سليم نزال*لا يمكن مراقب أوضاع المنطقة العربية إلّا أن يتوقف أمام حدثين يملكان رمزية تشير بوضوح الى مؤشرات التكوّن الجديد للشرق الأوسط. الحدث الأول كان زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان المناطق المنكوبة بالفيضانات فى باكستان، والحدث الثاني كان زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد الجنوب اللبناني.
أهمية الحدثين أنّهما يؤشران الى الدور المتعاظم لهاتين القوتين في الشرق الأوسط، وهو أمر طرح مرات عدّة في الإعلام العربي، وخاصةً فى الفترة الأخيرة. ربط المراقبون العرب ما بين الضعف العربي والصعود التركي والإيراني، ورأوا أنّ ذلك الأمر لم يكن ممكناً أصلاً لو كان هناك دور عربي فاعل. وهناك من بين الآراء، من يربط ما بين ضعف فكرة القومية العربية كإيديولوجيا سادت المنطقة في ما بات يُعرف بالمرحلة الناصرية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وما بين تصاعد الفكرة الإسلامية المنتشرة بقوة في الوقت الحاضر. الأمر الذي يفسح المجال، وفق هذا التحليل لبروز قوى إقليمية إسلامية. وهذا الأمر ليس جديداً على المنطقة العربية، التي حكمتها حوالى ألف عام دول إسلامية، غير عربية، مثل السلاجقة والمماليك والبويهيّين والعثمانيين.
ولعل هذا الرأي يعتمد على نظرية ملء الفراغ نتيجة غياب قوى عربية أساسية قادرة على الإمساك بالوضع العربي. لقد عانت المنطقة ولا تزال انقسامات وتفتّتاً واحتقاناً وتوتراً وفوضى غير خلّاقة باتت تهدد نسيج المجتمعات العربية. وهو أمر نلحظه فى العديد من البلدان مثل العراق واليمن والسودان، حتى إنّه بدأ يبرز في مجتمعات عربية كانت ربما الأكثر تماسكاً، مثل مصر.
قد تجيب هذه التفسيرات جزئياً أو كلياً عن هذا الموضوع، لكن من المؤكد أنّ ذلك لم يكن ممكناً لولا وجود مشروع طموح لهاتين الدولتين، الأمر الذى سمح لهما بأداء دور متطور على صعيد المنطقة. إيران التي خرجت منهكة من حرب الثماني سنوات مع العراق، بدأت بخطط طموحة في التنمية، أضف الى ذلك سياستها الداعمة لقوى المقاومة فى كلّ من سوريا ولبنان وفلسطين، ما أعطاها موطئ قدم على المتوسط.
وأعادت تركيا صياغة دورها عبر رؤية سياسيّة جديدة، وخاصةً بعد وصول ما بات يعرف بـ«العثمانيين الجدد» الى الحكم. وبرزت كقوة اقتصادية كبيرة، الأمر الذي بات يترجم سياسياً عبر دور تركي نشط ومتعاظم فى المنطقة، وبمواقف تركية متنامية ضد إسرائيل.
وبغضّ النظر عن مدى مطابقة هذه التفسيرات لحقيقة الأمور، فإنّ المراقب العادي يرى بوضوح الحركة الدؤوبة والمثابرة لهاتين الدولتين. حركة يعبّر عنها بحجم التحركات والزيارات، وكذلك الاتفاقات التي تعقدها قيادتا البلدين، كلّ حسب رؤياها ومصالحها ونوع أصدقائها، مع العديد من الدول القريبة والبعيدة. اتفاقات تصب كما يبدو فى تقوية البلدين وتعظيم دوريهما فى المنطقة.
لا شك أن هناك فوارق ما بين المشروع الإيراني والتركي. يثير المشروع الإيراني على المستوى الرسمي العربي لا الشعبي، القلق بسبب اعتباره مشروعاً ايديولوجياً ثورياً، يصطدم بهذا القدر أو ذاك مع القوى العربية المحافظة. كما يصطدم بمعارضة غربية، وخاصةً أميركية، وبتحريض صهيوني شبه يومي، وتحديداً في ما يتعلق بالقدرات النووية الإيرانية التي تنظر اليها إسرائيل بمنظار القلق.
