التصعيد!
وكالعادة تتحوّل الأدوار ويتداول أطراف أساسيون مواقف وتوجّهات كانوا يرفضونها من قبل. الذهاب إلى التصويت مثلاً، كان شعارًا يرفعه في مرحلة سابقة (ما قبل اتفاق الدوحة في أيار عام 2008) فريق الأكثرية النيابية آنذاك، المتكتل في تحالف 14 آذار. أما اليوم، بعد التحوّلات والمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، فقد انتقلت المناداة بالتصويت لحسم الأمور، إلى فريق المعارضة السابقة! ويمكن أن نستعيد بين الأمس واليوم المبررات والاعتراضات نفسها: في المقلب الأوّل التذكير بأنّ الدستور ومعه الميثاق والتقاليد، يقول بالتوافق، فإذا تعذّر فبالانتخاب. وفي المقلب الثاني، تذكير بأنّ ديموقراطيتنا «توافقية»، وأنّه في الأمور المصيرية والحساسة، لا ينبغي تغليب الشكل على المضمون، لأنّ من شأن ذلك أن يهدّد التوافق أو التوازن «الوطني»...
هذا في الشكل. لكنْ للشكل عندنا شكلٌ آخر! ذلك أنّ الأمر يتخطّى مجرّد تبادل أو تداول استخدام تكتيك سياسي ما، عندما تتبدّل الظروف والمعطيات والتوازنات.
إنّ الشكل عندنا هو على صلة وثيقة بواقع عجزنا المتمادي والمتفاقم عن إقامة دولة وقانون وحكم ومؤسسات. ولذلك لا يندر أن يطيح طرف من أطراف الصراع الدستور والقانون والأعراف والتقاليد جميعًا في مجرى تمسّكه برأي أو دفاعه عن موقفه، أو في مجرى رفض هذين عندما يتعلق الأمر بالمجابهة والصراع مع الفريق الخصم. والخطير في هذا «التقليد» اللبناني، هو ما ينجم عن ذلك من زيادة عوامل الانقسام والشرذمة. وكذلك ما يؤدّي إليه من تعطيل دور وعمل المؤسسات الشرعية التي تُدَّخَر عادةً لأوقات «الحشْرة»، فإذا بها آنذاك قد تعطّلت، وتحوّلت إلى مؤسسات خالية وعاجزة، إلى أن يأتي الفرج من الخارج، وغالبًا، بعد فوات الأوان!
سيتغيّر الطرف الخارجي الأكثر تأثيرًا في تقرير شؤوننا دون أن يتغيّر مبدأ عجزنا عن إدارة شؤوننا بأنفسنا
الافتقار إلى كلّ ذلك هو الوجه الآخر، بل هو النتيجة الطبيعية للتمسّك بالنظام السياسي الطائفي الراهن، ومقاومة كلّ محاولة لتغييره وإصلاحه ولو بطريقة محدودة.
ينجم عن الأمر استعصاء الأزمات وتوسّعها وتعمّقها، كما ينجم عنه تفاقم الدور الخارجي في حياة البلاد. وينجم عن ذلك بالتداعي، استرهان البلاد في جزء أساسي وحساس من مقوّمات سيادتها وإدارة شؤونها ومعالجة شجونها العامة والداخلية بالتأكيد.
وليس من العبقرية في شيء اليوم، توقّع تحوّلات كثيرة على مستوى توازنات السلطة وما يتصل بها. سيحصل ذلك طوعًا (سلمًا) أو كرهًا (بالضغط المتنوّع) وسيكرّر ذلك مشاهد ومراحل سابقة من تحوّل الغلبة من فريق إلى فريق. وسيكون ذلك اليوم، كما كان بالأمس، ثمرة تحوّلات في الصراعات الدولية والإقليمية والمحلية. لكنّ المعادلة ستبقى هي نفسها: سيتغيّر الطرف الخارجي الأكثر تأثيرًا في تقرير شؤوننا، دون أن يتغيّر مبدأ عجزنا عن إدارة شؤوننا بأنفسنا. بكلام أكثر حدّة ومع الاعتذار (ربما غير الضروري) من دعاة السيادة والاستقلال، سيتغيّر الوصي وتستمر الوصاية التي تفرض دائمًا على القُصَّر أو العاجزين أو الفاشلين!
