حنا البيطار*معارضة انتخاب الضاهر رئيساً للجمهورية

الخطأ الأول في عهد سيدنا البطريرك صفير، كان في تبنّيه معارضة انتخاب النائب مخايل الضاهر رئيساً للجمهورية، صيف 1988، وسماحه بعقد اجتماعات النواب المسيحيين في الصرح البطريركي وتغطيته لمواقفهم الرافضة لما سمّي آنذاك «اتفاق الأسد ـــــ مورفي»، علماً بأنّ معارضة النواب الموارنة لم تكن نابعة من شعور استقلالي بقدر ما كانت مبنيّة على رغبة جامحة لكلّ منهم في الوصول إلى سدة الرئاسة الأولى، فكانت تغطية البطريرك مقدمة لتعثّر انتخاب رئيس للجمهورية ثم إلى تدهور دراماتيكي للوضعين الأمني والسياسي.

مع القوّات ضدّ الجيش

الخطأ الثاني، كان في اتخاذ البطريرك موقفاً مؤيداً، بل متضامناً، مع الدكتور سمير جعجع والقوات اللبنانية بوجه العماد ميشال عون والجيش اللبناني في الحرب التي وقعت بين الطرفين، علماً بأنّ العماد عون كان يمثل وقتها الشرعية الرسمية ببعديها السياسي والأمني، فهو رئيس للحكومة وقائد للجيش. وقد أدّى هذا الخطأ إلى تفاقم الشرخ وتغذية الأحقاد بين المسيحيين المنقسمين أفقياً وعمودياً بين البطريرك وجعجع والقوات من جهة، وبين الجيش وعون والشرعية من جهة أخرى، في صورة بشعة لم يشهد الموارنة مثيلها عبر تاريخهم.

مقاطعة الانتخابات النيابيّة

تمثّل الخطأ الثالث في دعوة المسيحيين إلى مقاطعة الانتخابات النيابية سنة 1992. استجاب المسيحيون، بغالبيتهم، لرغبة البطريرك، ما أدى إلى انسحاب من الحياة السياسية وبالتالي من الدولة ومن مؤسساتها كلها. والأنكى من ذلك أنّ البطريرك الذي قاد مقاطعة الانتخابات، هو نفسه عاد، في اليوم التالي لإجرائها، فأسبغ على النواب «المعيّنين»، «الشرعية الكنسيّة» عبر استقباله إياهم وتهنئتهم وإبقائهم إلى مائدة بكركي.

المعاداة المجّانيّة لسوريا

كان الخطأ الرابع هو معاداة سوريا ورفضه زيارتها وإجراء أي اتصال أو حوار مع قائدها الراحل حافظ الأسد. ففي أواسط التسعينيات، شعر الوزير سليمان فرنجية بأنّ الخلل الكبير الحاصل في التوازنات الداخلية مردّه إلى عاملين. العامل الأول يكمن في إمساك نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام واللواء غازي كنعان ومجموعتهما بالملف اللبناني بقوة وإحكام، وبناء شبكة مصالح مادية وسياسية. شبكة اقتضت تغييب المسيحيين الذين غيّبوا أنفسهم أصلاً، عن القرار الوطني بأبعاده السياسية والإدارية والقضائية والأمنية والاقتصادية كلها.
أما العامل الثاني، فمردّه إلى الاستعداء المجاني من جانب الرموز المسيحية السياسية والدينية لسوريا ولنظام حافظ الأسد. وإذا كان قد تعذّر على الوزير فرنجية، وقتذاك، أن يمدّ جسور التواصل بين النظام السوري الأسدي وبين الرموز السياسية المسيحية، وتحديداً العماد عون، فقد وجد في الرمز الديني، أي في غبطة البطريرك، المرجعية المناسبة والموقع الأصلح والأفضل لتخفيف حدّة العداء وفك الحصار عن المسيحيين تمهيداً لعودتهم إلى الدولة بقوة عبر مشاركتهم في صياغة القرارات الوطنية.
عرض الوزير فرنجية مشروعه هذا على البطريرك صفير ملتمساً تفهّم أهدافه والموافقة على فتح باب الحوار مع النظام السوري ومع الرئيس حافظ الأسد شخصياً، لما فيه مصلحة لبنان والمسيحيين، وخصوصاً أنّ فرنجية كان قد لمس من الرئيس الأسد تجاوباً وترحيباً واستعداداً لفتح أبواب سوريا وقصر المهاجرين لبطريرك أنطاكية وسائر المشرق، وتلبية مطالبه «لأنّ مطالب البطريرك لا بد أنها محقّة».
عبثاً حاول سليمان فرنجية وميشال سماحة إقناع البطريرك، فبعد أن وافق عاد ورفض من دون أي مبرر منطقي أو سبب معقول.

