محمد طي*حتى الأمس القريب، كان يخيّل للناس أنّ قرارات مجلس الأمن، وخصوصاً المتخذة تحت الفصل السابع، هي قدر لا فكاك منه. فهي ملزمة للدول التي لا تملك إزاءها حولاً ولا قوة، وهي تعطي الحق بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول، دون التقيد بأيّ قيود، ولا حتى قيود المادة 2/7 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تنص على أنّ «أيّ حكم من أحكام هذا الميثاق، لا يخوّل الأمم المتحدة التدخّل في الشؤون العائدة أساساً إلى الصلاحية الوطنية». إلا أنّ الفقرة نفسها تستثني تدخل مجلس الأمن تحت الفصل السابع، فتقول «إلا أنّ هذا المبدأ لا يمكن أن يؤثر في تطبيق التدابير القضائية الملحوظة في الفصل السابع».
يضاف ذلك إلى صلاحيات التقدير التي يستقل بها المجلس فـ«يلاحظ وجود تهديد للسلام ....» (م 39) ويقدّر أنّ التدابير الملحوظة في المادة 41 (تدابير غير عسكرية) غير ملائمة.
لطالما تذرع مجلس الأمن بهذه الملاحظة والتقدير ليتدخل، حتى عسكرياً، في بقاع عديدة من العالم. وقد تمادى مجلس الأمن في الاعتداء على الحقوق الأساسية للإنسان وعلى حقوق الشعوب، ولا سيّما المستضعفة منها، تنفيذاً لسياسات الدول الكبرى، دون أن توقف أعماله هذه أيّ روادع أخلاقية، فضلاً عن تلك القانونية.
إلا أنّ الأمر بدأ يتغيّر منذ مدة، فلم تعد تطبيقات قرارات مجلس الأمن الدولي، بما فيها تلك المتخذة تحت الفصل السابع، محصّنة ضد المراجعة القضائية. على سبيل المثال، اتخذ مجلس الاتحاد الأوروبي تنفيذاً لطلب مجلس الأمن قرارات «يوسف» و«القاضي» (3 أيلول 2008) و«حسان» و«عبادي» (13 آذار 2009) جمّد بموجبها الأموال العائدة لمؤسسات يملكها هؤلاء الأشخاص، وقرّر منعهم من السفر، دون أن يستمع إلى دفاعهم عن أنفسهم. وإثر ذلك، تصدت «محكمة عدل الاتحاد الأوروبي» لتطبيقات قرارات مجلس الأمن في الاتحاد الأوروبي وأبطلتها. فمجلس الأمن، ألّف مفوضية لملاحقة من يعدّهم مرتبطين بأسامة بن لادن وحركة طالبان وتنظيم القاعدة ودوّن أسماءهم في اللائحة السوداء وجمد أموالهم. كما فرض بالقرارات: 1267 (عام 1999)، 1333 (عام 2000), 1390 (عام 2002)، 1455 (عام 2003)، 1526 (عام 2004)، 1617 (عام 2005)، 1735 (عام 2006)، و1822 (عام 2008)، وكلّها تحت الفصل السابع, على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة التنفيذ.
واتخذ «مجلس الاتحاد الأوروبي»، قرارات خاصة به تنفيذاً لقرارات مجلس الأمن المذكورة، منها القرار 881/ 2002 بخصوص يوسف والقاضي، والقرار 2062/2001 بخصوص الآخرين. فجمّد أموالهم ومنعهم من السفر. راجع هؤلاء المحاكم الخاصة بالاتحاد الأوروبي، وانتهى المطاف بإلغاء قرارات مجلس الاتحاد الأوروبي المتخذة تطبيقاً لقرارات مجلس الأمن، طبعاً دون إلغاء قرارات مجلس الأمن. وكانت الحجة أنّ هذه القرارات تخرق الحقوق الأساسية للإنسان، وهي: الحق بالدفاع، أن يستمع إلى المتهم قبل تقرير العقوبة، حق الانتقال، حق الذهاب والإياب، وحق الملكية.
وأكّد القرار بخصوص قضية «يوسف» أولوية مبادئ القانون الأوروبي الأساسية على قرارات مجلس الأمن، كما أكّد صلاحية المراجعة القضائية ضد هذه القرارات. وجاء في قرار «حسان» أنّ القرارات المطعون بها (تجميد الأموال... إلخ) تعتمد على الأساس نفسه الذي اعتمد عليه قرار «يوسف» و«القاضي»، لذلك يجب إلغاؤها.
كما أنّ حقوق الدفاع لم تُحترم، وخاصةً الحق بأن يُستمع للمتهم، والحق في أن ينظر في قضيته قضاء فعال يحترم هذه الحقوق، وكذلك الحق الأساسي بالملكية، وهي تفرض نفسها في هذه الدعوى. لذلك قررت المحكمة إلغاء تدابير المجلس الأوروبي تطبيقاً لقرارات مجلس الأمن، الذي يجمّد أموال حسان عبادي. كما أكدت المحكمة أنّ اعتماد الحصانة (لدى المنظّمات الدولية)، «يجب أن يتناسب مع الهدف الذي تسعى إليه»، لا أن تعبث بمصائر الشعوب.