لا ينبغي أن يثير هذا الكلام حساسية البعض لجهة مساواة الشقيق بالغريب والعدو بالصديق. إنّ الانخراط في الصراع، وفي الخندق الصحيح منه، ليس محكومًا بالضرورة بالتمسّك بنظام علاقاتنا الراهن. لا بل إنّ هذا النظام قد أصبح عقبة أمام انخراط أكثر تأثيرًا واتساعًا. بل بات أيضًا عنصر تهديد لإنجازات اللبنانيين، وخصوصًا في حقل المقاومة والتحرير ومقاومة العدو وداعميه والمتواطئين معه.
ومع ذلك لا يجوز الاكتفاء بهذا القدر من التوصيف الصحيح رغم ما ينطوي عليه تكراره من إثارة الملل بالنسبة إلى البعض، ومن انزعاج أو استفزاز، بالنسبة إلى البعض الآخر. وعدم جواز ذلك لا ينجم عن عامل استنسابي يدخل في باب الأخلاق أو العلاقات العامة والدبلوماسية. فلقد تدهور الوضع اللبناني إلى ما ينذر بتداعيات شديدة الخطورة. من ذلك مثلاً، إلى احتمالات الفتنة والاحتراب والتقاتل، الاندفاع نحو الانقسام أو التقسيم تحت غطاء الفدرالية أو سواها. ويزيد من مخاطر هذا الأمر، أنّ أصحاب مشاريع الهيمنة على المنطقة بوسائل الاغتصاب والاحتلال والغزو، يتوسّلون في مقدّمة أدواتهم وأساليبهم أيضًا، إثارة الانقسامات الإثنية والمذهبية والطائفية والقومية بين شعوب المنطقة لدفعها إلى الانهماك في الصراع الداخلي، ولتسهيل الانقضاض عليها وعلى ثرواتها وموقعها ومصالحها وسيادتها وأرضها...
في مجرى ذلك، ألم يحن الوقت بعد، لإسقاط سلاح التفتيت من يد قوى الهيمنة الاستعمارية والصهيونية؟ طبيعي أنّ هذا السؤال مطروح بالدرجة الأولى، على الأطراف التي تواجه قوى الهيمنة المذكورة. فهذه القوى المعارضة و«الممانعة» والمقاومة، مدعوّة إلى امتلاك مشروع تحرّري ذي أبعاد سياسية وقومية وإنسانية واقتصادية واجتماعية... إنّ الحدّ الأدنى من مقوّمات هذا المشروع والمتمثّل في امتلاك توجّه غير عنصري وغير فئوي وغير طائفي، هو الخطوة ذات الأوّلوية الحاسمة في المرحلة الراهنة. فمن شأن تلك الخطوة إخماد ما يثيره العدو من فتن داخلية، ومن ثمّ الانطلاق من ضمن استراتيجية تترسّخ تدريجيًا، باتجاه بناء عناصر مشروعنا التحرّري في المرحلة الراهنة من صراعنا من أجل البقاء، مقرونًا بصراع لا يقلّ ضراوةً من أجل تحرير أوطاننا من العدوان ومن النهب ومن الاغتصاب ومن الاستباحة والاسترهان!
من دون ذلك سيستمرّ مشروع الهيمنة والعدوان بأكثر الأساليب همجية وفتكًا: العراق شاهد وشهيد، والسودان مهدّد بالأسوأ وكذلك اليمن ولبنان ودول أو دويلات عديدة أخرى لا ضرورة لذكرها...: لا بدّ من تجديد وتحديد وإطلاق مشروع النهوض التحرّري بالمعنى الواسع والشامل للكلمة! وهو بالضرورة، مشروع تحرّري وديموقراطي وإنساني... في الوقت نفسه!
* كاتب وسياسي لبناني