عدم ملاقاة بشّار الأسد في منتصف الطريق

تمثل الخطأ الخامس في عدم ملاقاة الرئيس بشار الأسد في منتصف الطريق الذي مشَاه باتجاه تصويب العلاقة مع لبنان وتصحيح الأخطاء الجسيمة والخطايا المميتة التي ارتكبها خدام وكنعان طوال الفترة التي سبقت تولّيه زمام السلطة في سوريا. نذكر وتذكرون يا صاحب النيافة أنّ الرئيس بشار الأسد تطرّق في خطاب قَسَمه، ربيع سنة 2000، إلى الشأن اللبناني معترفاً «بأنّ أخطاء جسيمة ارتكبها السوريون في لبنان، وبأنّ تنظيم العلاقات بين البلدين الشقيقين وتحسينها يتطلّبان تضحيات كبيرة وإجراءات جذرية». وبدلاً من ملاقاة الرئيس السوري الشاب إلى منتصف الطريق ومدّ يد التعاون معه لتحقيق ما نصبو إليه، أصدر مجلس المطارنة الموارنة نداءه الشهير في أيلول 2000، مطلقاً رصاصة الرحمة على مبادرة الرئيس الأسد. وأسس النداء لقرارات دولية جائرة أهمها وأخطرها على استقرار لبنان وسيادته القرار 1559 الذي جلب الويلات والمصائب بدءاً من اغتيال الرئيس رفيق الحريري مروراً بحرب إسرائيل سنة 2006 وليس انتهاءً بما يُعدّ لنا من حروب وفتن مذهبية. ألم يكن من الأفضل، أيها السادة المطارنة، التفاهم مع الرئيس السوري الذي أبدى رغبة صريحة وصادقة في خطاب القسم، بالانسحاب المبرمج التدريجي لجيشه من لبنان وخصوصاً أنّه كان قد أمر بهذا الانسحاب على عشر مراحل نفّذ منها خمساً قبل بيانكم الشهير؟

رفض المشاركة في استقبال قداسة البابا

أما الخطأ السادس، فكان في رفض البطريرك السفر إلى سوريا للمشاركة في استقبال البابا يوحنا بولس الثاني بالرغم من إلحاح الإدارة البابوية والكرادلة المعنيين بالزيارة وبأوضاع المسيحيين في المشرق العربي. فباءت بالفشل محاولات إقناعه بجدوى حضوره على رأس وفد المستقبلين بصفته الدينية الرفيعة بل الأرفع في أنطاكيا وسائر المشرق وانعكاس هذا الحضور، المطلوب فاتيكانياً والمرحّب به سورياً، إيجاباً على أوضاع المسيحيين في لبنان وفي سوريا وفي العالم العربي. ألا يستحق الموارنة والمذاهب المسيحية الأخرى في سوريا، وهم أكثر عدداً من المسيحيين اللبنانيين، التفاتة ورعاية البطريرك لشؤونهم وشجونهم الدينية والاجتماعية والاقتصادية؟ وكيف السبيل إلى هاتين الالتفاتة والرعاية وغبطته يناصب رئاسة البلاد وقيادتها ونظامها العداء؟

تبنّي القرار 1559

كان الخطأ السابع تبنّي غبطته للقرار 1559 ومناصرة قوى لبنانية بوجه قوى لبنانية أخرى. ومعلوم أنّ لهذا القرار خلفيات وأهدافاً مدمّرة للبنان وللمنطقة بأسرها، تبدأ بضرب المقاومة وحزب الله ومحاصرة سوريا وإسقاط نظامها وسحق المقاومات العربية الأخرى وتنتهي بولادة الشرق الأوسط الجديد، أي الدويلات المذهبية والعرقية المتناحرة والضعيفة والمهيمَن عليها إسرائيلياً.
هل يتوافق هذا مع مصلحة المسيحيين اللبنانيين أو المسيحيين المنتمين إلى البلدان العربية الأخرى؟ ألا ينبغي أن يستفيق بعضنا من غيبوبته ويتعلّم من مآسي المسيحيين في العراق بسبب مشاريع الصهاينة الجدد أو المسيحيين المتصهينين واندفاعهم إلى إقامة عراق سني وعراق شيعي وعراق كردي على حساب وحدة العراق والوجود المسيحي التاريخي فيه؟

التحيّز إلى فريق 14 آذار

تمثل الخطأ الثامن في تحيّز غبطته إلى جانب فريق مسيحي ماروني في الانتخابات النيابية الأخيرة مقابل فريق مسيحي ماروني آخر. فبعد أن قرر مجلس المطارنة حياد الكنيسة في العملية الانتخابية، خرج البطريرك عن هذا القرار في ظلمة الليلة الأخيرة ما قبل الانتخاب ليصدر بياناً انتخابياً منحازاً دعا فيه الناس إلى انتخاب مرشحي 14 آذار محذراً إيّاهم من مغبّة وخطورة تأييد مرشحي المعارضة المسيحية. واستخدم أساليب دعائية ما كان يجب أن تُنسَب إلى سيّد بكركي (ولاية الفقيه، قلب النظام، المثالثة، إلزام المرأة بالحجاب...). هذا التحيّز الأعمى لاقى استهجاناً عارماً ونفوراً بغيضاً من الوسط المسيحي، بغالبيته، بوجه البطريرك، وزاد في التباعد والجفاء ليس بين القيادات المسيحية المعارضة والبطريرك فحسب، إنما أيضاً بين عموم الناس وبطريركهم.

