"أنصح هؤلاء المرتزقة. ليس أمامهم سوى أمرين: القتل والتدمير أو التسليم، في أيّ مكان تأتي اليه قوات التحالف".
قائد القوات السعودية في اليمن العقيد عبد الله السهيان ــــ 3 تشرين الأول 2015 على قناة "العربية"

الذين أيّدوا العدوان السعودي على اليمن، و"استبشروا" به وراهنوا عليه، كانوا في حاجة، فقط، لمراجعة الحرب على صعدة قبله بأعوام قليلة، ليفهموا أنّهم مقبلون على معركةٍ أخرى من تلك التي صارت "اختصاصاً" لسلالات الخليج وحلفائهم: حربٌ بلا قضية أخلاقية وهي فاشلة وكارثية في الآن ذاته. حربٌ تلطّخ الروح وتكسر الظّهر ــــ كمن باع دينه لأجل دنياه، فخسر العالمين. المسألة لم تكن بحاجةٍ الى صفاءٍ أخلاقي أو وعي سياسي فائق، أو فهم "استراتيجي" للصراع ومعناه، بل لبعض المنطق لا أكثر؛ وهذا ينطبق على العرب ــــ المصفّقين والصامتين ــــ كما ينطبق على اليمنيين الذين استقووا بأردأ أصناف الغزاة، وصاروا يهددون، بسلاح غيرهم وغاراته، خصومهم الذين سبق وأن هزموهم بسهولة لدى كلّ منعطف (هم أنفسهم الذين كانوا، على مدى أشهر، يتحدّون "أنصار الله"، بثقةٍ وشراسة، أن يصلوا عمران، ثم صنعاء، ثم تعز، وهكذا دواليك).
كما في نهاية حرب صعدة، دخل وقف اطلاق النّار (المؤقّت) في اليمن حيّز التنفيذ وقد قال كلّ طرفٍ كلمته الأخيرة على طريقته: ضربت السعودية ميناءً للصيادين قرب الحديدة وارتكبت مجزرة جديدة في حرض، فيما وجّه اليمنيّون ضربةً بصاروخ "توشكا" روسي قتلت قيادات الغزو ورؤوسه، وأبادت ما يقارب كتيبة مشاة بمعدّاتها، بينهم جنود سعوديون واماراتيون ومغربيّون، ومرتزقة أجانب من الذين احترفوا القتال في بلادنا لحساب من يدفع، كما تصرّ تقارير على أن قياديّاً كبيراً في "داعش" ــــ أبو عبيدة الكازمي ــــ كان موجوداً في المكان وقد قُتل (الخليجيون لن يقولوا الحقيقة، والتقارير الأجنبية تنقل تقديرات عن أكثر من 150 جندياً قتيلاً، وقد اعترف السعوديون والاماراتيون بمقتل أرفع ثلاثة ضباط لديهم في اليمن، ويمكننا أن نفترض أنّهم لم يكونوا وحدهم على تلٍّ في الصحراء، فسقط عليهم الصاروخ بالصدفة).
في الحرب، تقليدياً، يستخدم الطرف المتقدّم تكنولوجياً تفوّقه لكي يضرب أهدافاً عسكرية مؤثرة لدى الخصم، ويكسره في الميدان ويفرض ارادته على الأرض. أمّا الطرف الضعيف، فهو يميل لاستخدام الصواريخ القليلة والمتخلّفة في حوزته في ضربات "ارهابية" ضدّ مدن العدو وشعبه بغية إعطائها القدر الأكبر من التأثير، طالما أنها لن تقلب الأمور في ساحة الحرب (لهذا السبب، كان صاروخ "سكود" ــــ القديم والذي تعوزه الدقّة ـــــ يستخدم غالباً في الحروب في هجماتٍ ضد التجمعات السكانية والعواصم، وليس ضدّ أهداف على الجبهة). المدهش في اليمن أنّ العكس تماماً هو ما يحصل، اذ يستخدم السعوديون طائرات "اف ــــ 15" والذخائر الدقيقة التوجيه لقصف موانىء الصيادين والمدن التاريخية، فيما يُخرج اليمنيون صواريخ سوفياتية، بعضها اليوم معروضٌ في متاحف، لتنفيذ ضربات عسكرية دقيقة، كأنها خرجت من الأدبيات النظرية والروايات الحربية، وتصل في حالة توشكا باب المندب الى النموذج الأمثل لضربة "قطع رأس القيادة".
بل أن بعض العسكريين قد لاحظوا أنّ اليمنيين يستخدمون هذه الصواريخ البالستية ــــ للمرة الأولى في تاريخها ــــ تماماً كما تخيّلها مصمموها السوفيات. نظامٌ تكتيكي كـ "توشكا" (تُلفظ بالروسية "توتشكا" ولكنّها درجت في بلادنا على غير ذلك)، وقبله "سكود"، كان من المفترض أن يوزّع على مستوى قيادات الفرق والألوية في سلاح البرّ، حتى تتمكن غرف العمليات من استغلال المعلومات الاستخبارية وتوجيه ضربات فورية ضد أهدافٍ "عالية القيمة"، بمعدّاتها الذاتية، بدلاً من طلب سلاح الجو والتنسيق معه.
الّا أن المسألة هنا تتطلّب تضافر عاملين: براعة اليمنيين وفشلٌ أسطوريّ من جانب خصومهم (هل تذكرون أن صواريخ اليمن البالستية، وفقاً لقيادة "التحالف"، قد تمّ تدميرها بالكامل مع بدء العدوان؟). هكذا ضربات لا تحدث ببساطةٍ وفي كلّ يوم، وسلسلة الأخطاء التي عليك ارتكابها حتّى تحلّ بك كارثة من هذا المستوى هي أطول من أن تُسرد: من تقديم هدفٍ بهذه الأهمية لعدوّك، وتجميعه في مكانٍ واحد، وتسريب المعلومات عنه (بما في ذلك زمن اجتماع الضباط)، وصولاً الى إحاطة قادتك وجنودك بمخازن هائلة من الذخيرة والوقود. الاستثنائي فعلاً هو أنّ ما يشبه هذه الضربة، بتمام تفاصيلها، قد وقع قبل أشهرٍ في صافر: أن تحصل هكذا كارثة مرّةً، فهذا قد يُعزى الى "رمية حظّ" أو تآلب استثنائي للظروف، ولكن أن تتكرّر مرتين، فهو ما يستحقّ دخول كرّاسات التاريخ.
حتّى لا يتوهم أحدٌ، فإن اليمنيّين قادرون، تماماً كالسعوديين، على ضرب مدنيي خصمهم وارتكاب مجازر في المدن السعودية، وصواريخهم تطال مدناً كبرى في الجنوب (وبعضها في مرمى الكاتيوشا والصواريخ الخفيفة)، ولكنهم يختارون، بدلاً من ذلك، ضرب المطارات العسكرية ومنشآت الدولة والمعسكرات. وبينما يقدّم اليمنيّون ــــ من قلب مأساتهم ــــ دروساً ونموذجاً للضعيف المنتفض في كلّ العالم، يساعدنا آل سعود، بكل ما أوتوا من جهد وموهبة، على ايصال عهدهم وزمانهم في المنطقة الى نهايته، وباب المندب يشهد.