على العكس، ينظر إلى المشروع التركي باطمئنان أكبر، أقلّه على المستوى الرسمي العربي، ويلاقى بترحيب شعبي باعتباره عودة تركية إلى محيطها الطبيعي. ويرى العديد من المراقبين أنّ المشروع بات حاجة تركية ملحّة بعد الإحباطات التي أصابت أنقرة إثر قبول مالطا في السوق الأوروبية المشتركة ورفضها هي، رغم أنّها كانت من أولى الدول المتقدمة لعضوية هذا النادي. كما أنّه من الواضح أنّ الدور التركي المتعاظم بات مصدر قلق واضحاً لإسرئيل، جرى التعبير عنه في العديد من المقالات في إسرائيل وأميركا. وكان التعبير الأكبر عن هذا القلق إهانة السفير التركي في إسرائيل، ومجزرة سفينة مرمرة، التي قتلت فيها القوات الصهيونية تسعة مواطنين أتراك. خلّف ذلك ردود فعل قوية في تركيا، التي عدّته أول اعتداء أجنبي عليها منذ الحرب العالمية الأولى.
وبغض النظر عن اختلاف الرؤى التركية والإيرانية، من الملاحظ أنّ كلا البلدين يؤدّي دوراً في القضية الفلسطينية. واقع يؤكد

أكدت أحداث المرحلة الماضية عدم قدرة دولة عربية واحدة على قيادة النهوض القومي
بصورة واضحة أنّ الانكفاء الرسمي العربي عن هذا الموضوع أسهم في الإضرار بالقضية الفلسطينية، وأضعف دور بل وشرعية هذه الدول. ولعل المثال المصري هو الأكثر بروزاً فى هذا الصدد. فالانكفاء المصري الذي بدأه الرئيس السابق أنور السادات، وتمثّل في إخراج مصر من الصراع مع اسرائيل وصل إلى مرحلة المساهمة فى حصار غزة، وأدى مع عوامل أخرى الى ضعف مصري
واضح.
وتتعدى أهمية الدور العربي في المسألة الفلسطينية مسألة التضامن مع الشعب الفلسطيني، لتتعلق برؤى قادة المنطقة لمستقبلها، وخاصةً على ضوء وجود دولة صهيونية فاشية باتت تمثّل خطراً لا يمكن تجاهله على الجميع. وحتى إذا لم يكن هناك دولة صهيونية، فمن غير المعقول أن يبقى الوضع العربي على هذه الحال، في ظل تحديات خطيرة تواجه المنطقة العربية بسبب التغيرات المناخية وأزمة المياه، مع ما يصاحب ذلك من أخطار حقيقية تهدد الجميع.
لقد أكدت أحداث المرحلة الماضية عدم قدرة دولة عربية واحدة على قيادة النهوض القومي. ولعل المثلث المصري ـــــ السوري ـــــ السعودي الذي كانت ثماره الأقوى فى حرب 1973، هو المثال الأبرز على قدرة الدول العربية الأساسية على صياغة مستقبل المنطقة. أما في الوقت الحاضر، فمن الواضح غياب مشروع عربي موحد للنهوض، وهذا له أسبابه الكثيرة التى لا يمكن لمقال واحد تفسيرها.
وإذا كان العرب غير قادرين فى الوقت الحاضر على أداء دور أساسي لصناعة مستقبل المنطقة، فعلى الأقل بات مطلوباً التعاون مع ايران وتركيا بروح إيجابية. فالتعاون الإيجابي معهما، سيعيد تدريجياً إلى العرب دورهم في صناعة مستقبلهم، وسيضعف مشاريع التفتيت التى تسعى اليها إسرائيل، وتستهدف بها المنطقة العربية.
* مؤرخ فلسطيني