ثم إنّ حصانة المنظمات الدولية (ضد أي مراجعة قضائية) تقوم على قواعد اتفاقية بين الدول الأعضاء، والعقد شريعة المتعاقدين.
ولم يقتصر الأمر على محاكم الاتحاد الأوروبي، بل تعدّاه إلى المحاكم الوطنية، فقد كانت محكمة اللوكسمبورغ قد قبلت المراجعة حول تدابير أوروبية وضعت موضع التنفيذ عقوبات أقرّها مجلس الأمن وذلك في قضية Bosphorus في 17 تموز 1996.
والى هذا، قالت المدعية العامّة لدى «محكمة عدل الاتحاد الأوروبي»، اليانور شاربستون، إنّّ على «المجلس الأوروبي لحقوق الإنسان» أن يتبنى المعاهدة المرجعية (التي وضعها الاتحاد الأوروبي) للحفاظ على حقوق الإنسان، كما يمكن المحكمة أن تستند إلى معاهدات دولية أخرى. وأضافت إنّ «المحكمة تذكّر بشكل واسع بأنّ الحقوق الأساسية تمثّل جزءاً لا يتجزأ من المبادئ العامة للقانون، التي تؤمّن المحكمة احترامها». وأكّدت أهمية «العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية» (الذي ينص في المادة الأولى على حق الشعوب في تقرير مصيرها، وتحديد مركزها السياسي وتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي) في مجال الحفاظ على حقوق الإنسان.
إنّ هذا الاجتهاد يفتح الباب أمام المحاكم الجديّة للنظر في التدابير المتخذة تطبيقاً لقرارات مجلس الأمن، والمخالفة للحقوق التي تضمنها القواعد الآمرة في القانون الدولي. وهناك أنواع عدّة من هذه القواعد:
* منها الآمرة (jus cogens)، وهي تسمو على سائر القواعد وتعطى الأولوية عليها، فتلغي العادية عندما تتناقض مع الآمرة. وهنا يمكن طرح حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، وحقّها بعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
* ومنها العادية التي يمكن أن تزاحمها قواعد عادية فتكون اللاحقة معدّلة للسابقة.
وبخصوص المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، يمكننا إثارة كلّ المخالفات منذ تأسيسها وحتى مخالفات المدعي العام القائمة اليوم، ونؤكد أنّ المدعي العام لدى هذه المحكمة، مع تحفّظنا على قانونية تأسيسها، قد انحرف عن المهمة القضائية الحيادية. فهو يسرّب الاتهامات ومحتويات ما يسمّى القرار الاتهامي، ويتشاور مع الحكومات وأجهزة الاستخبارات الدولية، وخاصّة الأميركية، في ما يمكن عمله. كما أنّه يغفل الكثير من إمكانات التحقيق، ولا سيما في ما خص العدوّ الصهيوني، رغم القرائن التي طرحت أمامه.

لم تعد تطبيقات قرارات مجلس الأمن الدولي، بما فيها تلك المتخذة تحت الفصل السابع، محصّنة ضد المراجعة القضائية

لهذا يمكن الحكومة اللبنانية أن تعلن وقف تعاملها مع المحكمة، وأن تسحب اعترافها بها، وتراسل الأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن بهذا الخصوص، أو على الأقل تصويب المسار ليجري تصحيح الأخطاء المذكورة. وطبعاً ستكون هناك معركة قانونية، وحتى إذا خسرناها، فلن يستطيع مجلس الأمن أن ينفّذ ما يريد على أرضنا.
في نهاية المطاف، يمكن التمرّد على قرارات مجلس الأمن وما يسمى «الشرعية الدولية»، كما جرى في الكثير من الحالات، ولا سيّما عندما كانت المنظّمات الدولية تنفّذ مشيئة الدول الكبرى. نذكر على سبيل المثال، إدراج عصبة الأمم وعد بلفور في صك الانتداب على فلسطين، وغير ذلك من القرارات، وآخرها تصديق مجلس الأمن على الاحتلال الأميركي للعراق.
لهذا فإنّنا نطالب القضاء اللبناني بأن يتصدى للقرارات التي تتناقض مع سيادة لبنان، وكذلك التطبيقات المطلوبة منه، إنفاذاً للاتفاقات والأنظمة المعقودة مع أجهزة المحكمة، التي انحرفت عن مسارها، كمذكّرة التفاهم مثلاً، وكل قرار تتخذه هيئة إدارية أو عسكرية إنفاذاً لأوامر هذه المحكمة.
كما نطالب الحكومة بأن تبلغ مجلس الأمن بالمخالفات المسجّلة على تصرفات المدعي العام، ولا سيّما التي ظهرت في وثائق ويكيليكس، وتطالب بإقالته، وبإلغاء المحكمة، أو على الأقل تصحيح مسارها.
* أستاذ جامعي