معاداة حزب اللّه

أما الخطأ التاسع، فهو في اتخاذ غبطته المواقف العدائية الحادة ضد حزب الله واتهام هذا الحزب، بما يمثّل من شريحة لبنانية شيعية كبيرة، بأنّه يسعى إلى تسلّم السلطة في لبنان، مصوّراً إيّاه بأنّه المسبّب للكثير من الأزمات والمشاكل والحروب. ولم يكتف البطريرك بتوجيه هذا الاتهام الخطير من بكركي، بل حمل هذا القرار الاتهامي إلى أقاصي المعمورة حيث نطق به في أميركا والبرازيل وأوستراليا وقطر وروما وأخيراً في فرنسا.

بعدما قرر مجلس المطارنة حياد الكنيسة في العملية الانتخابية، خرج البطريرك عن القرار في الليلة الأخيرة

لم يجد في حزب الله أيّة فضيلة أو مأثرة أو نافعة. لم يرَ شهادة أبنائه واستبسالهم في تحرير الأرض وتحرير الإنسان من رجس الصهيونية واستكبارها واستغلالها لخيرات أرضنا وسعيها الدائم لضربنا. غفل غبطته أو تغافل عن واقعة أنّ حزب الله لم يشارك في السلطة التي انبثقت بعد اتفاق الطائف ولم يهمّش المسيحيين ولم يهجّرهم ولم يقهرهم في أي من المحطات الساخنة والمصيرية في حياتهم اليومية.
فهل مصلحة المسيحيين في أن تتقاطع أقوال غبطته عن حزب الله والمقاومة مع مزاعم المحافظين الجدد وصهاينة البيت الأبيض؟ ومَن أقرب إلى قلوب المسيحيين وضمائرهم: الذين قصفوا منازل اللبنانيين بطائرات بوش ورايس وأوباما وحوّلوا أطفالنا إلى كتل رماد وأشلاء أم أولئك الأبطال الذين حرروا الأرض ويذودون عنها وعن سيادة الوطن؟

عدم الإضاءة على عدوانيّة إسرائيل

الخطأ العاشر، بل الخطيئة، هي في عدم المجاهرة بالعداء لإسرائيل. لم نسمع غبطته مرّة يصف دولة إسرائيل بالدولة العدوّة أو المغتصبة، ولم يندد مرة بجرائمها ووحشيتها وخطرها على السلام في الشرق الأوسط. لم يتحدث مرة عن خطر الصهيونية على المسيحية وعن خطر المشروع الإسرائيلي على المسيحيين في الشرق، ولم يتطرق مرة إلى الممارسات الوحشية للسلطة العبرية بحق المسيحيين الفلسطينيين في بيت لحم والناصرة والقدس وغيرها. ولم يُشِر إلى الترحيل المنظّم لمسيحيّي القدس إلى أميركا الذي دبّرته ونظّمته إسرائيل. كل هذه الممارسات العدوانية بحق الشعب المسيحي الفلسطيني والمشرقي لم ينتبه لها غبطته ولم يُعِرها انتباهاً، بل صبّ جل اهتمامه في وصف إسرائيل بالجارة في معرض شرحه لأهمية علاقة لبنان بجيرانه قاصداً سوريا وإسرائيل ومساوياً في ما بينهما بالنسبة إلى لبنان.
يا صاحب النيافة، ماذا يعني أن تجمع في بكركي، تحت عباءتك فريقاً مسيحياً، هو الفريق المسمّى 14 آذار، بمواجهة فريق مسيحي آخر يضمّ قوى كبيرة ومؤثرة ونخباً معروفة في الطائفة ووازنة في الوطن؟ هل تخدم في هذا الانحياز الأعمى وحدة الطائفة ومصلحتها، أم أنك تزيد من حدّة الشرخ والانقسام فيها؟
لقد هجر الموارنة بكركي. أعِدْهُم إليها بالحكمة، وبالرويّة، وبالاتّزان وبعدم التحيّز، واطرد من صرحك أولئك الذين أخذوا الطائفة إلى الأمكنة الخطرة وجعلوها رهينة في مؤامرة اختطاف الوطن... وإلا، نصارحك، ونجاهر بما يردده الناس همساً: لقد حان وقت الاستقالة.
* محام لبناني