات الملحمية الكبرى، ذات الطابع التخيُّلي القوي، كما وحيال عبقرية أوروبا و/أو الغرب، وما تدّعيه من عقلانية لا تُقهَر. وفي معرض كتابتي لهذا المؤلَّف وللمؤلفات الأخرى التي سبقته، وقعت فعلاً في هذه المباحث العلمية التي أشرتُ إليها، على مادة وافرة، كانت في الغالب من الأحيان مبعثرة أو مستحضرة بطريقة هامشية في منعرجات شرح مسهب لتاريخ هذا أو ذاك من العصور الأوروبية، أو لفكر هذا الفيلسوف، أو ذاك الروائي العظيم.
وانطلاقاً من هذه المادة، انكبَبْتُ على بناء تاريخ مختلف للقارة الأوروبية، سعيتُ فيه إلى اعتماد مقاربة جديدة للعبقرية الكامنة في الفنون والثقافات الأوروبية التي تمثّل الوجه النَيِّر للقارة، كما وجهها الكامد الداكن. وتجدر الإشارة إلى أنّ الوجه الأخير هو صنعة الانحرافات الفكرية الكبرى التي لا تزال موضع إعجاب ساذج، حتى عندما كان لهذه الانحرافات أن تحضّر، بل قلّ أن تُشَرِّع، تفجّرات العنف الأكثر دموية وبشاعة خلال القرون الأخيرة. وممّا لا شك فيه هو أنّني استخلصتُ في غالب الأحيان من هذه المباحث العلمية اللافتة التي غرفت منها، عناصر استخرجتها من سياقها العام الهادف إلى تأكيد مثالية وجمالية السيرورة الأوروبية الموصوفة في هذه الأعمال، وهي بالتالي سيرورة حرّرت ممّا عَلِق بها من شوائب ليلائم النظرة التخيُّليّة لعبقرية أوروبيّة أو غربية استثنائية، وهي غالباً ما تقوم مقام المبدأ العقيدي المسبق المنظّم لكل هذه المؤلّفات العلمية المتبحّرة. غير أنّني استعنت بهذه المعلومات المتنوّعة التي شكلتها حتى الآن. وإذ اعتمدتُ هذا النهج، آملُ أن أكون قد وفّقتُ إلى إظهار ما يمكن هذه الغزارة في العلوم الإنسانية أن تثمر من خصوبة فكرية جديدة تحرّر نفسها من الغلّ الذي يشدّ على خناقها ويسجنها، وأعني به دوام وجود هذا المبدأ العقيدي المنسّق الذي يقسم العالم إلى غرب، من المفترض به أن يكون متراصّاً ومتجانساً ومتّصفاً بالخصوصية، ومشارق مختلفة اختلافاً جوهرياً عنه.
وآخر المقال رجاءٌ في أن أكون قد وفّقت، ولو جزئياً، في مقصدي هذا، فيتحقّق أملي في الإسهام بفهم أفضل للنزاعات التي تمزّق العالم في مستهلّ هذا القرن الجديد.

الهوامش:
(1) انظر Geores Corm, Orient-Occident. La facture imaginaire (Paris, La Decouverte, 2002) شرق غرب: الشرخ الأسطوري، دار الساقي، بيروت، 2003. وانظر أيضاً La Question religieuse au XXI sicecle. Geopolitique et de la postmodernite, (Paris, La Decouverte 2006)، ولقد صدر الكتاب باللغة العربية، بعنوان: المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين، بيروت، دار الفارابي، الطبعة الأولى، 2007.
(2) المقصود هو المؤلَّف ذو العنوان «ما الذي حصل؟ الإسلام، الغرب والحداثة»:
Que s,est-il passe? L,islam, L,Occident et la modernite. Paris, Gallimard, 2002.
وهو صدر أولاً بالإنكليزية بعنوان:
What Went Wrong? Western Impact and Middle Eastern Response.
(3) انظر كارل ماركس وفريديريك أنجلز في مؤلَّفهما بعنوان في الدين: Sur la religion (Paris, Editions sociales, 1972, p. 30 - 31). علماً أنّ الأقوال المستشهَد بها في المتن هي لماركس (بمعزل عن هيغل)، إذ ظهرت في الأصل عام 1842 في جريدة الراين La Gazette de rhenane، وذلك في معرض ردّه على افتتاحية صدرت في جريدة كولونيا La Gazette de Cologne.
(4) انظر: هانّا آرنْت، أزمة الثقافة Hannah Arendt, La crise de la culture, Gallimard, Paris, 1972, p. 15، علماً بأن النسخة الأصلية صدرت باللغة الإنكليزية عام 1954.
(*) اشتهرت أسطوريّة عولس الذي ترك مدينته حيث كان ملكاً عليها ليجول عبر البحار سنوات طويلة. وقد قام الشاعر اليوناني القديم هوميروس برواية أسفاره بشكل ملحمة شعريّة ذاع صيتها عبر العصور والقارات.
(يوقع جورج قرم كتابه «تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب» يوم السبت في 11 كانون أول الجاري بين الساعة الخامسة والسابعة في جناح دار الفارابي)